المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

عندما تُذبح محاولات الإنسان للتحرر على محراب ثالوث السلطوية

عمر عبدالرؤوف

من المؤسف أنه إذا تم ذكر كلمة “إنسان متحرر” في عالمنا العربي فإن أول ما يتبادر للذهن هما: العري والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج. هذا التسطيح والتشويه والاختزال لمظاهر تحرر الإنسان طمَسَ الوجه الحقيقي للإنسان المتحرر، فالإنسان المتحرر ببساطة هو الإنسان الذي قام بمراجعة كل ما ورثه من ثقافة -بكل أشكالها- وعادات وتقاليد وحدد موقفه منها بالقبول أو بالرفض، هو الإنسان الذي يقرر لنفسه ويتحمل تبعات قرارِه.

هو الإنسان الذي يختار ويفعل ما يناسبه، سواء كان ما يناسبه شعبي ومشهور أو لا. هو الإنسان الذي قام بتكوين تصوراته الخاصة عن الإله وعن الدين وعن الحياة، عن مفاهيم السعادة والنجاح وعن نمط الحياة الذي يناسبه. وأخيرًا، هو الإنسان الذي لا ترغمه أيُّ سلطةٍ على الاقتناع بفكرة ما أو القيام بفعل ما.

تدور أحداثُ الفيلم في مدرسة كاثوليكية داخلية، حيث تلعب المدرسة بأغلبية مدرسيها دور السلطوية الدينية والمدرسية في آنٍ واحد، ومن ثمَّ تُقدم لطلابها أفكارها الدينية والدنيوية على أنها حقائق مطلقة لا سبيل للخروج عنها أو التفكير في غيرها، وتتدخل في كل تفاصيل حياة الطلاب، بالأحرى تُحرك طلاب المدرسة كعرائس الماريونت فكريًّا وفعليًّا.

ولعل اختيار صناع الفيلم للمدرسة الداخلية بدلًا من المدرسة العادية، لتجعلها أشبه بالسجن منها بالمدرسة وتجعل حياة طلابها أشبه بحياة المساجين منها بحياة الطلاب. فلكَ أن تتخيل أنهم لكي يسهروا سويًّا يقرأون شعرًا، كانوا يتسللون من غرفِهم في سرية وخوف؛ كأنهم ذاهبون لارتكاب جريمة، ويذهبون إلى منطقةٍ نائية داخل المدرسة ليختبئوا فيها ليمارسوا فعلًا عاديًّا مثل هذا.

المجد للشيطان.. معبود الرياح
من قال “لا” في وجه من قالوا “نعم”
– أمل دُنقل

وسط هذه البيئة السلطوية كان هناك من يحارب قبحَها، يحاول أن يُنير ظُلمتَها، أن يكسر القيودَ والأغلال التي فُرضت على طلابها. كيتينج مدرس اللغة الإنجليزية أخذ على عاتقِهِ أن يكونَ جِسرًا للطلاب للعبور من ضِيق السلطوية لآفاقِ الحرية.

بدايةً من طريقته في التعامل معهم، فلم يتعامل معهم كباقي المدرسين من منطلق (الذي يعلم) مع (مَنْ لا يعلم)، فهو يدركُ جيدًا أن أحدًا لم يولد على داريةٍ بمجالٍ ما، وأن عملية التحصيل أيًّا كان المجال تحصل بتتابع السنوات، وأن الشخص ذا الخمسين عامًا.. ذا العلم الكبير في مجال ما كان ذاتَ يومٍ دون العشرين من عمرِه لا يعلم شيئًا. يرفض كيتينج أيضًا طريقة التعليم التلقينية، لأنها تُنتِج -من وجهةِ نظرِه- أشخاصًا لا يشبهون أنفسهم، أشخاصًا تم تنميطهم وقَوْلَبتِهِم بالشكل المناسب لثقافة .المجتمع وأعرافِه

’’عيشوا اليومَ يا أولاد واجعلوا حياتَكم رائعةً.‘‘

بهذه الجملة اختتم كيتينج أولَ حصةٍ له مع طلابِه، والتي خرج فيها عن النمط المعهود للحصص الدراسية، وخرج بهم إلى الممر لتكون حصتُه الأولى لهم على شكلِ محادثة، لكسر عجلة الفَوْقية والاستعلاء التي يمارسها المدرسون تجاه طلابهم. يؤكد في بداية حديثه أنه كان -يومًا ما- طالبًا في نفس المدرسة، وأنه لم يكن بالمعرفة التي يتحلى بها الآن، وأنه كان أيضًا يتم السخرية منه، أي أنه لا فارقَ بينَه وبينهم.

يطلب منهم في ثاني حصصِه أن يمزقوا الفصل الذي يتحدث عن تقييم الشعر، فهو يريد منهم أن يتناولوا الشعر بتذوق اللغة والكلمات، وأن يبتعدوا قدرَ المستطاع عن
النظرة التشريحية الجافة للشعر.

يرى كيتينج أن الإنسان كائنٌ عاطفي، يساهم الجمال والحب والشِّعرُ في بقائه على قيد الحياة، لأن لهم مجالَ فَعالِيَةٍ خاصٍ بهم، أكثرَ عمقًا في التأثير وأبعدَ بكثيرٍ عن واقعِنا العملي الملموس، ومن ثمَّ يستحيل قياسُهم وتقييمُهم بقواعد ومعايير ثابتة. يؤكد لهم على أهمية الكلمات والأفكار في تغيير العالم، ويحثُّهم على تكذيب كلِّ مَنْ يُنكر هذه الحقيقة. يؤكدُ لهم أيضًا على أهميةِ النظر للأمور والأشياءِ بطريقةٍ مختلفة، فلا توجد طريقةٌ واحدة لرصدِ الأمور ورؤية الأشياء، بل لكلٍّ طريقتُه الخاصة في النظر للأمور والتفاعل معها. يحذرهم من خطورةِ الامتثال للجموع، وينبهُهم لصعوبة الحفاظ على الأفكار والمعتقدات الخاصة في وجه الآخرين. فالإنسان كائن اجتماعي يبحث عن القبول، وليس هناك شيءٌ أكثرُ فاعلية من مسايرة المجتمع وتقليدِه لنَيْل قبولهم، لكن بهذه الطريقة يفقد الإنسانُ طريقَه الخاص، خطوته الفريدة، اتجاهاته التي تناسبه، معتقداته وآراءه التي تعبر عنه. ويحثُّهم على التمسك بكل ما يناسبهم ويعبر عنهم حتى لو كان مختلفًا عن السائد وحتى لو تم رفضُه من القطيع.

قتلٌ وليس انتحار

من بين طلاب كيتينج كان هناك طالبٌ يُدعَى نِيل، أجبره والدُه في أول العام الدراسي بالاتفاق مع المدرسة على ترك العمل في المجلة، وعندما بدأ يميل للمسرح ويحس بالشغف تجاهه، شجعه كيتينج على أخذِ خطوته للتمثيل المسرحي، لكنه لاقى رفضًا شديدًا من والدِه مرةً أخرى، على الرغم من أن درجاتِه في المواد كانت جيدة، أي أنه لا يوجد سبب مُقنع لرفض والده. وإن كان لهذا معنى فإنه رفضَ أي محاولة للإنسان أن يعيد اكتشاف نفسه، ورفضَ أن يجد لنفسِه معنى غيرَ الذي اُختير له سلفًا، عليه فقط أن يلعب الأدوارُ التي يحددونها له، وألا يخرج مُطلقًا عن النص. اعتقد نِيل أنه إذا أكمل مسارَه في العمل المسرحي واستطاع أن يبهرَ أباه فسيستطيع أن يغير رأيَه، وبالفعل قدم نِيل آداءًا مُذهلًا في المسرحية، و حصل على ثناء الجميع.

لكن أباه ظل على موقفِه وأبَى أن يدعه يستمتع باللحظة، فأحرجه و قام بجرِّه للمنزل أمام الجميع. وكالعادة قرر الأب بالنيابةِ عن ابنه بأنه سيسحب أوراقَه من مدرستِه الحالية ويسجل له في مدرسةٍ عسكرية ليقضيَ فيها عشرة أعوامٍ أخرى من عمره. وكأن المسرحية الوحيدة المسموح له أن يمثل فيها هي التي كتبوها له وحددوا الدور الذي لا ينبغي له أن يلعب غيره.

ماذا عساه أن يفعل الإنسان إذا تم سلبه إرادته بهذه الطريقة؟ ماذا عساه أن يفعل إذا تم حرمانه من كل الأشياء التي يحبها ويجد لنفسه معنى فيها؟ ماذا عساه أن يفعل إذا تم التقليل والازدراء من كلِّ ما يحس بالشغف تجاهه؟ ماذا عساه أن يفعل إذا حُرم من أعظم وأهم شيءٍ يمتلكُه الإنسان وهو “الحرية”؟

فلا هو حُرٌ في بيتِه ولا هو حُرٌ في مدرستِه، السلطوية تحاصرُه في كل مكانٍ، سلطوية الأهل في البيت تمنعه من ممارسة أي نشاط يحبه و تزدري كلَّ ما ترغب به نفسه، وسلطوية الدين والمدرسة تمنعانه من التفكير الحر وتفرض عليه نمطًا معينًا من الأفكار وطريقةً معينة للتفكير يجب أن يلتزم بها.

ما الفرق بين هذه الممارسات وبين السجن؟ فكلاهما سلبٌ لحريةِ الإنسان.

أيُّ حياة يحياها الإنسان وهو منزوع الإرادة؟ وهو ممنوعٌ من البحث عن معنى لحياتِه؟ وممنوعٌ من ممارسة كل ما يحس بالشغف تجاهه؟

أيُّ حياةٍ يحياها وهو يملك عقلًا يتأمل ويتساءل ويُكوّن أفكارَه وتصوراتِه الخاصة لكنّه يُحاصَر بأفكارٍ مُعَدَّةٍ مُسبقًا لا سبيلَ له للخروج عنها؟ لعل هذا ما سأل نِيل نفسَه قبل أن يضعَ رصاصةً في رأسه!

من قال “لا”.. فلم يمُتْ
وظل روحًا أبديّةَ الألم!
– أمل دُنقل

وبدلًا من أن يكون موتُ نِيل زلزالًا يهز ثقةَ الأهل في طريقةِ تربيتِهم لأبنائهم، وأن يزيلَ الغمامةَ مِن على أعينِهم ليريَهُم مدى الضررِ النفسي والمعنوي الذي يسببونه لأبنائهم، ويجعلهم يعيدون النظرَ في مسألةِ سلبِهم من أبنائهم حرية القرار والتصرف وجّه أهل نِيل الاتهام إلى كيتينج بأنه هو الذي أوصل ابنهم إلى هذا المصير

وبالفعل قامت المدرسة بالتضحية بـ كيتينج كـ كبش فداءٍ للتغطيةِ على الحادث، بدلًا من أن توجهَ أصابع الاتهام للقتلة الحقيقيين لحرية نِيل، والذين لولاهم لما أقدم على الانتحار.وبهذه الطريقة ذُبحت محاولاتُ الإنسان للتحرر على محراب ثالوث السلطوية (الأهل – الدين – المدرسة).