ثقافة المقال
توفيق ..شعاع الفعل المبدع

عبد المنعم همت*
يقول ابن سينا : الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية . فالحكمة المتعلقة بالأمور التي لنا أن نعلمها وليس لنا أن نعمل بها ,تسمى حكمة نظرية . والحكمة المتعلقة بالأمور العملية التي لنا أن نعلمها ونعمل بها تسمى حكمة عملية . وكل واحد من هاتين الحكمتين تنحصر في أقسام ثلاثة , فأقسام الحكمة العملية حكمة مدنية وحكمة منزلية وحكمة خلقية .
الحكمة المدنية توضح حجم المشاركة التي تكون فيما بين الاشخاص ليتعاونوا من أجل الإنسان . والحكمة المنزلية تنحصر في دور الفرد في منزله وادارة شؤون اسرته . أما الحكمة الخلقية , فهي تعلم الفضائل لتزكية النفس .
ولد توفيق محمد همت من رحم الحكمة , فبحث عن كمال النفس بين النخيل , والنيل , وحكايات الفرح الجميل . تدرج في مسالك الارتقاء فبدأ بنقل ثقافته النوبية من جزيرة بدين , التي تعد أول مكان نشأت فيه حضارة على الأرض , إلى وسط السودان , إلى كوستي المدينة التي لا تعرف التمييز إلا بالعطاء . تعلم توفيق – فطرياً – الحكمة النظرية وهي الحركة والتغير . وظف طاقته العقلية والجسدية لترسيخ أن الخير والأخلاق معيارية , بمعنى أنها ثابته , فالخير له وجوه متعددة ويصب في سعادة الإنسان . بهذا الوعي الفطري بدأ في تشجيع الناس , مساهماً في تنسيق الوعي الجمعي والدفع به نحو كمالاته المنشودة , فالحكمة المدنية ظلت حاضرة عنده كضوء أبيض يزداد توهجاً , تتسع رقعته عند كل ظلام مادي ومعنوي . تجده متفقداً أحوال الناس صباح مساء , حاضراً حضوراً نوعياً في كل مناسبة اجتماعية , فاعلاً في جزئيات هذه المناسبات .. لا ينقطع عن مد يد العون للناس , كنت أسمع همسه مع والدي رحمهم الله جميعا في التخطيط والتنفيذ للوقوف مع المحتاج مادياً ومعنوياً , يعمل ذلك دون رياء , فالحكمة الغريزية حتمة عليه أن يكون عوناً وسنداً ..استفاد من مخزونه المعرفي ليطوع الواقع بالسخرية النبيلة والضحكة الصافية .
إنتقل طوعاً إلى خدمة بيت الله ( جامع شيخ عمر ) , متفقدأ تفاصيله .. النظافة , الإضاءة , المفارش , الماء ..يتفقد من حضر ومن لم يحضر مستصحباً قول عطاء بن ابي رباح : تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث , فان كانوا مرضى فعودوهم , أو مشاغيل فاعينوهم , او نسوا فذكروهم . إختار لنفسه أن يأتي يوم القيامة أطول عنقاً . إختار أن يٌدخل إلى قلوب الناس البهجة , وصوت النداء .. إختار أن يكون ( مؤتمن ) .
ابن سينا صنف الحكمة , وعرٌفها , بينما استوعبها توفيق , الرجل القامة , مركز الشعاع للفعل المبدع , والترقي الأخلاقي .. فأمثال هؤلاء لا ننعيهم , لأننا نجدهم كعلاقة لا فكاك منها مع الخير , والصدق , والجمال .. لا ننعيهم ولكن نفتقدهم عند انتصاف الأزمات .
كان عمي توفيق يعرف ما قاله الفيتوري :
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسر من لم يأخذ منها
ما تعطيه على استحياء
والغافل من ظن الاشياء
هي الاشياء
* كاتب أكاديمي سوداني مقيم في سلطنة عمان