المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

إلى روح الجابري: نرجو أن يبقى العقل العربي على رأس عمله!

محمد عثمان محمود*

لا يشك المتابع للشأن الفكري العربي المعاصر في أن محمد عابد الجابري من أهم الذين أغنوا حياتنا الفكرية بالكثير من الفرضيات الأكثر إشكالية وإثارة للجدل، وخاصة بمنهجه في البحث داخل التراث العربي الإسلامي الذي أراد الجابري الانطلاق من رحمه والحفر فيه لاستنطاق نصوصه في محاولة دائبة لنفض غبار التغييب الذي لحق به ،وصولاً إلى الوقوف عند ما شاء تسميته بالعقل البرهاني (العلماني والعقلي) وتمييزه عن العقلين البياني والعرفاني (الديني واللاعقلاني)…

منذ أن تتلمذنا على أيدي جيل هام من أساتذة الفلسفة في جامعة دمشق (التي درس الجابري عامه الأكاديمي الأول فيها) ونحن نلاحظ حضور اسمه (الجابري) بشكل لافت لديهم ولاسيما الدكتور طيب تيزيني،  ولم نكن لنعي سبب هذا الحضور إلا عندما بدأت قراءاتنا تنتقل إلى رحاب الفلسفة والفكر خارج المناهج الجامعية حيث أذهلنا عدد الباحثين والمفكرين الذين أفردوا للرد على أطروحات الجابري العديد من الأبحاث والكتب في مشهد بدا لنا دائماً محسوباً لرصيد الجابري الفكري سواء اتفقنا معه فيما يطرح أم لم نتفق وذلك لسبب جوهري يتلخص بالقول :إن الجابري قد نجح في حث واستفزاز الكثير من الباحثين والمفكرين بأسئلته وفرضياته الإشكالية التي عبرت فيما يبدو بحق عن روح الفلسفة المشغولة بتوليد العقول (كما كان سقراط اليوناني يقول) وبطرح الأسئلة التي هي أهم من الأجوبة عند الفيلسوف المبتلى بالقلق الفكري والوجودي دائماً.

لقد أثار الجابري بإشكالياته التي طرحها حول نقد العقل العربي (بنيةً وتكويناً ثم في السياسة و الأخلاق) حفيظة معاصريه بصورة غير مسبوقة وخاصة أن هذه الإشكاليات قد انتهت إلى عدد من المقولات، لعل أهمها وأشهرها: تقسيم العقل العربي الإسلامي إلى المدرسة المشرقية والمدرسة المغربية، الأولى بيانية عرفانية والثانية برهانية ، فاستغرق ذلك عند جورج طرابيشي عشرين سنة هي عمر مشروعه الذي استنفده في الرد على مشروع الجابري من خلال إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي، الأمر الذي قاده إلى إنجاز عمل موسوعي لم يتوقع هو نفسه (طرابيشي) أن تقوده الردود على الجابري إليه وهو (نقد نقد العقل العربي:العقل المستقيل في الإسلام)، ورغم دفاع طرابيشي عن خصوصية مشروعه وعن كونه قد تجاوز نقد الجابري إلى إعادة قراءة وحفر وتأسيس العقل العربي فإنه يقر بأن الجابري كان قد قدم له المناسبة والتكئة ونقطة الانطلاق ليصل في نهاية المطاف إلى تأكيد عقلانية الإسلام الحضاري من خلال منهجه التحليلي _ التاريخي الذي اتبعه.

أما طيب تيزيني مؤلف كتاب (من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي: بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية) فإن أطروحات الجابري كانت مركز اهتمامه التي كان يرى أن خطورتها تكمن في طرحها من قبل واضعها على أنها \”عصر تدوين جديد\” مما دفع بأحد المبهورين فيها إلى القول : إن الدارس للتراث العربي الإسلامي صار لديه، عبر ما حققه هذا الباحث(الجابري) خريطة تضبط له منطلقه ورؤيته… كما رأى كاتب آخر أن الجابري قدم من الإنتاج الفكري ما يجعله جديراً بوصف \”صاحب مقالة\”… وهذا ما رأى فيه تيزيني دعوة (غير مقبولة لديه) إلى صياغة \”أنساق مغلقة\” قد تفصح عن ما أسماه \”لا تاريخية فاضحة\”،ولعل أهم ما كان يثير حفيظة تيزيني في ما يطرحه الجابري هو ما قال إنها نزعته المغاربية الاستعلائية التي كان يؤكد(الجابري) على أنها تتميز عن النزعة المشرقية بالاستعداد للتفكير العقلي البرهاني وليس التفكير العرفاني والبياني، مما دفع به (تيزيني) إلى اتهام الجابري بالخضوع لاعتبارات أيديولوجية أبعد ما تكون عن الاعتبارات المعرفية الإبستيمولوجية، ولعل أهم رد على نزعة الجابري المغاربية هو ذلك الذي جاء من جهة مواطنه الدكتور طه عبد الرحمن الذي كان من أشد ناقدي فلسفته ومنهجه التجزيئي للتراث العربي الإسلامي في كتابه المنهجي الهام (تجديد المنهج في تقويم التراث) الذي يصف فيه منهج الجابري بالقاصر والمتهافت ليصل إلى الدعوة لاتباع منهج يعتمد النظرة التكاملية من خلال وسائله (التراث) المنبسطة داخله…

لقد ترك الجابري إرثاً فكرياً ضخماً ناهز الثلاثين من الأعمال الفكرية والفلسفية الهامة ومنذ ثلاثة عقود تقريباً وهو يشغل الساحة الفكرية العربية بأطروحاته التي أسلفنا الحديث عنها والتي كان أهمها ما افتتح به مشروعه الفكري وهو كتاب \”نحن والتراث 1980\”  وصولاً إلى إنجاز سلسلته النقدية ذات الأربع محطات وهي \”تكوين العقل العربي1984\”و\”بنية العقل العربي1986\”و\”العقل السياسي العربي1990\”و\” العقل الأخلاقي العربي2001\” ليبدأ بعد ذلك بالولوج إلى مرحلة لعلها الأكثر حساسية في منهجه النقدي حيث أصدر\”مدخل إلى القرآن2006\” ثم بدأ بتفسير القرآن الكريم فأصدر القسمين الأول والثاني منه عام 2008 ثم أصدر الثالث عام 2009.

الحق إنه بقدر ما كان للجابري من خصوم فكريين فإن له الكثير من المؤيدين والمنسجمين مع منهجه ونتائجه ، وبالطبع فإن المقام هنا لا يتسع للمرور عليهم جميعاً ولكن المهم في هذا السياق ومن خلال الأمثلة المذكورة التأكيد على أهمية الرجل المفكر الذي غادر حياتنا الدنيا منذ أشهر، والتنبيه إلى أنه كان مثيراً للنقاشات في الكثير مما كان يطرح من قضايا وإشكاليات تبدو لنا وللمتابعين في غاية الأهمية باعتبارها قضايا نهضوية جادة، ولكن المثير للقلق بالنسبة إلينا هو ما قرأناه في بعض المواقع الإلكترونية من تهنئة وتبريك بوفاته؟!، في مشهد يبدو لنا معبراً عن نظرة ضيقة وأفق محدود لما كان يطرحه الرجل (رغم اختلافنا معه وخاصة فيما نرى أنها أخطاء عقيدية وفكرية ومنهجية) ،حيث نعتقد أنه لا سبيل لأمتنا للنهوض إلا بتوسيع هوامش النقد والاستعداد لنتائجه مادام في إطار حرية الحوار والاختلاف، وعلينا أن لا نكرر أخطاءنا التاريخية في تغييب ومحاربة مفكرينا ومبدعينا حيث لم يتورع كثيرون منا يوماً عن محاربة الفقيه والفيلسوف الكبير ابن رشد الذي خاض تجربة حوارية راقية مع الغزالي(تركز ذلك في كتابيهما الشهيرين :تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت) في صورة جسدت مساحة القدرة على القول والاختلاف في ثقافتنا وحضارتنا ، فرغم فقه الرجل وعدالته (ابن رشد) فإنه لم يكن بمنأىً عن سهام الاتهام والتضليل ولم يشفع له كتاب( \”بداية المجتهد ونهاية المقتصد\” وهو كتاب يأصِّل للفقه بامتياز) في ردع الظلاميين عن إقصائه وتغييبه مما أفقد ثقافتنا منهجاً كان مرشحاً لأن يشكل مفتاحاً للتقدم والنهضة لو أتيحت له فرص التطوير والتأسيس عليه ، حيث ظل في إطار التغييب الذي يبدو ممنهجاً قروناً عدة ليأتي المستشرقون المؤدلجون أمثال آرنيست رينان (في كتابه :ابن رشد والرشدية) ويعيدوا اكتشافه ويقوموا بتوظيفه فكرياً وأيديولوجياً أسوء توظيف، في الوقت الذي يقوم فيه الإسرائيليون مثلاً بالبحث عن مفكريهم وفلاسفتهم بالمجهر في محاولة التأكيد على الجذور الفكرية والحضارية لهم بأي ثمن ليصل الأمر إلى درجة الاهتمام والاحتفاء بفيلسوف كسبينوزا الذي تبرّأ من يهوديته وغيَّر اسمه من باروخ (اليهودي الدلالة) إلى بينيدكت (المسيحي الدلالة) ونقد التوراة والدين اليهودي صراحة ضمن خلاصة فكره \”رسالة في اللاهوت والسياسة\”.

الجابري رحمه الله امتداد لعقل نقدي لم ينقطع طيلة مراحل حضارتنا العربية الإسلامية ولكنه ظل مغترباً وبدا كعبء ثقيل على الجمهور والسلطة الموجِهة لثقافته (الجمهور) بما ينسجم مع مصالحها واستمرارها ، وهو عقل كان قد بدأ مع المعتزلة والأشاعرة.. ومر بالكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن طفيل.. ووصل إلى الأفغاني وعبده ..وغيرهم ، لذلك نرجو أن لا يقدم العقل العربي استقالته نهائياً ، وندعو الأمة إلى أن تعي ضرورة توفير المناخ الملائم للنوابت البشرية النابغة التي تحدث عنها ابن باجة (في كتاب تدبير المتوحد) كي تنمو وتزهر وتعطينا من ثمارها التي بِتنا بأمس الحاجة إليها في زماننا العربي والإسلامي الحالي المتميز بالأزمات والنكبات ليس في مستواه الفكري فحسب وإنما في سائر مستوياته وشؤونه.


*محمد عثمان محمود كاتب وصحفي فلسطيني