ثقافة السرد
طريـق الندامـة

بقلم: مجدي جعفر
تأبطت ذراعه ، قبضت على ساعده ، أحسَّ بأصابعها الطويلة، الرقيقة الناعمة، تغور في قلبه ، وما زال الطريق ممتداً، لا تبدو له نهاية.
موحش الطريق، ووعر، هجرته الأقدام من عشرات السنين . داخله مفقود ، وخارجه مولود . على مقربة منه وضعوا (لافتة) كتبوا عليها (طريق الندامة) .. الكل يخشى الاقتراب منه ، والأمهات يحذرن صغارهن .. أصرَّ هو .. كما أصرت هي .. على أن يقطعاه ولو كلفهما العمر.
قال : سنمضي بقوة لا تفتر، وعزيمة لا تكل.
قالت : سنمضي وزادنا العلم ..
أعدا خرائطَ وصوراً ورسوماً بيانية وبوصلة ونظارات وجهازاً لاسلكياً ..
سرى الخبر بين الناس مسرى الدماء في العروق ، ضحك لاعبو (النرد) على المقهى، وهزأ ماسك مبسم (الشيشة) .. لم يعبأ بالأفواه التي انطلقت ولا تكف عن التهكم ، ولم يرهبهما تهديد (العمدة) ولا أزعجهما (حديث إمام المسجد).
قال :
– الناس على دين آبائهم ..
قالت :
– أجيال متعاقبة توارثت الخوف ، نسجوا حوله الأساطير..
– سيوفر الوقت والجهد والمال ..
– سيربط القرية بمعظم القرى ..
أول الطريق من جهة القرية شاق ، ووعر ، صخور رُصت على شكل أهرامات من أزمنة غابرة .. رمقهما أهل القرية وهما يتسلقان الصخور ، أعشاب نمت عشوائياً ، وأشجار تيبست ، شاهق مدخل الطريق بارتفاع الهرم الأكبر ، توقفت المارة ، وخرج أهل القرية ، استمرا في الصعود والعرق ينزل من جسديهما ، وحواف الصخور أدمت أيديهما وأرجلهما ، وأبداً لم يتسرب اليأس إليهما ولا الخوف ، وزحف الليل ، وطال الليل ، وأهل القرية يحملون المشاعل ، يرقبونهما ، يحسنون الإصغاء إليهما وهما ينقلان لهما الأحداث أولاً بأول عبر جهاز اللاسلكي .. ونظرات الإعجاب أخذت تزحف إلى أعينهم ، والخوف عليهما بدأ يتسلل إلى قلوبهم ..
– : ( ألمح شعاعات الفجر آتية من بعيد ) ..
– : ( على مدد الشوف ، عمائر سامقة ، وطرق ممهدة ، مسفلتة ، وأعمدة إنارة … و .. ) ..
وبينما العمدة يزمجر ، ويتوعد ، ويهدد ، كان الصوت يأتي جلياً قوياً ليبدد مخاوف الناس ، ويزيل الوساوس ويثير الدهشة ..
– : الناس هنا تمشي على الماء ، وتطير في الهواء..
على الجانب الآخر من الطريق حياة ناعمة ، هادئة ، مستقرة.
– لاَّن لهم الحديد ، ودانت لهم الدنيا ..
وبينما ارتفع صوت العمدة ، ملوحاً بقبضته في الهواء ، سُمع دوي طلق ناري ، فانقطع صوت جهاز اللاسلكي ، ووجمت الناس ، وساد صمت شديد إلا صوت العمدة الذى أخذ يردد متهكماً : ( قلنا إنه طريق الندامة! ).