المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

ندوة المجلة الثقافية الجزائرية: المثقف، السلطة والمصير! (1)

خلال الأزمة السياسية الفرنسية التي اندلعت بين فرنسا وبريطانيا في الثمانينات من القرن الماضي، قرّر مثقفو البلدين الاجتماع مرتين في ألمانيا ثم إسبانيا لإيجاد حل للتوتر السياسي بين البلدين، رافضين الانحياز للقطيعة والحملات الإعلامية المعادية بين البلدين.. لكن مواقف المثقفين العرب من أزمات سياسية مشابهة لم تكن – في الواقع- إلا انعكاساً لحالةٍ من الاستقطاب السياسي الحاد الذي تكرّسه الأنظمة الراهنة، ولعل المثال الأبرز في هذه المقاربة (أزمة الخليج الحالية)!! فلماذا عجز المثقف العربي عن تحمل مسئوليته كمثقف معرفي وظل طوال الأزمات العربية يركب عربة السلطة، كلٌّ في بلاده؟ ولماذا سقط الكثير من المثقفين في وحل \”الدولة القُطرية\”، معتبرين أن بلدهم على حق وبقية البلاد مخطئة على حساب التقارب والتصالح والوعي المعرفي الذي يفترض أن تصنعه الثقافة؟! وهل تبقي شيء اسمه مثقف عربي؟!
مجلة (الثقافة الجزائرية) – وفي إطار بحثها عن دور المثقف ومسؤولياته اتجاه الشعوب- طرحت هذه الأسئلة على عدد من المثقفين العرب وعادت بهذه الإجابات وكان ردهم.. نذكر أننا سنترجم الملف إلى اللغة الفرنسية لنشره في مجلة Lire الفرنسية الشهيرة وفق الاتفاق الأخير معهم على ذلك..

 د. نبيل سليمان (سورية): إنها أزمة الهوية المشبوحة بين الماضي والحاضر.
ليس صحيحاً أن المثقف العربي ظل طوال الأزمات العربية يركب عربة السلطة، كل في بلده. حتى في أزمة الخليج الراهنة، حيث يبدو المثال صحيحاً، رفع السعودي (جمال الخاشقجي) صوته خارج الجوقة. في حرب الخليج الأولى أصدر في سورية أربعون مثقفاً بياناً يعارضون فيه مشاركة النظام في الحرب، ومن أولاء عبد الرحمن منيف وفيصل دراج وسعد الله ونوس وبوعلي ياسين وآخرون منهم كاتب هذه السطور. وليس من أكثر الأمثلة التي عارض فيها مثقفون مصريون سياسات النظام منذ السادات حتى اليوم، أو عارض فيها مثقفون تونسيون نظام بن علي، أو عارض فيها مثقفون عراقيون نظام صدام حسين…. وبالطبع ليس أكثر أيضاً من الأمثلة التي تحول فيها المثقف إلى بوق للسلطة وتابع ومبرر، شأنه عبر التاريخ، وعندنا كما عند سوانا. ففي أوروبا، وفي أمس قريب، أيد الفيلسوف هايدغر النازية. وغيره أيد فرانكو بينما دفع لوركا رأسه ثمناً لمعارضته الفاشية الفرانكوية. ولا ننس سارتر الذي أيد السوفييت حتى اكتشفت الجرائم الستالينية. واليوم، كما في الأمس، ثمة مثقفون كبار أيدوا الصهيونية وأيدوا إسرائيل، كما عارضها آخرون. وهذا هو الحال، من دون التعميم، لا في حالتنا ولا في حالة سوانا. أما سقوط مثقفين كثر في وحل الدولة (القُطرية) فمناطه فيما آل إليه المشروع القومي العربي، وخصوصاً في الدول التي حكمتها أحزاب رفعت رايات القومية العربية والوحدة العربية، لكنها ضربت مثلاً رديئاً في الانفصالية والقُطرية والتفتيت والنزاعات والحروب البينة، وحسبي أن أذكّر من نسي بالصراع بين العراق وسورية في عهد الحزب الواحد: حزب البعث.
إنها أيضاً، بل وأولاً، أزمة الهوية المشبوحة بين الماضي والحاضر، بين العروبة والجزائرية أو العراقية أو السورية أو اليمنية أو… بل هي الهوية الممزقة داخل كل بلد، بالإثنية أو الطائفية أو الجهوية… من هذه الأزمة أخذ يخفت القول بالأمة العربية ليعلوا القول بالأمة الكويتية أو الأمة البحرينية أو الأمة الجنوب يمنية، (ويا سلام سلّم، الحيطة بتتكلم). في الوقت نفسه بين المثقفين المرموقين من ظل معيناً بما يجري في غير بلده، كعنايته بما يجري في بلده، وخير مثال هو موقف كثير من المثقفين اللبنانيين أو التونسيين أو الأردنيين من الزلزال الذي يعصف بسورية منذ سبع سنوات. وإذا صحّ بعض ما تقدم، فلازال ثمة مثقف عربي لم يتشيأ، لم تشيّئه لا الأنظمة، ولا الهزائم، ولا العولمة. أما مثقف الأنظمة أو الأسلمة أو العسكرة أو الذي يركب مركب المعارضة فيتحول إلى وحل السياسة، أو الذي يصير ممسحة للسياسي ولمن يدفع أكثر، أما هذا المثقف فليس غير شيء لن يتبقى منه شيء.

د. سعيدة خاطر الفارسي (شاعرة وناقدة من سلطنة عمان): نعم تبقى مثقف عربي!!
المثقف العربي في غالبيته تعوّد أن يمالئ السلطة ويسترضيها، وأن يكن معها في خندق واحد حتى لا يخسر خسارات مزعجة وكبيرة، تعلّم من خبراته التراكمية أنه لا داعي للتضحيات الكبيرة التي لا تؤدي إلّا إلى انكسار المثقف وتصادمه مع السلطة التي تستخدم أبشع الوسائل للقضاء عليه وعلى مقاومته وكسر شوكته والقضاء على من يحيط به من الأقارب . لذا تراجع دور المثقف العربي خوفاً من هذا البطش السلطوي غير المبرر . هذا من جهة أما من جهة أخرى فإنه للأسف قد يكون كثير ممن يحملون ألقاب (مثقف وكبير) .. لم يصنع لقبه (الكبير) سوى المؤسسة الرسمية التي تستطيع أن تستخدمه وقتما تشاء ضد خصومها بمسميات الوطنية والولاء والإخلاص للوطن وحاكم الوطن، وهؤلاء عادة مغدق عليهم كثير من العطايا والهبات ومن ثمّ هناك علاقة نفعيه بينه وبين السلطة. أما الذي سقط في وحل (الدولة القُطرية) فهو مثقف مصنوع وليس مثقفاً حقيقياً كما ينبغي أن يكون حرّ التصرف، حرّ الضمير، حرّ التفكير حرّ التوجه … لكنه في الحقيقة هو موجه ووعيه زائف مصنوع من الغير. أضف إلى هذا ضعف الوعي واختلاط الأمور عليه حيث تم الربط بين الوطن والحاكم بإحكام بدون انفصال، فلهذا تُعتبر ذات الحاكم مقدسة مثلما الوطن مقدس، ومن ثم كل ما يقوله الحاكم هو حق لأن الحاكم هو رأس الوطن. ويمنع الاعتراض عليه وإلّا تجاوز الأمر إلى الاعتداء على الوطن وخيانته في حد ذاته. كذلك النظرة الأبوية للحاكم بأنه الأب الذي لا يريد لأبنائه سوى المصلحة التي لا يفهمها سواه . وبكل تأكيد أقول: نعم تبقى مثقف عربي!! إذ لو خلت (خربت)، فهناك مثقف عربي في كل الأقطار العربية إلا أنهم من الندرة حتى يغطي عليهم سواد الواقع الراهن وانعكاسات التردي السياسي على كافة المجالات والأصعدة … المثقف العربي الحقيقي موجود وهو إما أن ينسحب رفضاً لهذا الواقع المرّ المؤلم الذي لا يستطيع تغييره، أو التكيف معه، أو أن يضحي بنفسه فداء لجماهير لا تقدر تضحيته … بل ستشارك السلطة في تشويه تلك التضحية وتلك المقاومة وتحاول أن تجعل من ذلك القدوة الشجاعة عبرة لمن لم يعتبر حياً، وتلاحقه بالتشويه ميتاً .

\"\"

أ.د. شريف بموسى عبد القادر (أكاديمي جزائري): دخل المثقف العربي في لعبة السلطة. 
تطمح أيّة سلطة كانت، إلى الاستمرارية في الحكم وتحسين صورتها وتنسيقها لدى شعبها والرأي العام العالمي. وكلّما زادت السلطة من دكتاتوريتها وظلمها، كلّما كانت الحاجة إلى تحسين صورتها وتنميقها أكثر. من هنا، يصبح المثقف (والعربي هنا على وجه الخصوص) طرفاً مهماً في عملية التلميع، حيث تسعى السلطة إلى استمالته وضمّه إلى صفّها باستعمال كلّ الوسائل الإغرائية، كالمنصب والمال من خلال الجوائز الثقافية والأدبية ذات القيمة المالية الكبيرة، والتي أصبحت من أهمّ أسلحة السلطة لاستمالة مثقفيها ومثقفي الدول العربية الأخرى. بهذه الطرق الإغرائية، وقع المثقف العربي في فخ السلطة وأصبح يدور في فلكها ويتكلّم بلسانها، لتصبح مسؤولية تحسين صورة السلطة وتزويقها مُوَكّلة إليه، وذلك بتنظيم جوائز ثقافية عربية وعالمية. وهذا ما حدث مع حكومة القذافي التي أرادت تحسين صورتها عالمياً، فأسّست جائزة القذافي العالمية للأدب بقيمة مالية ضخمة تبلغ 150 ألف يورو أي حوالي 200 ألف دولار. وقد مُنحت هذه الجائزة سنة 2009 إلى الكاتب الإسباني الشهير المقيم بمراكش خوان غويتسولو. لكنّه رفضها رفضاً قاطعاً لأسباب سياسية وأخلاقية كما قال في رسالة موجّهة إلى رئيس لجنة تحكيم الجائزة الروائي الليبي المقيم بسويسرا إبراهيم الكوني، حيث أعلن أنّ سبب الرفض هو المبلغ المالي المقدّم من الجماهيرية العربية الليبية التي :\”استولى فيها معمر القذافي على الحكم بانقلاب عسكري سنة 1969\”. في الضفة الأخرى نجد مثقفاً عربياً (كجابر عصفور) يسارع بلهفة لقبول الجائزة التي رفضها خوان غويتسولو لتنافيها مع أبسط مبادئ الأخلاق المهنية لأيّ مثقف يحترم نفسه.كما رفض الروائي الإسباني خافيير مارياس سنة 2012 جائزة بلاده إسبانيا وهي الجائزة الوطنية للرواية البالغة قيمتها 20 ألف يويو. وبرّر رفضه للجائزة التي تمنحها وزارة الثقافة الإسبانية ولكلّ الجوائز التي تمنحها أيّ جهة حكومية بقوله: \”لا أريد أن أكون مديناً للحكومة ولا لأخرى. إنّها مسألة ضمير.\” كما برّر رفضه بعدم رغبته في أن يقول الجمهور إنه يكتب حسب ذوق الحكومة. من هنا نرى أنّ المثقف الغربي يحاول دائما الابتعاد عن السلطة ورفض جوائزها إن كانت تحدّ من استقلالية رأيه، وبالمقابل نجد المثقف العربي يسارع بقبول أية جائزة حتى وإن كانت من نظام دكتاتوري ظالم كنظام القذافي مثلاً. لقد كان لاستحداث الجوائز العربية الكثيرة – ذات الصبغة العالمية – من طرف الأنظمة العربية هدفان :هدفها الظاهر هو دعم الأدب والثقافة العربيين وتشجيع الكُتَّاب على إعطاء أفضل ما لديهم. بينما يكمن هدفها الضمني والحقيقي في تلميع صورة هذه الأنظمة السلطوية المانحة للجوائز، وتكميم أفواه المثقفين العرب الذين لهم مكانة أدبية عالمية بجعلهم من منظمي هذه الجوائز أو من حكامها أو من الفائزين بها. من المفروض أن تقّرب الثقافة بين الشعوب ومثقفيها على وجه الخصوص، لكن حينما يتحزّب كلّ مثقف إلى دولته وينظمّ إلى صفّها حتّى وهي ظالمة ولا يقول قولة الحق بقلمه، فهذا يعني أنّ هذا المثقف أصبح أحد خدم هذه السلطة وأبواقها، فمادامت باقية قوية سيبقى معها يلعق يدها، وحينما تختفي أو توشك على ذلك، فسيُدير هذا المثقف (الحربائي) ظهره وقلمه لها، بل وينتقدها ويعدّد مساوئها ويجعل من نفسه أحد الثوار ضدّها. وهذا ما حدث مع أزمة الربيع العربي؛ فالذين أخذوا أموال القذافي، عادوا يتبرّأون منه ويتّهمونه ويهلّلون للثورة الليبية، إبّان سقوطه وبعده. هؤلاء المثقفون – إن جاز تسميتهم بذلك – ينسون مهام المثقف الأخلاقية والتنويرية حين يكون ذلك ضدّ سياسات السلطة وخطّ سيرها. فيصبحون أحد أبواقها الترويجية والتهديدية للآخر، يرون ببصرها ويتكلّمون بلسانها. لم يعجز المثقف العربي عن تحمّل مسؤوليته كمثقف معرفي تنويري ضدّ كلّ أشكال الظلام، بل إنّه يتهرّب من تحمّل هذه المسؤولية التي تجعله في مواجهة هذه السلطة التي ملأت بطنه بالذهب وفمه بالتراب. ولهذا لم يعد بعض المثقفين العرب يبتلعون ألسنتهم ويصمتون أمام المصائب السياسية التي تقع في بلدانهم، وإنّما أصبحت لديهم رغبة جامحة في إسكات المثقفين الآخرين من العرب أو غيرهم الذين لا يشاركونهم الرأي نفسه، كي لا يُشوِّشوا عليهم استمتاعهم بأعطيات السلطة تحت أسماء مستعارة (تكريم، جائزة، تشجيع). ولهذا فقد دخل المثقف العربي – برغبته أو بدونها – في لعبة السلطة من خلال الإغراءات المادية الكثيرة أو التعتيم الإعلامي في حالة رفضه. ولعلّ أزمة الخليج تعبّر بصدق عن وضعية المثقف العربي المأساوية، حيث لم نجد أصواتاً من المثقفين من دول الأزمة تنادي بضرورة الحوار والتقارب وتندّد بأيّ عمل من شأنه زيادة التوتر بين البلدان الخليجية. كما ابتعد المثقفون العرب عن إبداء أيّ موقف إيجابي تجاه أزمة الخليج الحالية، ربّما لاتباعهم سياسات بلدانهم أو طمعاً في مكسب مالي أو مكانة قد يندمون عليها إن اتّخذوا موقفاً تجاه بلد من هؤلاء، خصوصاً أنّ هذه البلدان صاحبة جوائز ثقافية وأدبية ذات قيمة مالية عالية.

د.سوسن جميل حسن (روائية سورية): المثقف لا يفنى. 
أظن أن المثقف لا يفنى ربما يتراجع دوره أو ينكفئ أو يصاب بالشلل والعجز، وقد يصاب بإحباط كبير ينجم عنه إما الصمت أو إنتاج أدب أو ثقافة مُحبطة، كما حدث للثقافة والإبداع بعد هزيمة حزيران 1967، فالثقافة منتج بشري، صحيح أنه يتأثر بالوضع العام، لكنه لا يكف عن التشكل ليكون صورة عن عصره. لا يمكن فصل المثقف عن السياق التاريخي لشعبه، فهو أيضاً فرد من مجتمعه يتأثر كما غيره بالتحولات الكبيرة وبالوضع العام، لكنه، باعتباره يحمل دوراً يفترض أن يكون رافعاً لقضايا الشعوب فإن مسؤوليته أكبر، والأضواء تسلط عليه ويدفع إلى موقع المحاسبة بسبب مواقفه. كما لا يمكن إغفال تأثره بالأزمة الوجودية التي تعاني منها الشعوب العربية من تشظي وهزيمة وارتهان. كثيراً ما نسمع على لسان المثقفين أنفسهم بأن دور المثقف هو دور تنويري، يعتمد على رصد ومراقبة الواقع المتأزم واستقرائه واستشعار التحولات الاجتماعية والعمل على إضاءة هذا كله لحماية الوعي العام من التضليل الذي تمارسه السياسة بأجنداتها وأدواتها التي باتت أخطر وأذكى من السابق في عصرنا الرقمي. لكن إلى أي حد تنسجم هذه التصريحات مع مواقف المنادين بها؟ هنا الطامة الكبرى. فكثير من المثقفين تم استقطابهم سياسياً. وإذا كان للمثقفين الأوروبيين دورهم المؤثر -وما زال- في الأزمات السياسية وغير السياسية، فالدول الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا هي دول منجزة ومستقرة إلى حد ما، تحقق فيها السياسات حدًا مقبولاً من الديمقراطية وتضمن الحريات، ومنها حرية الفكر، لا يخاف المثقف من صوته، ولا يُلاحق بسبب موقفه، فالنظام السياسي القائم على التعددية والتمثيل الشعبي ملتزم بالقوانين المتفق عليها إلى حد كبير، وهو مسؤول أمام الرأي العام، وعرضة للمحاسبة في حال الانحراف عن المبادئ التي صارت ثقافة عامة في مجتمعات تلك الدول، حتى إن المواطن الفرد في تلك الدول يمارس حريته ويتمسك في حقه بأن يكون له صوت ورأي دون الخوف من الملاحقة أو المحاسبة. في بلداننا لم يكن وضع المثقف والثقافة في حال حسنة على مدى العقود الماضية التي تزامن فيها استقلال معظم المنطقة العربية من نير الاستعمار الذي خلف وراءه كيانات سياسية تديرها أنظمة قمعية عاجزة عن دفع شعوبها في مسيرة الحداثة، وبعد أن أجهض مشروع النهضة التنويري. فكان الدور الأبرز لمثقف السلطة، حتى في السنوات الأخيرة التي شهدت ما يسمى الربيع العربي، وبرغم الزلازل التي أحدثتها الانتفاضات الشعبية التي دُفعت إلى العسكرة والاقتتال البيني، فإن المعارضات السياسية للأنظمة السائدة أنتجت أيضًا مثقفي سلطة خاصين بها، فتعمق الشرخ بين المثقفين، وتحول قسم كبير منهم إلى الاصطفاف السياسي مما أفقدهم القدرة على التأثير في حماية الوعي العام، وأفقدهم المصداقية أيضًا. وحتى لا تكون المسؤولية في هذا الأداء الأعرج للمثقفين في وقت الأزمات على المثقفين وحدهم، وهم في الوقت ذاته معرضون للضغط والمحاصرة فليس خافيًا موقف بعض المنابر الإعلامية والصحف في التضييق على الكاتب بالاشتراط عليه عدم الظهور أو الكتابة في منبر الخصم السياسي، كذلك الملاحقة التي تعرض إليها بعض الصحفيين بسبب تصريح ما، لا بد من الإشارة إلى أن هناك مثقفين حافظوا على استقلالية فكرهم وخطابهم، وبقوا مخلصين لدورهم المنحاز إلى قضايا الشعوب، لكنهم عانوا من التهميش والإقصاء، ولم تتبنّهم أية جهة لكي يوحدوا جهودهم ويكون لهم لقاءاتهم ومؤتمراتهم ومنابرهم الفاعلة، حتى إن الكيانات الثقافية الفاعلة أو المنظمة هي اتحادات أو منظمات تابعة للأنظمة السياسية، وبالتالي فإن مواقفها تتبع الجهة الراعية المحسوبة عليها. واقع الحال، لم يسقط الكثير من المثقفين في \”وحل\” الدولة القُطرية فحسب، بل انزلقوا في بعض الأماكن إلى وحول الشوفينية القومية، ومنهم إلى سجون العقائد الدينية، وهذا كله يدل على التشظي الوجودي في أزمة العرب الحالية. ربما يأتي الجيل الشاب، جيل ما بعد الربيع العربي ببرنامج جديد يؤدي الدور المفقود المرصود للمثقف.

\"\"

أ. إبراهيم مشارة (كاتب أكاديمي جزاري): تراجع دور المثقف.   

منذ مقالة إميل زولا (1840/1902) الشهيرة حول ما يعرف بقضية دريفوس لم يعد بالإمكان الفصل بين المثقف والوظيفة الاجتماعية والمدنية الموكلة به والدور الذي يلعبه المثقف في مسار التنويروالدفاع عن العدالة والحق ومناهضة التطرف والاستبداد فالثقافة وظيفة حيوية لا غنى عنها لأي مجتمع ولا تنفصل البتة عن الدين وعن السياسة وعن الواقع في صيرورته التاريخية.
في تراثنا الفكري وجد مثقفون تنويريون رفضوا ركوب الموجة وادخروا صوتهم لفائدة المجموع مع نقد الواقع اجتماعيا دينيا وسياسيا وتحضرني حالة أبي حيان التوحيدي (922/1023) صاحب كتاب\” مثالب الوزيرين\” أي الصاحب بن عباد وابن العميد فهو ينتقد ثقافة السلطة تلك التي تعني الإحاطة من كل علم بطرف وحفظ الأشعار لمسامرة السلطان على حساب فقر العامة وجهلها. كما تحضرني حالة أبي العلاء على الرغم من سلبيته إزاء المرأة والحياة عموما لكنه كان مثقفا تنويريا مارس الحفر المعرفي وانتقد السلطة والدغمائية والشعبوية وندد بالظلم السياسي والطبقي وتحمل تبعات وخيمة نتيجة عقليته الانتقادية وتحضرني حالة العز بن عبد السلام(1181/1262) والذي كانت وقفته التاريخية المشهورة مع أمراء المماليك ورقة بيضاء ناصعة في جبين العالم المسلم ودوره في مناهضة الاستبداد. وفي الغرب تكرس هذا الدور منذ فلاسفة الأنوار ديدرو ومونتيسكيو وفولتير وميرابو خطيب الثورة الفرنسية وانتهاء بتظاهرات سارتر في بولفار سان جرمان انطلاقا من مقهى فلور ضد جرائم فرنسا في الجزائر ومرورا براسل في بريطانيا وتظاهراته ضد الاستغلال السلبي للسلاح النووي.
نأتي إلى واقعنا هل عدمنا مثقفين؟ سئل أدونيس هذ السؤال فأجاب يوم يتهيأ المثقفون لدخول السجون نتقدم. كثير من المثقفين لما دخلوا في ركاب السلطة واقتسموا الغنيمة فضلوا الوزارات وقصور الثقافة والمناصب والتسابق على الجوائز والانحياز القطري الضيق على حساب الرابطة القومية والإنسانية صار المثقف يعيش بعقلية المناصر في المدرجات لا بعقلية الباحث عن الحق والناقد وكأنه يؤكد مقولة الشاعر العربي القديم:
وما أنا إلا من غزية إن غوت** غويت وإن ترشد غزية أرشد
تراجع دور المثقف وصار خادما للسلطة وتابعا لها ومعيدا لإنتاج خطابها القطري الضيق والنفعي الضيق على حساب المصلحة القومية وذلك يعني بقاء الواقع على ماهو عليه حالة التراجع الحضاري والتشذرم القطري والإفلاس المعنوي والمصالح المتضاربة والولاءات المتضاربة وهذه الطبقة بيدها الإعلام ودور النشر واللمة الجماهيرية ودعم السلطة وهذه الفئة لا يعول عليها. وقليل من المثقفين ممن يرفض بيع العرض وابتذال النفس يجاهدون وهم معزولون من كل وسائل الدعم كالإعلام ودور النشر ومعزولون عن الجماهير بفعل التحذير منهم ولكنهم لا يؤثرون في الوقت الحالي بسبب أقليتهم وعزوف الجماهير عنهم واتجاهها إلى الفكر الاستهلاكي السطحي المتماشي مع موجة العصر العولمي،إنها فئة حكيمة لا تغلب المصلحة القطرية الضيقة وتدعو إلى الحكمة، الرابطة القومية ويشكل الصراع العربي الإسرائيلي مظهرا جليا لها، وموقفها الراسخ من فكرة الدول الإثنية التي يراد إنشاؤها. نحن نعيش واقعا مزريا حالة الحطام المفتوح بتعبير الدكتور الطيب تيزيني انحطاط فكري، تراجع حضاري، استبداد سياسي تشرذم قطري دول إثنية سيتم نشاؤها ،ردة علمية غياب الحريات أين هم المثقفون؟ لماذا لا يؤدون دورهم في التنوير والتطوير والنضال من أجل كرامة الإنسان من أجل العدالة والحق والمساواة من أجل العلم والديمقراطية والحريات
وهل من يسكت مقابل نيل حظه من غنائم السلطة هو مثقف حقا؟ ماذا تكون الثقافة إذا لم تكن دفاعا عن كرامة الإنسان ودفاعا عن الحق والعدل والحرية والعلم والإنسان ذلك المخلوق البديع الجميل الذي ابتذلته ضرورات الحياة وقتلت كل أثر فيه للوهج الإنساني

الناقدة والأكاديمية د.إسراء عامر (العراق): المُثقفُ مواطنٌ قبل ثقافته
نعم، مازال هناك مثقفونَ عربٌ، والمُعادلةُ المُرتكزةُ في الأذهان، أنّ كُلَّ مُثقفٍ سياسيٌّ أو كُلَّ سياسيٍّ مُثقفٌ، مُعادلةٌ غير صائبةٍ.
أنا شخصيًّا بعيدةٌ عن عالمِ السِّياسةِ، غير أَنِّي قارئةٌ وناقدةٌ لفِكرِ المُبدعينَ، الَّذِينَ بدورهم يقفونَ على الواقعِ وقفاتٍ نقديةً، أيًّا كانَ هذا الواقعُ، مُعتمدةً في عملي على مجساتِ الاستذواقِ واللُّغةِ والتعبيرِ الصَّادقِ والبليغِ في إيصالِ موضوعةٍ ما أو صورةٍ ما. والمُثقفُ مواطنٌ قبل ثقافته، ومواطنته تُعلِمُهُ أنّ الوطن أولاً، فهو هويتُهُ وملاذُهُ، حتى إِنْ كانَ هناك ما ينتقدُهُ فِيهِ، فهذا لا يعني الإشهار أو بتعبيرٍ أدق التّشهير بهِ ليكونَ عُرضةً لانتقاص الآخرينَ منه، ليس درءًا عن النّفسِ وإنّما تقديرٌ لَهُ، ولأرضهِ، وأبنائه، وجميع مُعطياتهِ، وَإِنْ لم يجزل. والمواطنُ نفسُهُ، تذبُّ عروبتُهُ المُتأصلةُ فِيهِ، عن إخوانهِ العربِ، وتذبُّ إنسانيتُهُ التي جُبِلَ عليها عن بني جنسهِ من البشر أيًّا كَانَت مشاربهم.
ونبقى، نحن العرب، مهما اختلفنا أبناء وطن واحدٍ، تجمعنا مقومات عدة ثابتة، وما هذا الاختلافُ أو ذاك إلاّ رياحٌ طبيعيةٌ حتى بينَ إخوةِ الْبَيْتِ الواحدِ، قد تشتدُّ في حين، وقد تهدأ في أحايين.

أ. محمود سليمان (كاتب واعلامي مصري): يجب تحرير المثقف من الهيمنة السياسية والإملاءات الأمنية

اسباب عديدة ساهمت فى الوضع الحالىً للمثقف العربى بعضها جاء بفعل المثقف نفسه والبعض الاخر يعود للظروف والعوامل المحيطة والقوانين والممارسات السياسية. ولعل فى مقدمة هذه الأسباب الالتباس فى مفهوم المثقف ذاته ومدى حجم المعرفة التى يجب توافرها فى المثقف وعلاقة ذلك بالإبداع ومدى إيمانه بحرية الراى والاعتقاد لدى أمة تصنف على انها اقل الامم من حيث القراءة والاطلاع باعتبارها الرافد الأساسى للمعرفة التى تنتج الوعى الذى يصنع حاله معرفية يمكن اسقاطها على شخص ووصفة بالمثقف، وقد تاثر المثقف فى عالم تحكمه الأسهم والسندات والقنابل والصواريخ وتراجع الاهتمام الرسمى بإلحاله الثقافية العربية وتضائل المساحات المخصصة فى وسائل الاعلام للمكون الثقافى العربى التى شهدت تراجعا ملحوظا لصالح الرياضة والاقتصاد التى احتلت مساحات كبرى بعد ان تم تحويلها لعوائد اقتصادية خاصة مع توسع العرب فى الاعلام الخاص الذى يقوم على الربحية .الامر الذى جعل المثقف اداه طيعة لإنجاز ما يخدم رؤس الأموال المتداولة. وبفعل القفزات المتلاحقة فى الأسعار وثبات الدخول خلقت مثقف تحت الطلب ينجز ما يطلب منه وليس ما يُؤْمِن به او يمكن تصنيفه على انه ابداع ثقافى وكذلك غياب القضايا الوطنية سواء القطرية منها او القومية والتجاذبات السياسية لم تمنح المثقف الفرصة الالتفاف حول هدف واحد وإنما تم تجزءة اهتماماته وتسخير قدراته حسب مصالح ضيقة تخدم التوجهات السياسية طوعا او كرها. الممارسات السياسية للدول والحكومات التى لم تعترف بدور الثقافة والفنون وقدرتها على إصلاح ما أفسدته السياسة باعتبارها القوى الناعمة التى يمكن ان تشكل احد الروابط والمرتكزات التى تضمن وجود قدر من التواصل رغم الخلاف او الاختلاف ومهما كانت الأسباب والمسببات .وكذا تقويض حرية الراى والابداع التى يفترض انها مكفولة للجميع بموجب كل الدساتير العربية. اما لماذا تخلى المثقف العربى عن دوره وفضل البقاء فى عربة السلطة فمرجع ذلك للممارسات السياسية والأمنية التى لا تؤمن بحرية الرأى بعد ان اصبح الاختلاف فى الرأى فى عرف السلطة مرادفا للعمالة والخيانة وخروجا عن الاصطفاف الوطنى فإما ان تكون مع السلطة او ضدها فلا منطقة وسطى يمكن ان تشكل ملتقى للفكر البناء الذى يعالج الكثير من القضايا سواءا القطرية منها او القومية. وعلى خلاف المفترض وبدلا من ان يشكل المثقف العربى حائط صد تتحطم عليه الخلافات العربية باشكالها المختلفة كان هو احد أدوات الخلاف بعد ان تخندق البعض منهم فى خندق السياسة وتناسى دوره كمبدع يحب ان تكون نظرته للأحداث نظرة عقلانية تسهم فى توصيف حقيقى للأحداث ومدى إمكانية البناء على الثابت المشترك بدلا من الدوران فى سياق الاستثناء المتغير لكن الشواهد تؤكد خلاف ذلك بعد ان وقع الكثير منهم فى فخ التراشق والتنابذ بالالقاب والخروج تماما عن كل مباديء اللياقة المفترضة، وكعادة الأزمات التى يتضح فيها اسوأوافضل ما فى البشر أظهرت أزمة الخليج الحالية مدى تراجع المثقف العربى عن دوره وانحيازية للتوجهات السياسية لدولته على حساب القضايا الإقليمية وسقط الكثير فى فخ الهجوم والاساءه والادعاء والتجنى وخلت الساحة العربية من وجود مثقف منصف يُؤْمِن بالبعد القومى العربى ويدرك مخاطر التفتت والتشرزم الا من رمز ثقافى امنا بقدرته على تبنى رؤية ثقافية تعول على المشترك حيث قدم الاعلامى والمثقف القطرى \”سعد الرميحى \”طرحا مختلفا جاء مغايرا لما انتهجه الآخرين .ووسط تداعيات أزمة الخليج الحالية اكد الرميحى على أهمية دول العروبة والجوار واستعرض الكثير من المواقف المشرفة لهذه الدول وهو طرح مغاير وسط اجواء ملتهبة .وكانت تلك الرؤية فى حاجة لالتقاطها لتشكل مسارا اعلاميا وثقافيا يدفع فى إيجاد حلول سريعة للازمة بدلا من الدوران فى فلكها لكن ايا من الهامات الثقافيه والعربية لم ينجح فى مجاراة الرميحى رؤيته الامر الذى جعل المثقفدالعربى فى دائرة الاتهام والاستفهام.. والسؤال المطروح هل تبقى شىء يمكن ان يطلق عليه المثقف العربى والجواب يحيلنا الى بداية الحديث لتحديد تعريف واضح للمثقف وعدم الخلط بين الاعلامى والمثقف وكذا بين اصحاب الدرجات العلمية العالية وبين الثقافة التى يفترض انها تمثل الوعى المعرفى الذى يقود للابداع الذى يشكل بدوره وعى الشعوب، فمازلت لدينا رموز يمكن ان تشكل روافد لمدارس وتوجهات ثقافية على أسس سليمة شرط ان يتحرر المثقف من الهيمنه السياسية والإملاءات الأمنية وعدم الخلط بين حرية الراى والتعبير ومترادفتها المستجدة فى فقه السلطة وتوفير مناخ ابداعى مع عوائد تضمن للمثقف حياة كريمة تمكنة ان يؤسس لوعى مجتمعىً يؤثر فى منظومة القيم والسلوك فالأمم لا تتقدم بمعزل عن أخلاقها ..