المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

الروائي جوزيف كيسيل في سوريا: حكايات رحلة سنوات العشرينات (5 /5)

ترجمة : سعيد بوخليط

مقدمة المترجِم:
\”من يفسر لماذا نُقتل ومن يقتل؟. في الحقيقة، إذا كان من عذر لافتقاد المعلومة،فبوسعنا البحث عنها ضمن التعقيد المرعب الذي يسود سوريا\’\’،هذه الجملة المكثفة والمركزة جدا،قدر استشرافها البعيد المدى،انطوت عليها إحدى فقرات كتاب جوزيف كيسيل،الذي يعود تاريخه إلى أواسط سنوات العشرينات.
المفارقة المدهشة،رغم قدم المسافة بعقود طويلة،فبالتأكيد،عبارة لازالت تنطبق حتى اليوم، ربما تمام الانطباق،بدون مبالغة،على ماتعانيه سوريا : تبلور أعتى مستويات اللا-معقولية،التي يعجز أي ذهن بشري عن تمثلها.إذن :لما تعاني سوريا ما تكابده؟ لماذا يقتل الناس هناك؟ من القاتل؟ثم أساسا وقبل كل شيء ما دواعي ومبررات القتل؟حتما ،العبقري كيسيل استبق غفلتنا جميعا.
جوزيف كيسيل J .Kessel ،الكاتب الفرنسي المزداد في الأرجنتين. هو الواحد المتعدد،ثم المتعدد الذي وجد ضالته في الواحد :الروائي طبعا،الرحالة،المغامر،الصحفي،الطيار الذي شارك إلى جانب السلاح الجوي خلال الحرب العالمية الثانية،ثم المتخصص في الريبورتاجات.
أغنى التراث الإنساني، بمنجز فكري هائل،قارب سبعين رواية،إضافة إلى دراسات مختلفة تهم مجالات إبداعية متعددة.مع كل ذلك،لازال حتى الآن،فقط عنوان رئيسي أشار ويحيل باستمرار على كيسيل،مقارنة مع باقي كتاباته.
يتعلق الأمر بروايته \’\’الأسد \’\'(1958)التي دارت أحداثها في منتزه ملكي بكينيا،وتروي تفاصيل علاقة جد مدهشة تتجاوز حدود التصور، بين باتريسيا الفتاة الصغيرة ذات العشر سنوات،وأسد.إذن، كلما ذكر اسم جوزيف كيسيل،اتجه التفكير مباشرة نحو تلك الرواية.
بين ثنايا بيبليوغرافية زاخرة ومستفيضة،يندرج كتيب صغير،ربما لم يكن ليثير اهتمامي حقا،لولا انبجاس التراجيدية السورية.نص :في سوريا، الذي كتبه كيسيل سنة 1927،موثقا من خلال فصوله العشرة وقائع ماعاشه أثناء رحلته لسوريا.غير أنه عمل،تجاوز مستوى الانطباعات والارتسامات الشخصية،المنقادة وراء التقاط محايد لمتواليات رحلة عادية،مرتقيا حقيقة غاية التقييم الموضوعي الحاذق لجوانب من سياق المرحلة،المعروفة تاريخيا بالانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان(1920-1946) ،وما انطوى عليه من منزلقات سياسية وجغرافية وثقافية وإثنية وعسكرية،استمرت وامتدت تراكماتها البنيوية حتى الزمن الراهن.
بالتالي،يعتبر مايحدث اليوم في سوريا مجرد نتيجة طبيعية،من نواحي كثيرة،لما أرسته صياغات المرحلة التي يؤرخ لها كتاب كيسيل.
بالتأكيد،كما أقرت مختلف اجتهادات المؤرخين،يصعب عموما استيعاب الحاضر دون إحاطة بالماضي .فالمآلات الجنائزية التي يسرع نحوها العالم العربي، سياسيا وثقافيا ومعه سوريا،تعود بأصولها إلى جرائم المنظومة الاستعمارية في حق عقل وجسد وروح وشعور وطموح شعوب المنطقة.
غير أن ما جسّد بامتياز هذه المعادلة في التحقيق الصحفي ل كيسيل عن سوريا،الذي يعود كما قلت إلى سنة1926 ،وأضفى على خلاصاته سمة كهنوتية تخمينية جعلت فقرات عمله أقرب إلى إشراقات العرَّافين والمتنبئين،كونه استحضر منذئذ رؤى ألغت تقريبا كل هذه المسافة الزمانية الممتدة إلى تسعة عقود،وبدا الراهن كالأمس تماما.
المشهد العام نفسه،ثابت لم يتبدل،فقط تغيرت التفاصيل الصغيرة.تفسير هذه المسألة في غاية البساطة :مبدع بحجم كيسيل،يمتلك ما يكفي من الذكاء والعمق والموسوعية والبصيرة والخبرة الحياتية والحس الإنساني،لا يمكنه حتما سوى أن يكون صاحب حدس مبشر ونذير.
لكن خاصة دافع العشق،والتعلق الحميمي بالموضوع،يجعل الأفكار شفافة وصادقة.كيسيل عاشق لجغرافية مكان رحلته،أي الشرق.شرق،تحسس سلفا أولى عطوره وهو طفل في سن الثامنة على ضفاف الأورال،مترقبا بشغف عبور قوافل بخارى وفارس، يقودها القيرغيزيون :(( أعشق الشرق،هو ليس بعذري الوحيد للرغبة في التكلم عنه،لأني لا أعرفه جيدا.إننا لا نذهب إليه،وينبغي أن يأتي إليكم،مما يقتضي وقتا.والحال،أني قضيت خلال مرتين،مابين ثلاثة إلى أربعة أسابيع،في سوريا. هذا، كل شيء.ثم، ابتغيت أن أعيش التجربة صحفيا،بمعنى قضاء أغلب يومياتي مع جنرالات وموظفين كبار))(ص-10).
لقاءات هنا وهناك، أثمرت بورتريهات رصدها كيسيل، بدقة محترف الكتابة،القابض على زمام الحلقة المفقودة،الفالتة بين الواقع والخيال،بمعنى ثان،التأرجح بين البعد التقريري للغة الصحافة ثم الحس الفني المحلق لأفق الروائي،الأكثر تكثيفا وزخما ورحابة.
سنقف على وجهات نظر،ونتابع بعضا من يوميات شخصية عسكرية ومدنية، تصنع الحدث في المنطقة :الأمير عبد المجيد، القسّ،القائد كولي الصغير،بوشيد، لابان، القائد مولير، مزود، دحّام، الدروز، الشركس.مثلما،أننا سنكتشف منذئذ، الأمكنة التي ندمن حاليا فواجعها كل حين،حد الهستيريا :دمشق، درعة، السويداء، حلب، ديرالزور، تدمر.
سوريا جغرافية في غاية الجمال والثراء والعطاء ،منبع الحضارات.لكن أيضا بنية طائفية وإثنية معقدة،تَعكَّر صفوها زيادة،واستفحل أمرها،بسبب مساوئ إدارة الانتداب الفرنسي وتبعاته،فأضحت جحيما للنعرات عوض أن تكون رحمة للاختلاف،جعلها لبنة للحرب الدموية التي تدور رحاها اليوم.
.يقول كيسيل :((سوريا،مهد الحضارات ومكان العبور المختار منذ الأزل، أثر ثراؤها وجمالها،دون تدخل ،في كثير من الشعوب.هذه الأرض،حيث تنمو بقوة ملتهبة،الاعتقادات الأولى،وكذا الهرطقة،التي تضلل وتخلط.أعترف بتواضع،أني لم أستوعب خلال أولى أيام إقامتي في بيروت، شيئا بخصوص ما يتداول أمامي من أحاديث مصدرها العلويون،الهاشميون،الموارنة،السنة،الشيعة،اليونان الأرثوذوكسيون،الطائفة السورية-الفلسطينية،قطاع الطرق،المتمردون وكذا دروز الجبل ودروز حوران،اللبنانيون والسوريون والدمشقيون،إلخ،فكيف يعترف بعضهم ببعض ؟تضم سوريا،سبعة وعشرين ديانة،تمثل كل واحدة منها قومية،ويلتمس هذا السديم التأثيرات الأكثر تنوعا،روحيا وماديا. مع ذلك،بعد انقضاء أيام قليلة،بدأت أتمكن من قراءة كتاب الطلاسم هذا،الذي يبدو مستعصيا على الفهم.تتبدى الخطوط الكبرى،بلا شك،بالتبسيط لايمكن أن نعرض كل المشهد ،لكنه الوسيلة الوحيدة لكي أفهم وأعبر عن مافهمت؟))(ص-14).
رحل كيسيل نحو سوريا،مفتقدا لأي مرشد نظري،أو مرجعية قبلية،قد ترسم له خريطة طريق :(( سوريا؟ماذا نعرف عنها ؟لنعترف بالأمر،دون كبرياء مزيف :فقط بعض الوقائع التاريخية المبهمة،حول الحروب الصليبية،ثم بعض الصفحات الشهيرة،والأسماء الجميلة لدمشق وتدمر والفرات .ذاك، كل زادي بالنسبة لبلد كبير وخصب،يعيش تحت الانتداب الفرنسي.لكن،من يبين أهمية هذا الانتداب؟ثم بوسعه أن يرسم- اللهم إلا مختصين قليلين- المظهر السياسي لهذا البلد؟من يفسر لماذا نُقتل ومن يقتل؟. في الحقيقة، إذا كان من عذر لافتقاد المعلومة، فبوسعنا البحث عنها ضمن التعقيد المرعب الذي يسود سوريا))(ص-13-14).
لكنه، عندما عاين وخبِر ولامس على أرض الواقع،صحبة الجنود حيثيات المعارك وجوهر الصراعات السياسية،تحول بعمله هذا من مستوى الريبورتاج التسجيلي العادي ،وكذا الرحلة العابرة، إلى التقييم النقدي لنظام الانتداب،وتحميله في الأخير ساسة فرنسا،مسؤولية الأخطاء المرتكبة التي كرسها الزمان وتماهى معها المكان.
سنتابع وقائع رحلة جوزيف كيسيل إلى سوريا، من خلال هذه الحلقات…

القائد المحظور
-لا يفوقه أحد شجاعة…
– وصوابا…
– وتواضعا…
– وإدهاشا…
هي ذات عبارات الثناء التي سمعتها داخل قاعة مطعم الضباط \’\’الشركس\’\’،ما إن يُنطق باسم كولي.ثم، يقطع أحدهم كلام الثاني،وقد أبانوا عن نوع من الحماسة المقدسة، حين حديثهم عنه.التواريخ، الأمكنة، المنجزات،فتتوالى المدائح بغزارة في إطار جلبة، بحيث تساءلت مذهولا، إن تعلق السياق فعلا بالشخص نفسه.
هاهي المراحل الأساسية،التي تستحضرها ذاكرتي،ضمن بقايا تلك الحكايات المتداخلة والحماسية.
قبل ست سنوات تقريبا، قَدِم القائد كولي إلى سوريا، كانت رتبته العسكرية ملازما،وعمره اثنين وعشرين سنة.معرفته باللغة العربية – ينحدر من أصل جزائري- أهلته كي يعيَّن مسؤولا في مصلحة الاستعلامات،على منطقة العلويين.شعب محارب وشرس،يعيش غليانا، وتعتبر ديانتهم الأكثر سرية ،فلا يمكن لأي شخص غريب اختراقها.الملازم كولي،تقريبا بغير جنود، تمكن من إعادة استباب السلام في المنطقة، مرتكزا على تصميمه وإقدامه ثم معرفته الفطرية التي يمتلكها عن القيادة.لقد أحسن صنعا،حين نسج أواصر الصداقة مع أفراد قوم يعشقون الحرب عوض الدخول معهم في مواجهة،النتيجة تخلد حاليا اسمه أغاني الاسماعيليين الحربية.
عُيِّن كولي مسؤولا عن الأمن في ولاية حلب، مشتغلا تحت إمرة، الجنرال بيلوت.لقد سمعت في هذه المدينة،وعلى لسان هذا القائد الكبير،أجمل المدائح في حق مأموره السابق كولي،الذي أدرك كيفية الإمساك بشعب صعب المراس جدا، متلاحم، إضافة إلى التحريض المستمر،الصادر عن الأتراك المتواجدين،بالقرب من الحدود.أيضا، وكما حكي إلي،فقد أرسى اللبنات الأولى لجنود الشركس، واستطاع بواسطة عدد قليل من الجنود، القضاء على كل قطاع الطرق الخطيرين المتربصين بمنطقة حلب.
بعد ذلك،أصبح مصيره مثبتا خلال السنوات التالية، وقد عثر لدى الشركس عن الجنود الذين يناسبونه، مثلما اكتشفوا بدورهم في شخصيته مختلف سمات القائد المتطلعين إليه.هكذا،جاءت عملية نزع السلاح من حوران،واجتياح السويداء،ثم المطاردة الدائمة للصوص المسلحين المتربصين بدمشق.هنا في الغوطة،توجد حديقة هائلة ،تخترقها أودية عميقة،حيث تأتي مياه نبع بردى،الواحة التي شكلت على امتداد سنوات فخا كبيرا،غير أن القائد كولي أبان في هذا الإطار عن كامل حزمه .
هؤلاء الجنود الأشداء، يحطمون كل حاجز،يسددون ويهزمون اللصوص. سندرك، في يوم من الأيام المجهود المضني، الذي يستمرون في بذله، وهم بصدد مواجهة عدو يفوقهم عددا،ينظم صفوفهم ضباط أتراك قدامى. جيش، يتحصن وسط أدغال تمتد إلى قرون. هذا البلد، المناسب أكثر من أي منطقة أخرى، لنصب الكمائن،خبِر القائد كولي مختلف أمكنته. يستبق كل الهجومات،وقد احاط بالمعلومات الاستخبارية على نحو مدهش.يدرك أيضا،كيفية الاقناع عوض المبادرة إلى التعنيف،ويمكننا القول بأنه يحظى باحترام كل المنطقة،سواء فقط بسلطته أو بفضل قيمة الفرقة العسكرية التي رعاها.
إلى أي شيء يستند هذا النفوذ الفريد؟ هل مرد ذلك إحاطته العميقة باللغة العربية، وكذا دراسة صبورة وثاقبة لفكر وعادات البلد، ثم تلك الاستقامة المحترمة دائما عند المشارقة، إذا ترافقت مع الشجاعة؟ شجاعة لايتم الحديث عنها قط، مادامت تعكس ممارسة قائمة،ثم لكون رؤوس جنوده مشحونة بها دائما،دون سلاح آخر غير الكرباج؟ بلا شك، تدخل جل هذه العناصر في الاعتبار، لكن يبرز عنصر وحيد يسودها جميعا، ويفلت من كل تحليل.أقصد هنا إشعاعا سريا، المميز لوجهه كزعيم، الحظ الذي ساعده على النجاة من الموت حيث يبدو أنه يتطلع إليها، ثم حدس العبقري، الذي يمكنه من تحديد الموقف خلال اللحظة المناسبة.
مائة مرة، اختٌبر القائد كولي عن كثب. غير أنه، تخلص باستمرار من الورطة.أيضا، يعتبره أفراد فرقته، مثل شخص محظور ومقدس.
-رجل ينعم ب\’\’البَرَكة\’\’ يقول عنه الشركس، وقد يذهبون لاستعادة حصن صغير، بأيادي مجردة من السلاح، إذا أمرهم بذلك.
ذات يوم، كلف مقاتليه بمهمة إنقاذ كتيبة فرنسية محاصرة، غير أنهم ترددوا أمام خط العدو، جراء انبعاث نيران فتاكة. لحظتها، رمى القائد كولي بقبعته عاليا فوق الخنادق، ثم وثب الشركس بسرعة، كي يسبقوه إلى التقاطها.
مواقف من هذا القبيل، سمعتها كثيرا، لكنها تظل دائما غير كافية لوصف الرجل.تندرج إلى جانب مزاياه،كقائد عسكري، مواهب استثنائية تنظيمية.ذكاء نادر فيما يتعلق بالنفوس والعادات،وتأمل هادئ ثم لطف متعاظم غير مألوف، يجذب نحوه القلوب.
خلال جولة ، في الغوطة على متن سيارة فورد صغيرة نائحة ومترهلة، أدركت رغبة القائد كولي، في أن أتقاسم صحبته ما يجري .تتستر هذه البحيرة الواسعة اخضرارا،على قرى كثيرة.يعرف القائد بدقة ،كل واحد من \’\’مختاريه\’\'(الشيوخ)،ووجهائه. عند وصوله، يسرع الأعداء السابقون جميعا، مفعمين بالاحترام، وكذا استئناس حميمي مع الرجل، الذي عرف جيدا كيف ينتصر،و يبدو حاليا لطيفا وعادلا.
آه! كم رائعة الجولة بين هذه الأشجار التي تثمر أشهى أنواع الفواكه، تحت سماء الشرق الفائقة الوصف، بينما تجري الشمس بسرعة صوب الأفق، رفقة مرشد حارب في هذه الأدغال والأجمات، التي اخترقت هذه الأرض النوستالجية والخصبة، أو روح ساكنتها المنغلقة.
نطوي مسالك مرهقة بين أدغال، منذ أسابيع قليلة فقط، كان الموت يتربص فيها بالشخص مع كل خطوة يخطوها.سيارة واحدة، تحوي داخلها أربعة شركس يوفرون الحماية.يقوم كل واحد من هؤلاء، حسب قول القائد كولي، مقام كتيبة عسكرية.هذا الجالس،بجانب السائق، المدعو بالحاشبي صرع ما يقارب مائة رجل.خلال المعركة،التي أودت بحياة عثمان باي، تناول رشاشا وقتل ستة عشر من جنود المدفعية .كان الحارس الشخصي للقائد.يحكون عنه،بأنه عندما ألقي به في سجن الأتراك، استطاع الهرب مخلفا على طريق فراره جثة خمسة ضباط. أيضا، يضيفون، بأنه رجل ورع، حج إلى مكة.
يبرز وجهه بلونه البني المحمر،عينان لامعتان جدا،وفي غاية الوداعة.في كل القرى، التي توقفت عندها السيارة،كان يتسلى باللعب مع الأطفال.
مساء، تناولت ثانية وجبة مع ضباط شركسيين.في الغد، رحلوا مع أولى ساعات الفجر، نتيجة إشارة تفيد بوجود عصابة عند الطرف الآخر من الغوطة.اقتضى مني الأمر مرافقة القائد كولي في حملته.رأيته يقود أفراد قوته، مثل صياد يرسل كلابه.شاهدت، كيف تنزل حشود جنوده بعجلة، جبال دمشق.ثم، تابعت تجمع كل محاربيه الشرسين حول الرجل الشاب، وهو بصدد توجيههم ويتأملهم بإخلاص غير محدود.
كذلك، فهمت سبب سخط رفاق القائد كولي، جراء الامتناع عن منحه وردة وسام الشرف، غير القابلة بالمطلق كي نخضعها للمساومة سوى مع رجل مالٍ غير مستقيم،أو صاحب خمارة.

ملاحظة
قد نستغرب،أن نلاحظ على امتداد هذه الإشارات المتعلقة بسوريا، تهميشا منهجيا للجانب السياسي لصالح معطى المغامرة والبطولة.صمت،لا يعود مبرره إلى انحياز الكاتب ناحية استحضاره لتلك الحكايات المشوقة، بل تُطرح أسباب أخرى أكثر عمقا.
أولها، كوني وجدت سوريا ضمن سياق الانتظار، بغير توجه واضح.بالتالي، سرعان ما يتغير المندوبون الساميون.فحينما وصلت بيروت منذ ستة أشهر،كان السيد هنري دو جوفنيل، مكلفا بقضية الانتداب، ثم أعقبه الجنرال ساراي.ومنذ أيام،قبل قدومي تولى السيد جورج بونسو.ثم أشرف أمين عام،على الفترة الشاغرة.
أن يكون هذه اللغط مشؤوما ، فمن البديهي جدا التوقف عنده. ويصبح فظا حينما يظهر الانتقال إلى مصر وفلسطين والأردن،استمرار وثبات الأساليب الانجليزية.نريد أن نخلق لدى السوريين الانطباع بعدم الاستقرار والتغير،ونظهر إلى العالم العجز، بمواصلتنا لمجهود، يخلق الاشمئزاز لدى الساكنة من نظامنا الانتدابي، باختصار، نريد أن نخسر سوريا، إذا لم نشرف على شؤونها بطريقة مغايرة.
يتكرس هذا الانطباع بعدم الاستقرار، في نظر أهل البلد، انطلاقا من الشعور بعدم امتلاك فرنسا، لأي شيء في سوريا.اللهم، قصر العظم، ومتحف الفن الإسلامي،الذي اشتري بفضل الدعاوي الملحة لمديره الرائع السيد أوستاش دو لوري، غير أن النار أكلت نصفه أثناء التمرد الذي عرفته دمشق. الخلاصة ،لا تملك فرنسا مترا مربعا من تلك الأرض. إقامة المندوب السامي، موريس بول ساراي ،حيث تتمركز جميع الإدارات والمكاتب، وكذا بيوت هؤلاء المندوبين على امتداد البلد، كل ذلك مكترى، أو منح مجانا لفترة مؤقتة. إذن، كيف تريد من ساكنة الشرق،الحساسة جدا حيال النجاح، دعم مندوبين يقدمون إحساسا، أنهم ينصبون خيامهم، كي يغادروا عما قريب ؟.
أيضا- لذلك لم أتعرض للسياسة إلا في الفصل الأخير- يظهر بعض قضاء فترة في سوريا، أن كل النظم غير مجدية بالنسبة للبلد، وبوسعها جميعا التماسك على قدر من المبررات الجيدة والسيئة.هناك، أسلوب الانفصال والاتحاد والوحدة ،ثم الليبرالية والاستبداد.يمكن أيضا، التطلع إلى مَلِكٍ وبرلمان،وسيكون من السهل تهيئ صفحة ترصد هذه التعاقبات.لا يوجد بلد، أكثر تعقيدا وصعوبة وتمردا بالفطرة، من سوريا.
لكن يجب فعلا إدراك أمر، مفاده أنه مهما جاء الحل الذي سنتبناه، فلا قيمة له إذا لم يتم تفعيله من خلال الركيزتين، اللتين تشتغلان في الشرق: السلطة والمجاملة.أقصد بالسلطة القوة والمال، ثم بالمجاملة مراعاة التقاليد والعادات وكذا عدل مختصر، لكن يتسم بالنزاهة.
بسبب الضعف المترتب عن المجاملة حدثت ثورة جبل الدروز، ولأننا اكتفينا بالحزم السلطوي، دام التمرد في محيط دمشق- ينبغي أن نفهم كيفية تطبيق ذلك في المجتمعات القوميات ثم في جهات أخرى- ولثلاث مرات أصدرت الحكومة الفرنسية عفوا شاملا في حق المتمردين الذين أذعنوا بداية، ثم\”عند أول فرصة\’\’ ثاروا واتسع مدى عصيانهم.
من أجل تطبيق هذه المزايا الأساسية، لاقيمة لصياغات الفكر في بعدها الأكثر اكتمالا .بل يلزمنا أشخاصا، يتصفون بالإقدام، أقوياء ومستقيمين على نحو طبيعي.أشخاص، تلقوا تكوينهم في مدرسة الشرق.تعتبر سلامة، نظامنا الانتدابي في سوريا، قضية أفراد.
توصلت إلى هذه الخلاصة بعد حوارات طويلة مع شخصيات تنتمي لمختلف الأحزاب والديانات،عسكريين ومدنيين، لاسيما السيد بول سوشيي، رئيس المكتب المدني للسيد هنري دو جوفنيل، بحيث ساعدني ذكاؤه المتوقد على أن أتبيَّن جيدا مجموعة قضايا، ثم مع الجنرال بيلوت، هذا العسكري الكبير والمنظم الرائد، الذي توخى بصدق في مكتبه بحلب، أن يناقش معي كل الأسئلة، خلال ساعتين.
هذا ما يبدو لي ،أنه يثبت ميزة الصفحات السابقة.إذا، كان نصف إخفاقنا في سوريا،أمرا واقعا، للأسف !فلأننا،نجهل كليا نجاح الفرديات القوية.آلاف البدويين، ينحنون حين سماعهم اسم القائد مولر، في المقابل فقط مائة الفرنسيين يعرفونه؟ القائد كولي، صاحب الحياة الملحمية، يمسك بيده العصبية كل منطقة دمشق، بينما تساومه جل مكاتب شارع سان- دومنيك، على وسام !
لماذا! لأنه لازال شابا.
ثم هاهي الكلمة الكبيرة المهملة. إذا كان الانتداب الفرنسي على سوريا، لازال مستمرا، فبفضل بعض الشباب.علاوة على الذين أشرت إليهم، هناك آخرون برتب ملازم أول، يقبعون في أمكنة تائهة ولعينة جدا، وسط صحراء على امتداد الفرات،استطاعوا فرض السلام على امتداد مناطق واسعة،انطلاقا من حظوتهم وحذقهم وشجاعتهم.هناك طيارون يزرعون الخوف، يسيطرون على المواقع ،لكنهم يكشفون جميعا عن تذمرهم، نحو قادتهم الشيوخ وقد بلغوا سنا متقدما جدا.
لا الرتب العسكرية ،أو الجياد البيض،من سيضمن كمال العضلات، بل يتأتى الانتصار من حسم القرارات ثم الحب المتبصر بالمجازفة.
إشكالية، تتجاوز إطار سوريا، لأنه إذا أخفقت فرنسا ذات يوم، فسيكون مرد ذلك إلى عدم ثقتها كفاية في شبابها؟

ملحق : أن نقوم بما يلزم أو نتخلى عن الانتداب

صدرت هذه المقالة،يوم 18 ماي 1926في الجريدة،ولم يضمِّنها جوزيف كيسيل كتابه هذا عن سوريا.
إذن نقاتل في سوريا، ثم سنقاتل.بالتأكيد، قتال لا يماثله في شيء على مستوى الخسائر والمجهود والرهان، الحرب في فرنسا أو في المغرب. حالة عداء، تكلف غاليا من ناحية المال والحياة البشرية،بحيث تزعج البلد وتحول بينه وبين أن يعطي أوج مردوده.
تعيش سوريا، بالتأكيد توترا،وأزمة ثقة نحو الدولة المشرفة على سلطة الانتداب،ثم اندهاشا متهيبا بخصوص كل شيء لم ينظم بعد.
كيف وصلنا إلى هنا؟ وكيف نخرج من هذه الوضعية؟
يقتضي الوضع وقفة طويلة، كي نفسر تراكم الأخطاء الواحدة بعد الأخرى،فانتهى بنا المآل إلى هذا المأزق.كل مندوب سامي منذ الأول وباستثناء ربما الأخير،يتحمل نصيبا من المسؤولية.
لا يوجد رجل عاقل – مهما اختلف انتماؤه الحزبي – لم يقل بأننا أخطأنا في سوريا عندما وسعنا لبنان الكبير إلى حدوده الحالية،فخلقنا بذلك انضمامية إسلامية.لا يوجد رجل راشد،يستعصي عليه إدراك أننا أخطأنا في حق سوريا حينما فرضنا العملة الفرنسية بدل العملة الذهبية،أو كوننا وضعنا عبر أجيال صلبانا في بلد – رغم الاستئناس بالساكنة المسيحية منذ قرون – يضم أغلبية ساحقة من المسلمين.
من جهة ثانية، الاستدلال بحق عن تلك الأخطاء، مهما كانت جسيمة، ينبغي أن ننسبه أقل إلى أشخاص، قياسا لحالة فكرية سادت سواء فرنسا أو بيروت، مصدرها الجهل الذي أشرت إليه منذ مقالتي الأولى، بخصوص كل شيء في المشرق.سأقدم مثالا دالا، يظهر درجات امتداد ذلك:أستحضر هنا الحقبة التي انتخبنا فيها السيد بول ديشانيل رئيسا للجمهورية.مناسبة، لم يفوتها الملك حسين شريف مكة الذي يعود نسبه إلى النبي، وأحد أول شخصيات العالم الإسلامي التي لازالت تحكم الحجاز، كي يبعث بأدب جمٍّ، رسالة برقية تهنئة لديشانيل.
مر أسبوع، ثم أسبوع ثان، دون أن يتلقى الملك حسين جوابا.مما دفعه إلى أن يخبر شخصية فرنسية مرتبطة به.هذا الأخير،أبرق إلى باريس، ثم تلقى الجواب الغريب التالي :((إن شخصا يدعى الحسين من مكة،أرسل بالفعل تهانيه.اشكروه،إذا بدا لكم ذلك مفيدا)).
حينما علمتُ بهذه الواقعة غير المحسوبة، اندهشتُ بشكل أقل وأنا أسمع في بيروت ودمشق، أحاديث من هذا القبيل:(( يوجد عند المسلمين أربع فئات :السادة الكبار،أشخاص ليسوا في حاجة إلى مال أو وظائف، فقط يلتمسون الاحترام ،ثم ذاك النبيل الصغير،الذي أفلس نتيجة الحرب ويتطلع إلى وظائف لكنك لا تسطيع شراءه،ثم الأشخاص الذين يبيعون أنفسهم وأخيرا الطبقات الشعبية، التي يلزم اقتيادها بالعصا.
((لكن ماذا صنع الفرنسيون؟ لقد ضربوا بالعصا السادة الكبار،وأرادوا شراء من لا يريد سوى مناصب،ووهبوا المناصب لمن يطمعون أساسا في المال، ثم داهنوا العامة)).
بكل تأكيد، تبدو هذه الأحاديث مغالية، لكنها سليمة في العمق.لدينا الانطباع باستمرار أن رقصنا في سوريا، لم يكن مناسبا.وكيف بوسعنا التصرف على غير ذلك؟ إننا لا نعتاد على الإحاطة بمعطيات بلد،إلا إذا كنا نعيش داخله.ترتكب أخطاء في البداية،بحيث لايمكن لأي ذكاء تحاشيها.لكن ما إن ينزع مندوب سامي إلى التواصل مع محيطه،ويملك الوقت كي يستوعب المنظومة،وكذا الروح النافذة،حتى يتم تغييره أو يذهب إلى حال سبيله.هذه اللااستمرارية،تجسد أسوأ الكوارث، لأننا بسببها نكرر نفس الأخطاء دوريا.
يقولون في سوريا : ((قدموا لنا رجلا متواضع الذكاء، لكنه يمكث، بدل عشرة أشخاص نوابغ يتناوبون لمدة خمس سنوات)).
بالتالي لا يمكننا أن نتخيل في فرنسا التأثير الذي يحدثه في سوريا مثلا،رحيل السيد دوجوفنيل.خلال أشهر،عرف المندوب الجديد، كيف يحظى بحب واحترام الجميع.بفضل ذكائه المرتفع وحضور البديهة،ثم اللطف الطبيعي لفكره المثقف، ونوعية الأشخاص الذين أحاطهم به، فاستطاعوا النجاح بكيفية مدهشة بين ربوع هذا البلد، الذي يضمر إحساسا خاصا للسلوك المتأدب وكذا التلطف الذهني.
لقد أدرك صعوبات مهمته،ثم اختزلها وفق صيغ مدهشة، فهو بحسب ظني، أحد النادرين الذي ارتقى إلى مستوى حسمها.
لكن ينبغي مساعدته.هنا نصل، إلى المعضلة التراجيدية تقريبا المطروحة بخصوص المسألة السورية والتي تختزل هكذا :إما نقوم بالمجهود الضروري، أو نتخلى عن الانتداب.
يرتكز المجهود الأساسي على المال والرجال.فلماذا استطاع المتمردون الدروز، وعددهم لا يناهز عشرة ألف، إثارة الاضطراب داخل بلد شاسع؟لأنهم يشعرون بعدم رغبة فرنسا أو لا تستطيع بذل قليل من الجهد كي تذهب إلى أقصى حد.لن ندرك أبدا درجة الخطأ المعنوي،الذي دفعنا إلى التخلي عن السويداء بعد الدخول الظافر الذي أنجزه السنة الماضية الجنرال غاملان.ما سبب التخلي ؟الجواب، لم يكن لدينا ما يكفي من الجنود كي نستمر، وخاصة لتموين مركز العمليات.
إن القوى المتواجدة حاليا في سوريا –حسب تصريحات القادة-تعتبر كافية،دون زيادة. بالتالي،سيخلق عدم تعويض وحدة مندحرة بوحدة ثانية، تصدعا خطيرا.
هل يمكننا النجاح بهذا الخصوص؟ هل فرنسا قادرة على النهوض بمجهود من هذا النوع؟ وحدها الحكومة تملك عناصر الإجابة واتخاذ القرار المناسب.
إذن-ينبغي الإقرار بالحقيقة -إذا جاء الجواب سلبيا، فالانتداب محكوم عليه حتما بالفشل، سواء طالت أو قصرت مدته.لقد استنفد أسلوب القطع الصغيرة وقته،أو أنه بغير موضوع.سنواصل الارتجال ،في ظل بلاغات غامضة،قياسا لبلد يريد أن يكون مزدهرا، وبأن حالة الحرب تغذي الركود، واستنزاف بلا جدوى للرجال والمال.
في الغالب الأعم ،ومنذ انطلاق الحرب لم تعرف فرنسا هدفها، صوب هذا الاتجاه أو ذاك.يلزمها،أن لا تبقى في سوريا متأرجحة بين مقعدين.لكن، استعمال الوسائل الضرورية،إذا أردنا أن نضمن لهذا البلد السلام والتنمية- يصير الانتداب مفيدا بالنسبة لنفقاتنا- .
تحتاج سوريا إلى بذل مجهود جبار، أمر يثبته بما يكفي، أنه قد ظهر سلفا مطالبون بوراثة الانتداب الفرنسي.لكني أكرر،من الأفضل لك التخلي عن اللعبة، بدل استنزافك وأنت تلعبها بطريقة سيئة.

*المصدر :
*Joseph Kessel : En Syrie ;Gallimard ;Succession Kessel ;2014.
http://saidboukhlet.com/

1