المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

بنية الإضمار في رواية “لخضر” لياسمينة صالح

بقلم: عبد الحفيظ بن جلولي*

مدخل: تتأسّس السّردية الجزائرية على ثابت مداومة استلهام الاجتماعي لنسج شبكة الحدث، وهو ما دأبت عليه الرّواية منذ جيل التأسيس على الأقل، من خلال روايتي \”ريح الجنوب\” لبن هدوقة و\”الزّلزال\” للطاهر وطار، مرورا \”بزمن النمرود\” للحبيب السايح و\”حمائم الشّفق\” للجيلالي خلاص و\”نوّار اللوز\” لواسيني لعرج وصولا الى \”ذاكرة الجسد\” لأحلام مستغانمي\”. والاتّكاء على الاجتماعي يتأسّس كمعبر للوصول الى السياسي، بطريقة يتجذّر فيها النص الرّوائي الجزائري في سردية طالعة من عمق المكان لتتعالق مع اشيائه في تسريباتها الخفية الى الذات، فيغدو الصوت السردي وكأنّه يحفر في الوعي لشدّة ارتباطه بالمكان وعناصره في تفاعل منتج لحركة واعية، تنحت معناها السوسيولوجي القادر على افتكاك ملامح جوهرية للفعل الإبداعي الجزائري ضمن بانورامية الرّواية العربية والعالمية،…
ولعل النّقد في متابعاته الإشتغالية على النص الجزائري الحديث، يكون قد استبان الملامح التي كرّست خصوصية الرّواية الجزائرية على الأقل بالنسبة لمنحاها الاجتماعي الدال على السياسي، والذي قد يعود في نشوئه الى اقتراب الأنوات الكاتبة من قيمية الأرض، كعنصر يستأثر بالوعي من حيث انفقاده المأساوي من خلال الظاهرة الاستعمارية.

تندرج رواية \”لخضر\” لياسمينة صالح ضمن هذا المنحي القرائي للمشهد الروائي الجزائري، ليس في كليته الانتاجية، ولكن في أغلبية اندفاقاته التيماتية، إلا ان عنصر العنف اضاف بعدا حنينيا الى ترتيب عناصر الحكي وفق اواليات الاجتماعي والسياسي والالتصاق بالأرض، الذي يعوّض الإحساس المستمر بالخوف من فقدانها، ويضاف عنصر العنف التسعيني الى أدوات الكشف عن مركّب الاشتغال على الاجتماعي، كونه أي العنف، عرَّض المجتمع بمكوّناته السوسيوـ سياسية والجغرافية والبشرية الى خطر الزّوال. وعند موضوعة الزوال، ترتّب السّردية وفق عناصر الحدث حكائية ظاهرة تضمر متخفيا سرديا، ينقرئ عند حافة وعي تأويلي لا يقف عند الظاهر المستقر وفق حركة منتظمة، بل يروم قراءة العلامات على اساس ان النص \”حقل منفتح يشارك في تكاثر العلامة\” كما يرى هيو سلفرمان، وهو ما يعود بالحدث الى مصادره النّابعة من اعماق الناص القلقة والمستباحة في فضاءات التستر والإضمار.

دلالة العنوان/ قصديات الاحتمال:

تتجلى مقصديات اختيار اسم الشخصية البؤرية كعنوان للرّواية في دلالته الإحالية على اللون الأخضر المفعم بالحياة، وفي دلالته التحرّرية والسّيادية حيث يعتبر أحد الوان العلم الوطني لموطن الناصة، وتتكثّف دلالته السّردية من خلال مسار الشخصية البؤرية، التي رسم لها السّرد خطّاطة حدثية تؤول الى مركز قوة مهيمن، لون اللباس فيه اخضر، حيث تتطابق الدلالة المادية والمعنوية لانتاج دلالة ايحائية يعكسها المركز السيادي للعلم الوطني، حيث لا يمكن ان يُنكَّس العلم الا للضرورة، وهويته أي العلم، تتعرّف في مجال رفعه وكذلك كان مسار لخصر.

تفكيك العلائق/ بنية الإنقاذ:

تكشف رواية \”لخضر\” العلاقة ما بين مكوّنات المجتمع الطبيعية والطارئة، إذ تُفكك العلاقة ما بين السّلطة كقوة هيمنة تبحث عن عناصر ديمومتها، والمجتمع الصّائر نحو الوعي سواء المزيّف، كما في حالة الشخصية البؤرية \”لخضر\”، الذي تضيع ملامح وجوديته في خضم نضاله المضني لتحقيق هوية وجودية لا تكاد تستقر على قناعة بانوجادها الشخصاني داخل جغرافيا الواقع بسبب تسلقها الانتهازي لسلم الوجودانية الاجتماعية، أو الوعي المناضل الساعي روائيا الى ترتيب احداثيات سعيه المعيشي، كما في حالة عائلة لخضر العابرة عبورها الخفيف لمساحة السرد المتاحة للكشف عن توالد الزيف والوجود الكاذب للذوات السوسيو سياسية.

وترتب الرّواية بين مستويي السلطة والمجتمع عنصر العنف الذي يؤثر سلبا في كلتا البنيتين السابقتين، الا أنه يُعتبر الدافع الأقوى الى تحرير الوعي من زيف الانوجاد المخاتل للكينونة، وبالتالي تتأسّس حدثية تطوّر شخصية لخضر من الحمّال الى الجنرال ضمن هذا الإحساس بمقاومة عناصر المساس بالفضاء الاجتماعي، ولعل دلالية الجنرال كعسكري توفر استذهان مفهوم الحمائية والقوة الضامنة لاستمرار مسار الحركة الوجودية كعنصر مضاد في بنيته الانطولوجية لبنية العنف الإرهابي المدمّر. قد تفاجئنا الرّواية من حيث بناء الشخصية البؤرية التي تجتاز مراحل تكوينها حارقة المنطق المعتاد، الا أن البحث في خلفيات انتاج النص يقود الى مقصدية الناصة المحتملة في سردنة عناصر انقاذية للهوية المجتمعية المهدّدة.

بنية الحكي/ عودة الوعي:

تنغمس الكتابة في رواية \”لخضر\” في طروحات مُتقنة، تتشكل وفق منهجية معمارية تعود بالبناء الرّوائي الى أصالة جذوره الطامحة دوما الى انتاج البديل، الذي يتجاوز الإمكانات التعبيرية الكلاسيكية من منطلقات واعية بالتطور الهائل الذي تتسلقه بنية الرواية، ولعل الرّوائية اجتازت برؤيتها الابداعية اروقة الرواية الجديدة كما أسس لها آلان روب غرييه وميشال بيتور ونتالي ساروت، وأعادت تلك الحميمية التي تمتلك ألق الحدث وحركته خارج اطر النمطية المستعادة، التي تمتح من ثابت واحد تشتغل عليه لتنتصر لمنحنيات التغيير، فالفصل الأول والثاني يتأسّسان على ترتيب مفاصل الحدث وفق ارتجاع الى الخلف ليبدأ الحكاية من البداية، ولعل تنصيص المناخ الذي يحيط بشخصية الجنرال بل ترتيب شخصية الجنرال ضمن بؤرية الفواعل أي مركزيته، وابتعاثه من عمقه النّفسي ثم الانتقال في الفصل الثاني الى شخصية ثانوية تختلف في المركز والذات عن الشخصية الأولى، يكشف عن وعي عميق باواليات التحليل النّفسي والتواصل مع منتج النص الحداثي، بعد هذين الفصلين تنتقل الرّوائية الى تنمية الحدث برويّة انتاجية امهلته كل الوقت في سبيل ان يتطور بسلاسة لينتج توائما قلقا مع افق التلقي، حيث تُكسّر توقعه بتسلم لخضر زمام الأمر، وهو ما لم يُخِل بطول الرّواية بل على العكس منحها قوة ترويض أفق انتظار القارئ.

دلالة العنوان/ تشظي القراءة:

يكشف العنوان ذو الطيفية المتعدّدة التي لا تكاد ترسو له على قراءة محدّدة، على مقصدية الناصة في خلق حالة قلق لدى القارئ، لتنبيهه الى مفاصل ذات اهمية في الرّواية، ولعل القراءة قد تجد في اللون الأخضر الذي يجمع بين اسم الشخصية البؤرية ولون لباسها العسكري الذي آلت اليه بعد تطوّر الحدث، بعض الإندماج في توافق بنية الأيلولة المتعالية للذات الاخضرية والأمل الذي يعكسه اللون الأخضر، الذي يصبح لون الطبيعة وحقل الوعي السياسي والسيادة بالنسبة لوطن الناصة، ومن خلال حقلي الدلالة السياسية والطبيعية يمنح العنوان امكانية للغوص عميقا في ترتيبات رمزيته، فالصراع الذي خاضته الشخصية البؤرية رغم ما يكتنفه من سلبيات، الا انه يتشرع على انفتاحات الوعي الضامر والذي احال عليه النص في الجملتين:

\”قال وهو يصوّب نظرته الى النافذة\” ـــ 1

\”أحب السجاد كثيرا\” ـــــــــــ2

تقع الجملتين في الفصل الأول، ولعل التوجه نحو النّافذة في الجملة الأولى يفتح الأفق الدلالي على الأفق الواقعي المتاح في شساعة الفضاء والتفاعل مع عناصره كالسماء والنجوم وحتى الغيم تصبح له جماليته كمصدر للمطر.

أما الجملة الثانية فالسجاد يمثل هدية ايرانية، ولونه أخضر، والهديّة في حد ذاتها قيمة جمالية تنضاف الى جمالية السجاد كقطعة فنية تدار عملية انتاجها بمهارات فنية عالية، ضمن معطيات مجتمع معيّن ينتمي الى حضارة عريقة تحمل ثقافة ذات خصوصية، وبالتالي يصبح اللون الأخضر حاملا لدلالات أعمق من مجرد دلالة اللون أو الإسم.

انطلاقا من رمزية العنوان \”لخضر\”، فإن الدلالة المنتَجة تترتب عكسيا على ما يرتّبه سطح الانتاجية النصية بمفهوم جوليا كريستيفا، فالجنرال انطلاقا من دلالية اللون الأخضر يتجاوز ظاهر السلطة الى رمزية اللون الأخضر الذي تتداخل فيه مستويات متعددة للدلالة، حيث يؤول به المعنى الى التعالي والسمو على أساس انّه يمثل اعلى درجة في هرمية التسلسل الترقوي في المؤسسة العسكرية، متجاوزا بذلك ظاهر المعنى في الرواية القائم على مناحي عدة من السلبية، الى ترتيب تصاعدي يُستشف من تطور الحدث وفق سلم انتقالي، من أدنى الدرجات الوظيفية الى أعلاها. والتأويل من هذه الناحية يتصدى للقراءة الأولى السطحية منتجا دلالته من خلال العلامات القائمة في النص، فخلفية السكرتير الفنية والتي رصدتها الرّواية في الفصل الثاني، جاءت لتؤدي مفهوم الأمل القائم منذ عنوان الرّواية، فالحفر النّفسي في الشخصيات يستولي على التلقي وينّبهه ان استطاع هذا التلقي ان ينفلت من أسر القراءة الأولى الموجِّهة ويتساوق مع ما يسمّيه رولان بارث \”اللعب\” الذي يعني اعادة القراءة والتي ليست استهلاكا، فالشخصية تتصرف انطلاقا من جوهرها، وهو ما تحيل عليه المراجعات النّفسية العميقة للشخصية البؤرية \”لخضر\”، ولعل ذلك هو ما فرض على الناصة ان تُصدِّر الرّواية بما آل اليه الموقف الرّوائي ثم تستعيد الحدث منذ البداية.

سلطة العتبات / تكامل البداية والنهاية:

تتعدّد مستويات العنوان من حيث تلقيه من الطبيعي الى الوطني الى الإديولوجي الى النّفسي، ويتعالق كعتبة مع العتبات الداخلية (الإهداء) والمتن الذي يشكل نقديا امتدادا منطقيا له.

تتمثل إبداعية الرّواية في التكامل الذي يربط البداية بالنّهاية الروائيتين:

\”كان يريد ان يتحرّر من عقد البداية..\”

تأتي النهاية الرّوائية وكأنّها تتمّة لهذه البداية:

\”.. وألاّ شيء يهمّ بعدئذ..\”

هذا التكامل ما بين البداية والنهاية يفتح المعنى على الأمل الذي تُنصِّصه عتبة الإهداء:

\”إلى الأمل..\”

ممّا يجعل النص مفتوحا على الأمل، اي أن المسار السردي ينتج اوالياته الحدثية المبنية في مجالية الأمل، وذلك لتوفر القرائن السردية التي تكرّس الإحتمال الممكن في ترتيب قصديات الناصة رغم انها صعبة الإدراك.

\”.. وألا شيء يهم بعدئذ..\”

تفيد هذه الوحدة السردية معنى الإنطلاق الذي لا يعبأ بالعوائق، كما انّها ترسم اتجاها لا التفاتيا، كونها تُسهِّم الحركة صوب الأمام، وهو ما يكرّس قرءاتيا موضوعة الأمل.

*كاتب وناقد وأكاديمي جزائري