قراءات ودراسات
الميتاسرد في روايات ما بعد الحداثة

د. سامي شهاب الجبوري*
ينسلخ السرد في روايات ما بعد الحداثة عن عالمه الرئيس وينشطر الى فضاءات متعددة تعمل على إجلاء النتوءات وصقل الآلية السردية لتكون جاهزة بحركيتها على مساحة النص كلا ، فالسرد المابعد حداثي يتأرجح بسلسلة حركية بين قطبي الماضي والحاضر ويؤسس تأريخا جديدا هو في الأصل مزيجا من عبق الماضي وأصول الحاضر ، وهو بذلك يحطم قيود المسار الواحد ويسير باتجاه مسارين مختلفين في آن واحد ؛ إلاّ انهما يمثلان في الوقت نفسه هيكلية واحدة من البناء والتوليد . لذا فان انقياد السرد تحت لواء الثنائية يدفع باتجاه تصحيح الرؤى وقولبتها في إطار محدد بعد سلسلة من المناورات والتحوّلات . وتكمن الثنائية في ان الماضي باحداثه وشخصياته وانطباعته يكون حاضرا في النص الروائي ؛ ولكن ليس بنفس الهيئة والهيبة السابقة ؛ وانما على وفق تصويبات جديدة يتحمل وزرها الحاضر الآني ضمن قاعدة الثنائية ، وبامتشاج الرؤيتين الماضية والحاضرة تنتج انطباعات جديدة .أي ان الواقعي بهذه الحالة يكون أمام مواجهة كبرى تتمثل بالمتخيّل السردي الجديد . لذلك فإنّ الهدف من وراء هذا التحوّل ليس تسلية ذاتية يبتغيها الراوي بقدر ما هي عملية واعية تنشرخ الى متفرعات غرضها تكثيف المعنى في ذهنية المتلقي .
إنّ الاحداث الماضية لا تأتي بهيئتها المتعارفة ولاسيما المضطربة منها في النص الروائي ؛ وانما تتحول عبر الآلية السردية الى كيان جديد فيه طابع السخرية والخدش والتحوير بحسب الرؤية التي ينطلق منها الراوي ويحاول تأسيسها في عمله كله ، وهذا يعني ان الصراع بين الماضي بحدود واقعيته والحاضر بحدود المتخيل السردي يؤدي الى خلق معول فكري يعمل في نظام الهدم والبناء ، هدم الماضي ثم إعادة تشكيله وبنائه من جديد بحسب ضرورات النص . وعليه تكمن مهمة الميتاسرد في اختراق الماضي وهدمه ثم محاولة بنائه من جديد ؛ وهذا يتطلب جملة من التبدلات والارهاصات لكي تغدو الانطباعات الجديدة مختلفة عن سابقتها وبرونق خاص يبعث المتعة والانفتاح ، وان ما يحتضن تلك التبدلات هو السياق الذي يشكل عصب العملية كلّها . وبذلك يكون الميتاسرد آخذا وناقلا ومحوّرا ومجددا في الوقت نفسه ، أي انه يعمل ضمن سياق كشف المخبوء من التوظيفات .
وعلى وفق ما تقدم فان مهمة ما بعد الحداثة تكمن في مساءلة النصوص والذوات والواقع برمته ، وتعد تقانة الميتاسرد إحدى التقانات المهمة التي من خلالها نقف على الماضي القديم بفهم جديد وبوعي وانعكاسية ذاتية ، وبذلك يختلط التاريخ مع الذاتية ؛ أي تمتزج الأحداث الماضية والشخصيات وتصبح جزءا من الرواية في ضوء عالمها التخييلي . وهذا هو تصوّر نثر ما بعد الحداثة بالتحديد ولاسيما في الجنس الروائي منه. وعليه فان الصراع المزدوج والتداخل المقصود بين الماضي والحاضر يجعل الخطاب ملغّما بعلامات الاستفهام والحيرة والدهشة ؛ بل يجعل منه مسرحا مكشوفا تُعرض فيه تضاريس متموجة من الأفكار والاستشكالات ، ولاسيما ان مثل هكذا خطاب يكون محصورا بين منطقة الجذب والتنافر ؛ أو بين المد والجزر يعمل على إضاءة المناطق المعتمة في الفلسفات والمبادىء الفكرية والمعرفية التي حوّطت نفسها بهالة من الغموض العاجي ؛ والزهو المتعالي ؛ ويترجم المفاهيم بحسب انطلاقاته الايديولوجية ؛ وتبعا لنظام آلياته وسبل امتصاصه للمدوّنات المكتوبة والشفهية واجراء التحويرات الكفيلة لتحقيق المبتغى ؛ ومن ثمّة توليد المُنتج وتقديمه بطبق من الإضاءة الى المتلقي .
إنّ أكثر الخطابات التي تتماوج في أساليب الامتصاص والتوليد ؛ أي الاستعانة بفحيح الماضي وعبقه بكل ما يحمل من أحداث ومواقف ؛ وتحويله الى سلعة حديثة مرغوبة في سوق المتعوية لدخول المتخيّل السردي سيدا على الواقع المتعارف عليه هو الخطاب الروائي ، لكون الرواية تمثل وعاء مفتوحا يستوعب الثوابت والمتغيّرات في آن واحد ؛ وبحسب التنافر الحاصل بين الثابت والمتحول يحصل الخطاب الروائي على تميزه وحضوره ، لذا فهو قريب من التاريخ والواقع الاجتماعي معا ؛ ولكن على الرغم من استيعاب الراوئي للثابت والمتحول وتشابك منظومته بين الحضور والغياب يبقى اسلوب الامتصاص والتوليد والتحويل الأهم في المعادلة ؛ إذ يتعيّن على الروائي التمسك بالحيادية التامة وهو يتعامل مع قطبين متنافرين قطب الواقعي وقطب المتخيل ؛ أو قل الماضي المحوّر للواقعي بفضل عنصر المتخيّل ؛ وتتمثل الحيادية بعدم سيطرة أحد القطبين على الآخر . أي لا تأتي الأحداث الماضية بحضورها التام متفوقة على الواقع المتخيّل ، أو بالعكس سيطرة المتخيّل على الأحداث والوقائع الماضية ؛ وانما ينبغي التأرجح بين الأثنين معا لصناعة رؤية جديدة تشكل ضربة في الذهنية العقلية ؛ مع الاحتفاظ بهوية المتخيّل الآني الذي تنحصر مهمته بمساءلة الماضي ومحاصرته ؛ وهذا يعني ان الروائي يوظف ما يراه مناسبا لعمله الحكائي بعد إتقان عملية المزاوجة ؛ وهو غير ملزم باسقاطات الماضي والحاضر كما هي في قالبها ؛ وانما يحاول اقتناص ما يخدم عمله ويدفعه نحو المسار الصحيح ؛ بعد وضع لمساته الاجرائية وتحويراته المغنية للحصول على نتاج من نوع خاص . وعلى هامش ما تقدم فإن تقانة ( الميتاسرد – ماوراء السرد ) واضحة المعالم والحضور في نثر ما بعد الحداثة ؛ ولاسيما في الجنس الروائي الذي ينفتح على معطيات متعددة من الفلسفات والثقافات والآليات والاجراءات . وهي تقانة جعلت من العمل الروائي الما بعد حداثي يصطبغ بصبغة الانجاز المتوالد والمتحوّل ؛ والانزياح عن المسار التصاعدي في منظومة الحداثة وما قبلها والميل نحو التأرجح بين الماضي والحاضر ، وبين المتعالي والسطحي ، لتحقيق ما ينبغي تحقيقه .
*شاعر وناقد عراقي