المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

الكاتب الارجنتيني باتريثيو برون: الهوية خيار وليست فرضاً

أحمد عبد اللطيف

يعتبر باتريثيو برون (الأرجنتين، 1975) أحد أكثر الأسماء بروزًا في المشهد الأدبي باللغة الإسبانية في السنوات العشر الأخيرة، هو امتداد لمواطنيه خورخي لويس بورخس وخوليو كورتاثر، لكن بإضافات عصرية وأسئلة خاصة حول الفن. تميز برون في القصة والرواية على السواء، كما تميز كناقد وكاتب مقال وأكاديمي، وهو تميز يضعه في مكانة خاصة بين كُتّاب جيله، جيل متحلل من عقد أجيال سابقة عليه في نظرته لكُتّاب الانفجار (ماركيز، يوسا، بورخس، كورتاثر، فوينتس) إذ جيله يتعامل مع هؤلاء الكُتّاب باعتبارهم كلاسيكيي السرد اللاتيني، يمكن الأخذ منهم والاستفادة كما يمكن هجرهم، فرهان الجيل الجديد في الكتابة اللاتينية هو العثور على صوت خاص، معبّر عن اللحظة وعن المبدع كفرد، في نفس الوقت يقدّرون المنجز السابق.

صدر لباتريثيو العديد من الأعمال القصصية والروائية، منها مجموعات \”رجال سيّئو السمعة\” (1999) \”طيران ليلي ساحر\” (2001) \”العالم من دون أشخاص يقبّحونه ويدمرونه\” (2010) \”كان يحضر كل شيء وهو عائد للبيت\” وهي قصص من 1990 إلى 2010 وصدرت في 2011، \”الحياة الداخلية للنباتات الداخلية\” (2013)، وروايات \”أشكال للموت\” (1998) \”سباحون موتى\” (2001) \”بداية الربيع\” (2008) وفازت بجائزة خائن للرواية وذكرتها مؤسسة خوسيه مانويل لارا كواحدة من أفضل خمس روايات منشورة في إسبانيا في ذاك العام، \”روح أبويّ لا تزال تصعد في المطر\” (2011) ومؤخرًا \”نحن نسير نيامًا\” و\”لا تذرف دموعك من أجل أحد يعيش في هذه الشوارع\”. وترجمت أعمال برون إلى النرويجية والفرنسية والإيطالية والإنكليزية والألمانية والصينية، وفاز بالعديد من الجوائز الهامة مثل جائزة خوان رولفو في القصة عام 2004، وظهرت قصصه في أنطولوجيات في الأرجنتين وإسبانيا وألمانيا والولايات المتحدة وكولومبيا وبيرو وكوبا، كما ظهرت في مجلات فرنسية وأميركية وألمانية وإيطالية. واختارته مجلة غرانتا كأحد أفضل 22 كاتبًا شابًا بالإسبانية. وهو يعيش حاليًا في مدريد.

وكان لنا معه هذا الحوار:

*تحدث خوان غويتيسولو ذات مرة عن الهجرة كنعمة، وأنت كاتب مهاجر من الأرجنتين إلى ألمانيا أولًا ثم إلى إسبانيا، وأعتقد أن أبويك أيضًا تعرضا للنفي. كيف أثرت هذه الهجرة على كتابتك؟

أبي وأمي كانا ناشطين سياسيين، لكنهما لم يختارا النفي ولا فُرِض عليهما، وفضلا الاستمرار في الأرجنتين أثناء الديكتاتورية، وعاشا نوعًا من \”المنفى الداخلي\”، وهي حالة اقتسمناها معهما أنا وأخوتي. في عام 2000 هاجرت لألمانيا، ولم يكن ذلك لأسباب سياسية، رغم أن السياسة لعبت دورًا أيضًا بطريقة ما، إنما كان الهدف هو أن أتعلم كل ما كنت أحتاج تعلمه حينها، وكان ذلك كثيرًا. والآن أعيش في إسبانيا. والحقيقة أن الهجرة، كما يقول غويتيسولو، \”نعمة\”، لأنها من ناحية تسمح بوضع مسافة كبيرة لنقيّم البلد الذي جئنا منه وأن ننقذ منه ما نراه ضروريًا لنواصل حياتنا. ومن ناحية أخرى، يتشكل الأدب دائمًا من هذه \”الأخروية\”، بمعنى \”الحياة في الخارج\”، هذه الحياة في الخارج سواء هجرة أو منفى تساهم في تشكيلنا بشكل قاطع، وهي حالة ملهمة جدًا لكاتب. وبالتالي ليس لدي أي مخطط للعودة للأرجنتين.

*من الملفت أنك تعيش في أوروبا منذ سنوات طويلة ولكنك لا تزال كاتبًا أرجنتينيًا، أليس كذلك؟ كيف ترى موضوع الهوية والتمسك بها أو التخلي عنها أو امتزاجها؟

خلال سنوات فكرت أن كل هوية (قومية، جنسية، دينية، طبقية) مجرد سجن على الواحد أن يهرب منه. الآن ربما أفكر براديكالية أقل، أفكر أن الواحد لو كان لديه هوية بالفعل فهي المكان الذي نصل إليه وليس المكان الذي ننطلق منه، هي المكان الذي نتوجه إليه بأنفسنا، وليس ما فُرض علينا من أرض أو ثقافة أو عائلة، لحسن الحظ أو لسوئه انتمينا إليها بالميلاد.

*في حوار سابق أشرت إلى بورخس وتأثيره في تصوراتك الفنية. كيف ترى نفسك داخل التجربة البورخسية؟

خورخي لويس بورخس، بشكل راسخ، مرجع لا غنى عنه لأي كاتب في المائة عام الأخيرة. لقد تعلمت من بورخس (وكنت أقلده في بداياتي) أن الأدب نوع من البحث وعربة للتفكير: أن الأدب لا يجب أن يتخلى عن صفة المتعة (وأن يكون جذابًا قدر المستطاع، أخاذًا، يمسك بنا) لكن خلف هذه الواجهة يجب أن يقبع البحث العميق حول طبيعة الزمن والعلائق التي تربطنا بأنفسنا واللحظة التي نعيشها بكثافة.

* لا بد أن كتاب جيلك طرحوا على أنفسهم أسئلة حول الواقعية السحرية كتيار عاصف، ولا بد أنه كان عقبة أمام أجيال سابقة تمردت عليه. مع ذلك، تبدو أعمالك وريثًا لهذا التيار لكن بصوت خاص جدًا وبأسئلة مختلفة. كيف ترى ذلك؟

بالطبع كان للواقعية السحرية أثرها الكبير في كقارئ في بداياتي، ما يعني أني تشكلت بقراءة نصوص يمكن أن نسميها \”سحرية واقعية\”. لكن مع الوقت توجهت اهتماماتي لموضوعات أخرى وأساليب مختلفة، ولا أتجرأ أن أقول إن كتبي تنتمي للواقعية السحرية، لكني نعم أعتقد أن كل كتاب جيد يجدد ويحدّث كل ما كُتِب من قبل. بهذا المعنى، إن كانت كتبي جيدة (وهو ما أتمناه) فلا بد أنها تجادلت وتحاورت مع التيارات الأدبية المهمة في العقود الأخيرة، ومن بينها الواقعية السحرية. ربما يمكننا أن نفكر في حزمة من الكتاب المعاصرين الذين استخدموا الواقعية السحرية لصنع شيء آخر، والقائمة تضم بعض الكتاب الأهم في العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة: جوزيه ساراماغو، أورهان باموق، إيان ماك إيوان، مارتين أميس، سلمان رشدي، بول أوستر، ريكاردو بيغليا، غونترغراس، هيرتا مولر، روبيرتو بولانيو. وربما يمكن قراءة أعمالي في إطار هؤلاء الكتاب.

*هل تعتقد أن الألفية الجديدة استطاعت، أو تستطيع، تقديم جيل لاتيني بنفس شروط تيار الانفجار؟

انفجار الواقعية السحرية ارتبط بعناصر أخرى بالإضافة للعنصر الأدبي، مثل الوضع الاقتصادي والسياسي الذي لن يتكرر: وصول التعليم لشريحة أكبر من المجتمعات اللاتينية، التصنيع، انتقال السكان من الريف إلى ضواحي المدن، ظهور مشاريع سياسية أولية ترفع شعار \”ضد الإمبريالية\” والحاجة لعدالة اجتماعية كبرى وسيادة اقتصادية وطنية، بالإضافة لنهاية الاستعمار والشعور بأن وقت أميركا اللاتينية قد جاء، كذلك في السياسة. كل هذه الظروف تغيرت، ومن يرغب في استعادتها من كتاب الأجيال التالية سيكون محض عبث. لا شيء يشبه \”الانفجار\” في الأدب الأميركي اللاتيني المعاصر لغياب كل (أو معظم) الظروف السوسيواقتصادية التي تجعل ممكنًا وجود هذا النوع من الظواهر الأدبية. لكن في المقابل ثمة تنوع في الأصوات والتوجهات الأدبية اللاتينية حاليًا، وبعضهم (وأنا من ضمنهم) نسعى بدأب لأن تكون أعمالنا على مستوى الأعمال الكبيرة في الكانون اللاتيني.

*يعرف الإسبانوفونيون أن ثمة اختلافات واضحة بين اللغة الإسبانية في إسبانيا ونفس اللغة في أميركا اللاتينية، اختلاف لهجات من مكان لآخر، واكتساب كلمات لدلالات جديدة وخضوع المفردات لسياقات محلية ثقافية خاصة. كيف تحل ككاتب أرجنتيني هذه المعضلات اللغوية؟

إن لم أكن مخطأ، فالمشكلة يواجهها أيضًا أي كاتب مصري أو سوري: أن تكتب باللغة الفصحى وما دخل عليها من متغيرات محلية أم تصنع لغة محلية أدبية متفقاً عليها كنموذج. الآن نعود لمشكلة الكاتب اللاتيني، ليس لدى متحدثي الإسبانية، اللاتينيين، لغة محلية أدبية نموذجية متفق عليها؛ بل إن كثيرًا من الكتاب يتباهون وتباهوا على طول التاريخ بأنهم يكتبون بلغة بلدانهم القومية ولم يخضعوا لأي نموذج خارج بلدانهم. هذه استراتيجية مشروعة، وترتبط بالأساس بنوع من الخيارات السياسية التي لا مجال لشرحها هنا، لكني لا أستخدم هذه الاستراتيجية. استراتيجيتي تتجه أكثر لإزالة الاختلافات القومية من أجل فهم أفضل من جانب القارئ: أعتقد أن الأدب بالأساس هو التواصل، ولن يكون في مصلحته أن أضع حواجز أخرى.

 

*تتمتع في قصصك ورواياتك بقدرة بارعة على الحكي والتجريبية، حتى أن قصصك تبدو روايات ورواياتك تبدو قصصًا

لا أعتاد على وضع فواصل بين نوع أدبي وآخر. يروق لي أن تبدو قصصي كروايات، وأن تتمتع رواياتي بمزايا القصة: الدقة، الاقتصاد، حذف كل ما لا قيمة له، إلخ). لكن الحقيقة أني أعرف بكل وضوح منذ البداية إن كان ما سأكتبه قصة أم رواية، وأشعر بسعادة مع كل المفاجآت التي قد تحدث أثناء عملية الكتابة، وفي مرات كثيرة فاجأتني حكاية تمردت على فرض نوع ما عليها أو حجم معين، وطالبت بكل كبرياء بفردانيتها وبطابعها الفريد. ومن بين كل ما كتبت، كانت هذه أفضل الحكايات التي كتبتها.