المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

في التراث الاندلسي

الدكتور صالح الطائي

من أهم ما قدمه الفكري الإنساني للإنسانية عبر مراحل سيرورتها هي المدونات المعرفية التي تعنى بجزئياتٍ مرحليةٍ تصبُ نتائجها بالمحصلة النهائية في محيط الثقافة التقويمية التي تسعى إلى بناء الإنسان وفق مناهج تترجم إنسانيته وتحفزه لفعل الخير وحب الجمال على أمل الحفاظ على هذه الإنسانية التي تجعله فريدا من بين مخلوقات الله، وتوظيفها من أجل الصالح العام وفق رؤى منطقية تلقى القبول عادة، ربما لبساطتها ولصدقها، أو ربما لتنوع مضامينها التي تحولها إلى واحة معرفية يجد كل من يهتم بها شيئا يخصه بالذات وكأنه صنع له شخصيا ومن أجله، أو يشبع نهمه إلى معرفة معلومة ما قد تكون تاريخية أو اجتماعية أو نفسية أو عقدية دينية يحتاج إلى فهمها، او مجرد لمحة فكرية عامة مبعثها حب الاستطلاع الذي يمتاز به الإنسان عن غيره ويشاركه فيه الحيوان بأبسط صوره.
ليس بالضرورة أن تكون المدونة المعرفية قد كتبت بلغت شعرية لتكون قريبة من الوجدان، فغالبا ما تأتي أكثر المدونات المعرفية بأسلوب سردي جاف، يبدو خالياً من الإمتاع إلى درجة تبعث الملل في النفوس ولهذا السبب يكاد لا يستسيغها أو لا يبحث عنها إلا من انصب اهتمامه عليها بسبب مطالب البحث أو الدراسة أو العمل، لكنها لا تخلوا من نماذج ركزت أسلوبيتها على الجانب الأدبي الذي يروم المواءمة بين منهجي البحث العلمي والترف الأدبي ليبسط الطريق لوصولها إلى مبتغاها.
وتكاد المؤلفات التاريخية أن تكون أكثرها تخصصا في جفاف المنهج الكتابي، ولاسيما منها الكتابات في التاريخ القديم التي تناولت البحث في مرويات تاريخنا الإسلامي بكل ما فيها من نماذج تدفع على التمنع والتردد بسبب تنوع الآراء والأفكار والولاءات، لأن هذه الولاءات كانت لها تواريخها التي تختلف مضمونا عن غيرها، والتي لا تتفق عادة مع ما جاء في تلك المدونات ولاسيما منها المتشبثة بالنزعة العدوانية أو التحريضية. أما التي تتمخض نتائجها عن مشتركات حتى لو كانت بسيطة فتجد الرضا والقبول بدرجات متفاوتة.
معنى هذا أن من يكتب في التاريخ لا يعفو نفسه من تلقي اللوم، ويجد في أحيان كثيرة من يتهمه ـ في الأقل ـ بعدم الحياد. فهو فضلا عن تناوله تاريخاً غابراً تناقلته كتب لا نعرف الغاية من وراء كتابتها وتأليفها ومدى صدق وحياد مدونيها، يتحدث عادة عن هذه الملة أو تلك، وهي ملل بينها عداء تاريخي ينتقل عبر الأجيال ويجد غالبا من يروج له ويشجع عليه، وهي لا تخلو من ميل نحو الأساطير والتضخيم إلى درجة التطرف أو التهوين إلى درجة الإذلال.
وكتابة تاريخ حقبة مستقرة تختلف كثيرا عن كتابة تاريخ الحقب القلقة، فالحقب المستقرة تَكتِبُ عادة تاريخها بنفسها ولا تعطي فرصة لغيرها بتدوين ما لا يوافق رؤاها مهما كان بسيطا وتافها، ومن ثم تغدق العطاء على من يضيف لتاريخها ما يعضده ويقويه ويشد أزره ويدعمه صادقا كان أم كاذبا. وجدنا ذلك في حقبة حكم الأمويين، وفي حقبة حكم العباسيين، فهاتين الحقبتين كتبتْ كل منهما تاريخها بنفسها وفق رغباتها ووفق ما تشتهي، ولم يجرؤ أحد على مخالفة ما جاء فيه إلا بعد زوالهما. لكن هناك حقبة قلقة جدا هي الحد الفاصل بين هاتين الحقبتين، تعاون فلول الأمويين واقتضت مصالح العباسيين على التوافق في بعض الجوانب لكتابة تاريخها على أمل أن توظفه كل منهما لصالحها، هذه الحقبة هي حقبة تاريخ الأندلس الذي نشأت دولته على شبه جزيرة أيبيريا التي تضم إسبانيا وأجزاء من البرتغال الحاليتين.
دخلها الإسلام بعد أن وصوله إلى المغرب الذي فتحته قوات عقبة بن نافع، وسيطرت عليه مما دفع حاكمها \”يليان\” إلى عقد المصلح مع الجيوش الإسلامية، وهو صلح هش كان المسلمون هم من تملص منه بعد أن بدأوا يتسللون إلى شبه الجزيرة بالسر مع السُفن التجارية التي كان تبحر إلى المغرب، واستقروا فيها بأعداد كبيرة، شجعت حكومة الأمويين على التفكير بغزوها، وتم لهم ذلك في عام 92 للهجرة الموافق سنة 711 للميلاد فدانت ودان حكامها بالولاء إلى دمشق. ولأسباب كثيرة اختارها القائد الأموي أبو المطرَّف عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي ( 113ـ172هـ/ 731ـ788م) المعروف بلقب صقر قريش وعبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الأول ليؤسس فيها عام 138 هجرية الدولة الأموية في الأندلس، بعد رحلة أسطورية طويلة امتدت على مدى ست سنوات، وصل في ختامها إلى الأندلس وهي تعاني نزاعات قبلية وتمردات على الولاة وتعارض بين القبائل المضرية واليمانية، فنجح في السيطرة على معاقل المتمردين والمتنازعين، بعد أن وجد تأييدا من اليمانية المدفوعين بالرغبة في الثأر لهزيمتهم أمام الفهرية والقيسية في موقعة شقندة، وحكم البلاد لمدة ثلاثة وثلاثين عاما أخمد خلالها الثورات المتكررة على حكمه في شتى أرجاء البلاد، تاركاً لخلفائه ومن جاء من بعده إمارة، استمرت لنحو ثلاثة قرون، ومن بعدهم حكمها العرب المسلمون ما يُقارب الخمسة قرون، حكمها خلالها الأمويون وملوك الطوائف والمرابطون والموحدون، الذين أدى تناحرهم وتفضيلهم مصالحهم إلى سقوطها وطرد المسلمين منها بعد ثمانية قرون من الحكم الإسلامي بيد حكام ممالك ليون، وقشتالة، والفرنجة وهي فرنسا الحالية، مما أدى إلى مطاردة وقتل وطرد المسلمين منها.


معنى هذا أننا نقف أمام ثمانية قرون من الدهشة والنزاعات والصراعات والمؤامرات، وأيضا الجمال والفخامة والروعة والحضارة والتقدم والازدهار. ثمانية قرون قلقة غير مستقرة، عمل الدكتور رضا هادي على تجميع أحداثها في كتابه الموسوم \”في التراث الأندلسي من فجره إلى أفوله\”، ولأن الباحث كتب عن تاريخ يمتد على مدى هذه القرون الثمانية، فإنه لابد وأن يكون قد أسرف في الحديث عن تجارب إنسانية فيها الكثير من المتعة التي لا نجدها عادة إلا عند ذوي الاختصاص ممن عايشوا هذا التاريخ بحثا ودراسة وتدريسا وممارسة ولذا خرج بنتائج قلما تجدها في مكان آخر. والدكتور رضا هادي عباس الشمري خير مؤهل لمثل هذا الموضوع وخير من يمكن أن يخوض غمار هذا البحر اللجي، فهو رجل صاحب تجربة حياتية ثرة، فهو من مواليد مدينة الكوت سنة1945، وهو خبير متخصص في تاريخ الأندلس، فهو بعد أن حصل على درجة البكالوريوس في التاريخ من كلية الآداب في جامعة بغداد سنة 1968 وكان من العشرة الأوائل، انصب اهتمامه على الأندلس وتاريخها، فحصل على دبلوم عال بتدريس اللغة الإسبانية للأجانب من جامعة غرناطة الإسبانية عام 1978. ثم حصل على ماجستير في التاريخ الاسلامي بتخصص دقيق تحت عنوان: تاريخ المغرب والاندلس من الجامعة نفسها بعد عشر سنوات. وإيغالا وتعمقا في تتبع أخبار الأندلس، حصل عام 1980 على درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي وتحديدا في تاريخ المغرب والأندلس من الجامعة نفسها.
وفضلا عن مكتسبات وخبرات الدراسة والتخصص في تاريخ الأندلس، عمل الدكتور رضا على ممارسة وتدريس تخصصه بكلية الفلسفة والآداب في الجامعة الإسبانية التي تخرج منها 1981-1982. وبعد أن عاد إلى العراق عمل باحثا علميا ومشرف اللغة الإسبانية بوزارة التربية للمدة 1982- 1993. وعمل في الوقت نفسه مُحاضرا في كلية الآداب وكلية اللغات / جامعة بغداد، وكلية التربية/ الجامعة المستنصرية في التاريخ الأندلسي، وعمل محاضرا بدورة اللغة الاسبانية في معهد الخدمة الخارجية – وزارة الخارجية العراقية سنة 1988. ثم عمل أستاذا مساعدا بكلية اللغات والآداب – جامعة طرابلس (ليبيا) للمدة بين عامي 1993- 2004. وعاد إلى العراق فعمل أستاذا مساعدا بقسم التاريخ في كلية التربية/ الجامعة المستنصرية للمدة بين عامي 2006-2013، ومُحاضرا خارجيا ـ دراسات اولية وعليا ـ في التاريخ الإسلامي وتاريخ الأندلس في جامعة واسط للأعوام من 2007 ولغاية 2012، بمعنى أنه أنفق من عمره أربعين عاما وهو يخوض في لجج تاريخ الأندلس، ولم يقف عند هذه الشطآن فحسب فقد عضَّد ذلك بالكثير من البحوث والدراسات والمؤلفات التخصصية ومنها على سبيل المثال: القضاة والقضاء في كتاب تاريخ علماء الاندلس لابن الفرضي – جامعة غرناطة، 1978، والقضاء والقضاة في الأندلس (رسالة دكتوراه في التاريخ الاسلامي) جامعة غرناطة، 1980، والتاريخ العربي الإسلامي (مع آخرين) وزارة التربية – بغداد 1986، والأندلس؛ محاضرات في التاريخ والحضارة – مالطا 1998، والمكتبة الأندلسية دراسة وتحليل لأهم المصادر والمراجع الأندلسية – بغداد 2008، والأندلس؛ رحلة في التاريخ والحضارة – بغداد 2008، والحضارة الأندلسية بأقلام إسبانية جزئين دراسة وترجمة، بغداد صدر الجزء الأول عام 2013، وصدر الجزء الثاني عام 2016، ومحاضرات في تاريخ المغرب والاندلس (مع مؤلف اخر) ط1 بغداد 2009، ط4 بغداد 2014، والمكتبة الاندلسية، دراسات وببليوغرافيا (الف كتاب وكتاب في تاريخ الاندلس وحضارته)، دمشق 2017، واللقاء الحضاري في الأندلس، بغداد 2009، وفي التراث الاندلسي، صدر في بغداد، 2020، وهو الكتاب الذي نحن بصدد قراءته، فضلا عن تحقيق كتابين لابن حيان القرطبي، وكتابة الكثير من البحوث والدراسات في المجلات العراقية والإسبانية.
وستكون وقفتنا التفكيكية مع آخر هذا العطاء، وهو الكتاب الموسوم \”في التراث الأندلسي من فجره إلى أفوله\”؛ الذي وضعه الباحث استذكاراً لمرور أربعة قرون على إخراج الموريسكيين (المواركة أو العرب المتنصرين) من إسبانيا سنة 1023 هـ/ 1614م. وفي بواكير بداية رحلتي مع الكتاب استوقفتني جملة (من فجره إلى أفوله) الواردة في العنوان، والتي تعني أن الدكتور رضا سيخوض في كامل نشأة التاريخ الإسلامي الأندلسي منذ فتحها عام 92 ولغاية سنة 1023 للهجرة أي أن الباحث لم يقف عند عصر مملكة غرناطة (635 ـ 897 هـ/ 1237ـ 1492م) ولم يعتبر نهاية هذا العصر نهاية لتاريخ الأندلس المسلمة وإنما تجاوزه للبحث في تاريخ وتراث العصر الموريسكي، واعتبره العصر الأخير للأندلس، فقسم العصور الأندلسية على تسعة حقب بعد أن كان المؤلفون قد قسموها على ثمان، فأصبحت وفق تقسيمه: عهد الفتح (92ـ95هـ)، عهد الولاة (95ـ138هـ)، عهد الإمارة الأموية (138ـ316هـ)، عهد الخلافة الأموية (316ـ 422هـ)، عصر الطوائف (422ـ 484هـ)، عصر المرابطين(484ـ 539هـ)، عصر الموحدين (540ـ 632هـ)، عصر بني الأحمر (632ـ 897هـ)، العصر الموريسكي (897ـ 1023هـ)، والذي أراه أن عملية التحقيب هذه بحلتها الجديدة ضرورية جدا لتثبيت تتابعية التاريخ الاندلسي. وهي بكل المقاييس مدة طويلة وحقبة مليئة بالمفاجئات والأسرار وبالعطاء أيضا، إذ يكفي أن مدن الأندلس مثل قرطبة واشبيلية وغرناطة وطليطلة وسرقسطة وغيرها تحولت إلى مراكز إشعاع علمي وحضاري. وأصبحت قرطبة زينة الكون وجوهرة العالم، وقد استعان الباحث بما كتب من قبل في هذا المضمار من خلال تفكيك ودراسة بعض النصوص ذات الصلة.
ابتدأ الدكتور رضا كتابه بالحديث عن اتجاهات التاريخ الإسلامي في مناهج التعليم العام في العراق، ثم تحدث عن التدوين التاريخي وإشكاليات النقد في الأندلس، وعرج بعدها للتحدث على مدى ثلاثين صفحة؛ دراسةً وتحقيقاً لكتاب صلة الصلة لابن الزبير (ت: 708هـ ـ 1308م).
وتناول في المحور الثاني من الكتاب موضوع مدرسة أهل البيت في التراث الأندلسي، وكم هو مفاجئ ان تجد الأندلس المالكية مذهباً والأموية ظاهراً حتى بعد سقوط الأمويين فيها تهتم بهذه الجنبة بالرغم من كون تاريخها كتب بيد الأمويين ومن والاهم أو سار على نهجهم من الحكام الجدد، بما يعني أنها لا تخلو من التزوير والتحريف والانتحال والخطأ والمبالغة والكذب؛ وهو ما دعا الباحث إلى دراسة وتحقيق وتفكيك عدة وثائق تحدثت عن ثورة الحسين (عليه السلام) في التراث الأندلسي ومقتل الحسين في مخطوطات أندلسية وشجاعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بين الموريسكيين في إسبانيا، والتجسس والمؤامرات السياسية والنص الشيعي بين الموريسكيين التي ترجمها عن الانكليزية.
أما المحور الثالث فخصصه للحديث عن الاندلس في التاريخ الإسلامي والقيم الأخلاقية في الخطاب السلطاني في الاندلس، والإسهام الحضاري للأمازيغ في الاندلس، وحديث بنيامين التطيلي اليهودي عن بغداد في رحلته، وأورد أخيراً عدة قصائد أندلسية فقام بدراستها وتحقيقها، وكان قد تحدث قبل ذلك عن الشعر كوثيقة تاريخية، والشعر ديوان العرب في الأندلس؛ وبعدها أورد القصائد مترجمة.
جدير بالذكر أن كتاب الدكتور رضا هادي هذا جاء مكملا لما ابتدأه ثلة من الباحثين العرب، والظاهر أنه جاء استجابة للعتب الأندلسي الذي وجهه الكاتب محمد عبد الله عنان تحت عنوان \”لماذا تُهمل الجامعات تاريخ الأندلس\”، بل جاء مكملا لذلك العتاب، فالدكتور رضا هو الآخر وجه عتابا دافعه الحرص على تاريخ حضارة عربية إسلامية امتدت على مدى ثمانية قرون وجغرافيا مساحتها أكثر من نصف مليون كيلومتر مربع، واسهمت حضاريا في نشر العلم والثقافة. وجاء مكملا لسلسلة الكتب والبحوث والدراسات التي أنجزها الباحث خلال مسيرته العلمية الزاخرة بالعطاء. والجميل في الكتاب أن الباحث أهداه إلى ثلة من رواد الدراسات المغربية والأندلسية في الجامعات العراقية. وقد صدر الكتاب عن بيت الحكمة في بغداد، وهو كتاب زاخر بالمعلومات القيمة والثمينة عن الأندلس وتاريخها، ويُعد إضافة رائعة للمكتبة التاريخية الاندلسية.