المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

*اللغة العربية ومراحل تطور الأدب العربي*

عبدالباري الصوفي*

*الأدب العربي في العصر الجاهلي* ..

حينما نتكلم عن مفهوم أو مصطلح ( جاهلي ) لا يعني أننا سنستهِل حديثنا عن الجهلِ والتخلفِ وعدم الاِهتمام بالتعليم أو أنه يعني عدم وُجود ثقافة أدبية أو بذَرات تعليمة في مكامِن ذلك اللفظ كما يتبادر إلى أذهان الكثير من الناس ..
إن هذا المفهوم ليس صحيحاً ، فمُصطلح ( جاهلي) يعودُ إلى ذلك الشخص الذي يكون غليظ الطبَاع فظ القول سريع الغضب ، حتى أن القرآن سطر هذا المصطلح فيما بعد حيث قال : ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) ..
والعصر الجاهلي هو ذلك العصر المُمتد إلى بعثتِ الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والذي تمركَز في تلك القبائلِ المتفرقةِ والمُنتشرة في شبهِ الجزيرةِ العربيةِ والحجاز تحديدًا ..
وعلى الرغم من اِنتشار الأمية كثيرا آنذاك بين أفرادِ القبائل إلا أن تلك القبائل أيضا كانت تمتاز بالحفظِ الشديد والذي ساعدها على الاِحتفاظ بأدبها وثقافتها ونقل ذلك كابرا عن كابرٍ بما يمتلكون من ملَكةِ اللغة وبديهة الحفظ ، لاسيما وأن تلك القبائل لم تكن تمتلك وسائل التوثيق والتدوين والكتابة آنذاك كما كان حاضرًا في معظمِ الحضارات القديمةِ المحيطة بها بسبب اِنزوائهم وتجنبهم نهَم الحروبِ العبثية بين تلك الحضارات والدول القديمة والاِستمرار بحياتهم المعتادة بحثًا عن وسائلِ العيش في الترحال والتنقل ..
ومع أن الأدب العربي كان محصورًا ومنزويًا في مجموعةٍ من القبائل والشعوب المتفرقة في شبه الجزيرة العربية إلا أن اللغة العربية المحضة كانت ظاهرةً حينئذ في أبهى حُللَها لاسيما وأنها كانت تعتلي أعلى درجات الجمال والحصافة والبلاغة فلقد وصلت إلى قمة النضجِ من خلال فصاحة التعبير وسلامة اللفظ وسحر البيان ..
وهذا ما لوحظ جليا من جودة الشعر الذي كان مسيطرًا بل كان له الكلمَة الطُولَى على سائر الحياةِ الثقافيةِ والاِجتماعية آنذاك .. حيث كان الشعر والنثر هما سيدا الأدب ومحور الثقافة الأدبية في ذلك العصر حيث سنوجز عنهما في دراستنا هذه ما يلي :

أولا : *الشعر* ..

في تلك المرحلة الزمنية اُشتهر الشعر كثيرا لاسيما وأنه كان يُعتبر البؤرة الرئيسية في نشر الثقافة العربية والأدب العربي بشكل عام ، والذي كان يُوصَف بأنه كلامٌ موزونٌ مقفى يُصور بهِ الشاعر كل أحاسيسه وعواطفه معتمدا على الوزن والموسيقى والخيال والعاطفة ، لغرض نشر أو تفسير أو إيضاح ثقافة مجتمعية كان يعيشُها أو يتأثرُ بها مدعما ذلك بما يمتلك من بلاغة وصياغة ومتانة كانت تمتلكها اللغة العربية المحضة آنذاك …
حينها كان عامة الناس يَسهُل عليهم تناقل الشعر أو حِفظه ، لاسيما وأنهم كانوا يعيشون تلك اللغة بل ويعتصرونها في لبنهِم منذ النشأة الأولى لحياتهم ، لذا تولدت من تلك الأحداث والمواقف التي كانت تعيشها المجتمعات والقبائل ثقافات وأفكار أدبية متعددة الألوان حيث كان الشعراء يحولونها إلى صياغات شعرية وثقافات أدبية تربعت وترعرعت على صفحات التاريخ والتراث الأدبي فيما بعد كمُميزاتٍ أدبية للعصر الجاهلي والتي تمخضت من حياتهم وأعمالهم وأفكارهم ومُعاناتهم حتى صارت تاريخا أدبيا يُحكى ..

كان من أهم تلك المميزات ما يلي :

*الفخر* ..
كانت القبائل قديماً تمتاز بالشجاعةِ والكرمِ والمروءةِ والصدق والوفاءِ وغيرها .. لهذا وَلدت هذه الأمور ثقافة أدبية عند الشعراء سُميت بثقافة الفخر وهو التفاخر بتلك المكارم والمحاسن حتى أصبحت سِمة أدبية أضِيفت إلى صفحاتهم حتى وقتنا الحاضر ..

*الحماسة* ..
من بين كل تلك الأيام العصيبة وعلى شواطئ كل تلك الصراعات والاِختلافات التي كانت تستمر لعشراتِ السنين برزت أيضا ثقافة أدبية لدى الشعراء في ذلك العصر تُدعى بالحماسة , حينها صار الدور منوطا على الشعراء في فرضِ الحماس وتشجيع أفراد القبيلة في قتالِ وصد العدو آنذاك بما يملكون من أسلوب وبلاغة وإبداع حتى ترسخَت وترعرعت تلك الثقافة ونالت حظها الأكبر في العصور التي أتت فيما بعد ..

*الهجاء*..
ومع كل ذلك الحماس الذي كان يُساهم في اِستمرار تلك الصراعات والحروب بين القبائل لفتراتٍ طويلة تَولدت ثقافة الهجاء بين الشعراء في المجالسِ والمحافلِ غير أنه كان هجاء عفيفا وخاليا من السب والشتم ، بل كان فقط يُعلي من شأن تلك القبيلة أو من ذات الشاعر ليبدو بمنظرٍ أرقى من خصمِهِ حتى تطورت هذه الثقافة وصارت أدبا يُسطر ويُدون فيما بعد أيضا ..

*الغزل* ..
كانت المرأة في ذلك العصر تُعاني من وضعٍ يُرثى له ، حينها وُجد من الشعراءِ من كان يتعرضُ للمرأةِ إما بطريقةٍ مُباشرةٍ في التغزل في جسدها ووصف أنُوثتها وتوصيف محَاسنها أو ما كان عفيفاً منه لاسيما وأنه كان هذا هو الغزل السائد كثيرا في الأدب العربي القديم والذي كان يُحاكي القضايا الاِجتماعية للمرأة آنذاك كالحياءِ والعفةِ والمكانةِ والأخلاقِ وغيرها ومحاولة إنقاذها ورفع مكانتها ..

*الوصف* ..
لم يقتصر الأدب في العصر الجاهلي على القضايا الاِجتماعية المعروفة والمُسطرة في حدودِ الحكم والسيطرة والحرب والمرأة ، وإنما تَجاوزَ الأدبُ حينها الكثير , حيث عبر الشعراء آنذاك عن كل ما كان يُحيطُ بهم كالأشجارِ والأحجارِ والحيوانِ والكونِ والبحارِ والهواءِ والجمالِ والحُب والإحساسِ والعشقِ وغيرها من الأمور والمناظر والمشاهد بطابعٍ حسي وبنظرةٍ صادقة ..

*المدح* ..
ومع كل ذلك التقدم الأدبي والرقي في تطور اللغة وجزَالة مفرداتها إلا أننا لا يمكن أن نتجاهل ذلك التميز الطبقي الذي كان سائدا آنذاك حيث كان العظماء وأرباب السلطان والأُمرَاء وكِبار القوم يمِيلون إلى أن يتغنى الناس بأعمالهم ومناقبهم ومحامدهم ، ليس هذا فحسب بل كانوا يبذُلون ويتنافسُون في إعطاءِ الشعراء ومدهم بالمال الكثير والجود عليهم بوافر النعم ، حتى تَولدت ثقافةٌ أدبيةٌ تُدعى بالمدح ..
عندها صار الشعراء يتنافسون بالمدح والإطراء لتلك الطبقة من العظماء والسلاطين وأرباب الحكم لغرض الحصول على المال ، كما أننا لا يمكن أيضا أن نغُض الطرف عن المدح النبيل لاسيما وأنه كانت هناك مواقف تستدعي ما يسمى بالمدح الصادق النبيل والذي كان يبدو جليا في مواطن الصلح ، غير أن الطابع الأغلب كان ذلك المدح الذي تَولدَ عنهُ تهافُت مُعظم الشعراء إلى قصُور الملوك لمدحِهم بما ليس فيهم بُغية الحصول على المال ..

*الرثاء* ..
عندما شعر الإنسان في ذلك العصر أنه لا يستطيع أن يَكتمَ ما فيه من حزنٍ وألمٍ على فراقِ أو فُقد من يفتقدهُ ، تَولدت عند ذلك ثقافة أدبية نمَت وترعرعت كثيرا في ذلك العصر حيث كانت تُدعى بالرثاء , عندها كان الشعراء ينحُبون موتاهم أو قتلاهم بذكر صفاتهم الحميدة ووصف أعمالهم وبطُولاتهم وكرمهم أدى ذلك إلى تولد تعابير وأحاسيس كانت ممزُوجة باللوعة والعاطفة والصدق والإحساس والجَلَد ..
ومن كل تلك الحروب والصرعات أيضا توَلدت ثقافة أدبية أخرى كانت ممزُوجة بين الحزن والألم والثورة والغضب وطلب الثأر ..

*الاعتذار* ..
عندما تكون القُوةُ فارضة نفسها والبطش هو الحاكم المقدس ، حينها تكون المخَالَفةُ مكلفةٌ جدا .. ومع كل تلك الطبقات والأمرَاء والسلاطين لا بُد من وُجود ظالم ومظلوم وهذا ما كان ظاهرا في الثقافةِ العربيةِ قديما لاسيما وأنه كان من يُخالف السلاطين أو كبارَ القوم فقد اِرتكب جريمة لا تُغتفَر ..
لذا إما أن يُحكم عليه بالنفي أو الحُكم بالغرامات التي لا يستطيع الفرد تحملها ..
عندها تولدت ثقافة أدبية عند الشعراء عُرفت بالاِعتذار حيث يبرُز الشاعر مستخدما كل ما يمتلك من عاطفةِ الخوف والرجاءِ والتلطفِ والشكرِ والتذللِ والاِسترحام وإظهار المودة ليَحظى عندها بالعفو والصفح .
نمت هذه الثقافة الأدبية واعتلت مصطلحاتها وأدواتها قوائم الأدب حتى صار الاِعتذار ثقافة أدبية ليست مع السلاطين وحسب وإنما صارت حتى بين أفراد المجتمع ذاتهم لاسيما عند حصول الأخطاء حيث صار يُعبر عنها سواء بالألفاظ الشعرية الموزونة أو بأدوات الاِعتذار المستحسنة ..

ثانيا : *النثر* ..

مما لا شك فيه أنه كانت تُوجد لغةٌ اِعتيادية تستعمل بين أفراد المجتمع في العصر الجاهلي لغرض التداوُل اليومي والتي لم يكن يظهر فيها متانة في السبك ولا قُوة في التأثير إلى حد كبير ، لذا لم يكن لذلك الأمر أي اِعتبار ولا اِهتمام في مجال الدراسات الأدبية وهذا يعتبرُ شيء من المسلمات ..
إلا أنه كان يُوجد بالمقابل أساليب نثرية متعددة تعتلِيها سمات لغوية غير موزُونة ولكنها منظومةٌ ورصينةُ ، حيث كانت تهتم في نقلِ الثقافات والآداب وأيضا تهتم في شُؤون المجتمع والتي كانت منها ما تعتمدُ على المشافهةِ ومنها ما كانت تعتمدُ على الرواية ومنها ما كانت تعتمد على الحكمة والفطنة والذكاء والذي سنحاول في بحثنا هذا المُرور على أهمها والتي هي كما يلي ..

*الخطابة* ..
حينما كان يَستدعِي الأمر في مخاطبة الناس لغرض الإقناع أو الإمتاع أو جذب الاِنتباه وتحريك المشاعر كان مما لابد فيه توفر ثقافة أدبية تمتاز بتنوع الأسلوب وجودة الإلقاء والبلاغة والإيجاز مع مميزات أخرى في الهيئة والمنظر وجذب الاِنتباه ..
تطورت آنذاك عند العرب القدامى ما تُسمى بالخطابة ، كانت هذه الثقافة الأدبية الهامة تتنوعُ بحسب القضايا الاِجتماعية المعروفة سواء كانت القضايا دينية والتي كانت تظهرُ بمظهرِ الوعظِ والإرشادِ والتدبرِ والتفكرِ أو القضايا السياسية والتي كانت في غاية الأهمية لاسيما وأنها تُستخدم لخدمةِ أغراض الدولة وسيادة القبيلة أو كانت في أغراض الحرب وإثارة الحماس وتأجيج النفوس وشد العزائم أو حتى في قضايا الفصل والحكم .
وهذا ما جعل الخطابة تمتازُ كثيرا وتتنوع أساليبها وجمالها وإبداعها آنذاك حتى تطورت وصارت ثقافة أدبية هامة ومتنوعة الاِستخدام ..

*القصص* ..
مما لا شك فيه أنه في كل عصر له فترات معينه يجتمعُ فيها الناس للهروب من وعثَاء الحياة وصخَبها لنيل الراحة والمُتعة وترويح النفس .
لذا وُجدت في ذلك العصر ما يُعرف بالمجالس الليليةِ والأماسي ومضاربِ خيام القبائل المُتنقلة وما يعرف بمجالسِ أهل القُرى والحضر ..
عندها تولدت ثقافة أدبية بأسلوب نثري مميز وبفن قصصي ممتع يتناول مجموعة من الحوادث أو الوقائع التي كانت تتعلق إما بالشخصياتِ الإنسانية أو غيرها والتي قد تكون واقعية أو خرافية ، غير أن المهم في ذلك هو أن يكون القاص أو السارد للأحداث مُبدعا تزدحِم في رأسهِ الأحداث والشخصيات ليبدو وكأنه يستدعِيها بل ويَنفخُ فيها الروح والذي يجعل السامع حينها حاضرا بذهنهِ وشعورهِ بل وينقلهُ أيضا إلى حياةِ القصة ويُتيح له الاِندماج التام معها ..
ولذا كانت تتعدد مواضيع القصص اِعتمادا على الثقافة التي كان يُريد القاص أن ينشرها أو يهدِف من خلالها إلى التأثير في أوساط المجتمع ، فقد تكون للتسلية وقد تكون لشد الهِمم وقد تكون للوعظِ أو قد تكون لذكرِ بطولات القبيلة والأمجاد التي كانت تعيشها ، أو حتى قد تكون قصص خيالية وخُرافية من حياة القدماء أو من حياة الصحراء أو من قصص الجان لاسيما وأن هذا النوع الأخير من الأدب نشأ مستوحا من الآداب والثقافات المجاورة آنذاك كالأحباش والروم والفرس والهنود ..
عندها كان لابد على القاص أن يوصلَ هدفهُ كون الشعر في هذه الحالة لا يستطيع فعل ذلك لما يملك من خيال جامح وموسيقى ووزن وضبط ..لذا عمدوا على تطوير القصة حتى أصبحت أدبا وثقافة عند العرب تتناقل عبر الأجيال ..

*الأمثال* ..
مما كان يتميزُ بهِ العرب القُدماء أيضا إصابة المعنى وحُسن التشبيهِ وجودة الكناية وقُوة المَبنى والمَعنى وإيجاز الألفاظ .
هذه المميزات أوجدَت فيهم ثقافة أدبية هامة كانت تُدعى بالأمثال حيث كان المثلُ حينها قولٌ محكمُ الصياغة موجَز العبارة بليغُ التعبير قليلُ الألفاظ عميقٌ في المعنَى والمبنَى ..
والجدير بالذكر أن الأمثال كانت تتولد إما من الأحداثِ الواقعية والمعروفة أو منها ما تكون مرتبطةٌ بظاهرةٍ طبيعةٍ أو أثر يدل في كنفهِ على مدلولٍ كوني ملاحظ , وقد تكون تلك الأمثال خيالية توضَع على لسان شيء محسوس ..
تطورت هذه الثقافة الأدبية رُويدا حتى نمت منها الحِكَم أيضا ، والحِكمةُ هي قولٌ موجز مشهور صائب الفكرة رائع التعبير ، يتضمن معنى مسلماً به ، يهدف إلى الخير والصواب حيث كانت الحِكمة أيضا تعبر عن خُلاصة خبرات وتجارب صاحبها ..

يتبع …

 الشاعر والأديب /عبدالباري الصوفي
اليمن – محافظة تعز