زهرة بوسكين الأديبة، والشاعرة والإعلامية والأستاذة الجامعية لها تجربة إبداعية مميزة تستمد مادتها من الإنسان وقضاياه الوجودية وتعبّر عنها برؤية بسيكولوجية وفلسفية عميقة ولغة شاعرية مرهفة. في رصيدها العديد من الجوائز العربية ومنها جائزة (سعاد الصباح) بالكويت وجائزة (ناجي نعمان) في لبنان وجائزة (القلم الحرّ) بمصر.. بالإضافة لاختيارها ضمن أنطولوجيا عالمية للشعر الحديث. من أعمالها: كتاب (عيون السؤال) وفي الشعر (إفضاءات من زمن الدهشة) و(غوايات المعنى) وفي القصة (زهرة والسكين) و(مسافات الملائكة) وغيرها.. المجلة الثقافية الجزائرية تواصلت مع الجميلة زهرة بوسكين فكان هذا الحوار:
حاورتها: باسمة حامد
التكامل الجميل
• المجلة الثقافية الجزائرية: لنبدأ من زهرة بوسكين المبدعة التي درست علم النفس وعانقت القلم والميكروفون معا.. كيف تفسرين هذا التداخل ضمن مشروعك الإبداعي والإنساني والمعرفي؟
زهرة بوسكين: أسميه التكامل الجميل فأنا لست ممن يكتفون باتجاه واحد في الحياة وأفضل تعدد الاتجاهات، علمياً وثقافياً وإعلامياً وإنسانياً بشكل عام، ودراستي لعلم النفس مثلت اتجاه مهم الى جانب اختصاصي الأول في الاعلام واشتغالي فيه لسنوات طويلة، وأعتبر جميع الاختصاصات تكمل بعضها البعض وكل العلوم تخدم بعضها وهذا ما أقوله باستمرار لطلبتي أيضاً بالجامعة وما أستخلصته من تجاربي المتواضعة في الحياة، وأحد برامجي الاذاعية (نبض الواقع) هو الذي دفعني إلى التعمق في تفاصيل الحالات المختلفة التي تناولتها فجاء علم النفس بكل ما حمله من إضافة مهمة خاصة لنمط الكتابة عندي، لأن النصوص النفسية قليلة وحتى مجال النقد النفسي يعتبر قاصراً إذا لم يكن صاحبه يمتلك الأدوات السيكولوجية والمنهج النفسي الصحيح، لذلك أعتز كثيراً بتعدد اتجاهاتي العلمية وكذا الإبداعية التي تكمل بعضها وتكملني في مختلف مواقعي.
الإبداع يمنحني القوة
• المجلة الثقافية الجزائرية: في حوار سابق قلت: “الجمع بين الصحافة والكتابة من الأمور التي يصعب التوفيق فيها”.. كيف تتغلب المرأة المبدعة على صعوبات اليوميات بحيثياتها التي تعرفين؟
زهرة بوسكين: بالفعل قلت هذا منذ سنوات على أساس الاختلاف في نمط الكتابة الإعلامية عن الكتابة الأدبية، فالمقال الصحفي والخبر والتحقيق بلغة وسطى موجهة للجميع قد يقتل نصوصاً شعرية او سردية جمهورها نخبة محددة، لكن مع مرور السنوات ونضج التجربة تتغير العديد من أفكار الإنسان وقناعاته، فلم يعد التوفيق بين نمطي الكتابة متعباً بالنسبة لي بل صالحت بين النص الشعري وتحرير الخبر أو المقال أو العمود، واستفدت كثيراً من تجربتي الإعلامية في الكتابة السردية خاصة لأن المبدع والمثقف لابد أن يخلق المنافذ الآمنة لقلمه ونصوصه. ولا يختلف هذا الأمر عند المرأة المبدعة في متاعبها اليومية والتفاصيل الروتينية لأن الإبداع متنفس مهم وأعتبره رئة ثالثة يمنحني القوة دوماً للاستمرار ولتحقيق الأفضل.
علم النفس أداة مهمة في نصوصي
• المجلة الثقافية الجزائرية: التوظيف النفسي جاء لافتاً للانتباه في نصوص (مسافات الملائكة) و(ما لم تقله العلبة السوداء).. إلى أي حد أنت مدينة لتخصصك (علم النفس) في عملية الغوص ليس في عمق الشخصية فقط بل في عمق النص نفسه؟
زهرة بوسكين: الكتابة عند الإنسان تمرّ بمراحل نضج مختلفة تصقلها تجارب الحياة وتعدد القراءات وعلم النفس أعتبره أداة مهمة منحت لنصوصي عمقاً وتميزاً، فالتجربة مثلاً في “مسافات الملائكة” و”ما لم تقله العلبة السوداء” تختلف عن التجربة الإبداعية في “الزهرة والسكين” و”افضاءات من زمن الدهشة” و”كي لا تغيب الشمس” حيث مكنتني النظريات النفسية وأساليب التشخيص والعلاج والتحليل من إتقان صناعة الشخصية في أي نص وتحديد هويتها النفسية، وقمت بتوظيف العديد من النظريات البسيكولوجية في نصوصي خاصة في كتاب “ما لم تقله العلبة السوداء”، فالإبداع لغة واللغة ليست ترجمة عابرة للأفكار فقط بل هي وسيلة تشخيص وتحليل مرتبطة بلاشعور الانسان فاللغة هي مرآة اللاوعي حسب عالم التحليل النفسي جاك لاكان. هذه المرآة العاكسة أحاول أن أنظر من خلالها إلى الكثير من القضايا وأعيد ترتيب عالمي الإبداعي باكتساب توجهات جديدة.
النقد النفسي مرتبط بالجانب العلمي
المجلة الثقافية الجزائرية: ما دفعني لهذا السؤال هو الانتقادات التي وجهت للمنتج الأدبي العربي ذا الطابع النفسي هل تتفقين مع من يقول :”منتج يعتمد على الأنا عبر إعادتها إلى السردية الكلاسيكية”. وهل النجاح هنا مرهون بمدى ثقافة الكاتب وسعة اطلاعه على علم النفس ونظرياته ؟ أين يكمن الحل برأيك؟
زهرة بوسكين: هي مقولة قريبة جداً من واقع الإبداع العربي ومن مختلف القضايا وهذا ليس انتقاصاً من قيمة المنتج العربي، فالإنسان في مختلف المواقف والأوضاع والظروف ينطلق من ذاته أي من أناه، كل فرد يعتبر ذاته محور الوجود وكل الأمور تدور حوله بدرجات مختلفة من فرد لآخر حسب تنشئته ومعاشه النفسي وظروفه الاجتماعية و..و..، لذلك نختلف عن بعضنا في أسلوب التفكير والسلوك، وهو أمر عادي مرتبط بطبيعة الانسان لكن إذا تجاوز الحد الطبيعي وصار “تضخم الأنا” يتحول إلى اضطراب نفسي أو يسبب عدة اضطرابات نفسية تنعكس بالتأكيد على الكتابة والإبداع ويمكن ملاحظتها بسهولة وموجودة في العديد من النصوص العربية شعراً وسرداً وعبر مختلف الحقب الزمنية.
لكن في مجال النقد النفسي حين ينتهجه الباحثون في الأدب مهما علت مستوياتهم الأكاديمية (المختصون في الأدب العربي) يبقى النقد النفسي لديهم قاصر وفيه ثغرات علمية لأنهم رغم الاجتهاد لا يمتلكون الجانب العلمي المعمق في علم النفس وهذا موجود في بعض التجارب الجزائرية القليلة، لأننا بصراحة نعتمد على نقد المجاملات والمصالح والمعول لا التصويب والتقويم، (حلل نصي ونحلل نصك.. قدملي قراءة في محاضرة ونعرضك المرة القادمة لملتقى…إلخ مما نعرفه جميعاً)
أما على مستوى النصوص الابداعية فالمنتج العربي والابداع الجزائري بألف خير من حيث جدية وجودة الكتابة وعمقها ليبقى النجاح مرهون بثقافة المبدع وسعة اطلاعه وسعيه دوماً إلى تطوير كتاباته خارج إطار الغرور ونصوص الفاست فود..الاشتغال على الذات المبدعة هو أساس النجاح.
القارئ والكتاب
• المجلة الثقافية الجزائرية: في كتابك (عيون السؤال) لاحظنا انشغالك بأسئلة الانسان.. برأيك ما مدى اهتمام القارئ العربي بالأسئلة الوجودية مع انغماسه بمشكلاته اليومية (الوظيفة/المأوى/ لقمة العيش)؟
زهرة بوسكين: بالفعل “عيون السؤال” تضمن الكثير من الأسئلة الوجودية أسئلة الإنسان، في عالم يسير بوتيرة متسارعة يعيش فيها الانسان العربي ظروفاً صعبة تتعلق بالوظيفة أو المأوى أو العمل وهذا في كل المجتمعات وأنا فرد من مجتمع عربي فيه كل هذه الانشغالات وأكثر، وهي في حد ذاتها ليست في معزل عن أسئلة الوجود لأنها تدخل ضمن احتياجات الإنسان الطبيعية حسب هرم ماسلو، ومن أساسيات الحاجات التي تضمن الأمان والاستقرار.
وبالمقابل القارئ أيضاً مستويات وأنواع والقراءة تعتبر ظاهرة سيكولوجية معقدة فمثلاً عالم النفس روباكين دعا إلى تأسيس “علم النفس المكتبي” وعلماء النفس درسوا أيضاً سيكولوجية القارئ وأنجزوا العديد من الدراسات التي تركز على دوافع القراءة وتنظر الى القارئ كنمط نفسي قرائي معين له اتجاهات مختلفة يشارك وجدانياً في النص وكل قاري يلجأ للكتاب لتلبية احتياجاته المعرفية أو العاطفية أو العملية…من خلال هذا التداخل المهم تتشكل علاقة القارئ بالكتاب وحرية اختياراته وحاجته للقراءة.
اللغة الشعرية والنص السردي
• المجلة الثقافية الجزائرية: يرى بعض النقاد أن طغيان لغة الشعر على النص السردي إشكالية لا تخدم الكاتب كونها تثقل القارئ بطوفان لغوي يشتت ذهنه على حساب الفكرة وعناصر السرد.. كيف تتعاملين مع هذه النقطة ككاتبة وشاعرة؟
زهرة بوسكين: هي نقطة اختلفت فيها الآراء التي أحترمها كلها لكنني أرى أنها إشكالية لا تخدم بعض النقاد والباحثين فقط، لأنه ليس كل ناقد بكاتب، هناك روايات متقنة النسج سردياً لكنها جافة ومملة، هنا القارئ بريء من ذلك لأن القارئ كما أسلفت الذكر أنواع وأنماط، واللغة الشعرية تضفي جمالية خاصة على النص السردي وبالتالي تجعل القارئ المتذوق يعيش متعة النص.
أتعامل مع الشعر باستسلام
المجلة الثقافية الجزائرية: القصيدة رئة أخرى للشاعر.. كيف تتعامل زهرة بوسكين مع مزاج الشعر وتقلباته وأوجاعه؟
زهرة بوسكين: أتعامل معه بكل استسلام.. وأستمتع بكل التقلبات المزاجية.. أتنفس شعراً وأحسه رئة ثالثة تحمل أكسجيناً مختلفاً يمنحي الحياة التي أحبها.
الإذاعة محطة مؤثرة
المجلة الثقافية الجزائرية: برامجك الاذاعية (مرافئ ثقافية) و(نبض الواقع) شكلت علامة فارقة في مسيرتك الإبداعية، حدثينا عن هذه المحطات وعن أبرز الشخصيات والمواقف التي أثرت فيك..
زهرة بوسكين: أنتجت العديد من البرامج التي لقيت صدى عند المتلقي وكانت ناجحة إلى درجة كبيرة لكن الأقرب إلى قلبي هذين البرنامجين، فبرنامج “مرافئ ثقافية” كان موجه للنخبة وفيه حاورت أغلب الأسماء المبدعة في الجزائر، كما استضفت فيه أيضا أسماء من خارج الوطن، من سوريا وفلسطين وعمان والسعودية وباريس. وأعتبر الحوارات التي أجريتها توثيقاً مهماً لجانب من الحركة الثقافية وقضاياها.
أما برنامج” نبض الواقع” فكان عينا على المجتمع لأكثر من 17 سنة، تناولت فيه قضايا حساسة من خلال تقديم عينات من الواقع مع نقاش من طرف المختصين حسب طبيعة الموضوع، تناولت عدة طابوهات كواقع الأمهات العازبات، عمالة الأطفال، التشيع، التسول، المرأة والجريمة، وهذا الأخير أعتبره من أهم المواضيع التي أنجزتها واشغلت عليه أيضاً أكاديميا وهو موضوع كتابي “حديث القضبان” الذي صدر في 2018 بعمان، وأهم ما أنجح هذا البرنامج هو نقل عينات من الواقع المعيش بصدق ترك أثره عند المتلقي، والعديد من المواضيع خلال التواصل الميداني مع الحالات كانت فيها كواليس كثيرة، ومواقف تأثرت بها، مثلا سجلت مع نساء مصابات بمرض السرطان إحداهن كانت امرأة شجاعة ومتحدية للمرض، رغم ظروفها الصعبة وأخرى كانت منهارة بسبب تخلي زوجها عنها.. وأخرى كانت حالتها جد متدهورة تتكلم بصعوبة وتحاول التشبث بالحياة وتوفيت في نفس اليوم… كتبت عنهن نصاً بعنوان “أنوثة مبتورة”..، اشتغلت أيضاً على “ضرب الأصول”.. وتأثرت بحالة الآباء الذين يتعرضون للضرب من طرف أبنائهم، موضوع التشيع أيضاً كان مهماً ولقي صدى كبيراً وأذكر جيداً بمجرد انتهاء وقت البرنامج بدأت الاتصالات من مصالح الأمن (المختلفة)، لأكتشف فيما بعد أننا في نفس الاتجاه ونشتغل على نفس الموضوع وكانت المعلومات المقدمة في البرنامج مهمة جداً، مواقف كثيرة كنت أعيشها منها ما تجعلني أبكي وأُخرى تجعلني أغضب وأُخرى تسعدني، وهذا بالتأكيد يحقق لي الرضا الوظيفي ويجعلني أدرك أكثر قيمة الرسالة الإعلامية ودور الكلمة في التأثير والتغيير لذلك أعتز بالميكروفون وبانتمائي لمدرسة عريقة هي الإذاعة الجزائرية.
الرواية الجزائرية حاضرة ومميزة
• المجلة الثقافية الجزائرية: تصف الروائية التركية إليف شافاك الكتابة بكونها (إنجاز معرفي قبل أن يكون عملاً إبداعياً ).. كيف تقرأ زهرة بوسكين راهن الرواية الجزائرية؟
زهرة بوسكين: بالتأكيد كل عمل إبداعي هو عمل معرفي لأن العقل هو مصدر الانفعالات بمختلف أشكالها، وجميع العمليات الذهنية تتم على مستواه كالإدراك واللغة والذكاء والذاكرة، ومن خلال ذلك يمكن توجيه العملية الإبداعية والكتابة بمختلف أشكالها وفنونها، والرواية الجزائرية لها حضورها ومكانتها تتميز بتنوع التجربة والثراء اللغوي والفكري.
الحضور العربي والإبداع الجزائري
• المجلة الثقافية الجزائرية: المرأة المبدعة في الجزائر حققت حضوراً بارزاً على المستوى العربي والدولي. برأيك هل قرأت هذه التجربة بشكل منصف من طرف النقاد؟
زهرة بوسكين: الحضور العربي للإبداع الجزائري هو الذي ينصفنا، أقول هذا من خلال تجربتي المتواضعة في الجوائز العربية التي شكلت فارقاً عندي، ولا يمكن أن نتحدث عن نقاد في غياب حركة نقدية موازية وجادة، العديد من إصداراتي تناولتها دراسات أكاديمية، وكانت مواضيع مذكرات وضمن رسائل وأطروحات، لكن هذا لا أمر منفصل عن النقد الذي نأمل أن يقوم بتفعيل دوره بجدية وموضوعية بعيداً عن المحاباة أو كسر الآخر.
حكايتي الخاصة فيها الكفاح والنجاح
• المجلة الثقافية الجزائرية: في ختام هذا الحوار أود العودة إلى مجموعتك (ما لم تقله العلبة السوداء) لأسألك ماذا لو استبدلنا نصك الأدبي (أحاديث من ذاكرة المرآة) بحكايتك الخاصة؟ كيف تنظر زهرة بوسكين إلى ذاتها الإبداعية والإنسانية في مرآتها اليوم؟
زهرة بوسكين: “أحاديث من ذاكرة المرآة” فيها الكثير مني وبعضاً من حياتي وسط أفراد عائلتي رحمهم الله، فالمرآة تعكس رؤيتي أنا وما أحمله أو أحن إليه من زمن ولّى إلى غير رجعة، واستندت في هذا النص أيضاً على نظرية نفسية تشكل فيها المرآة نقطة بداية اكتشاف الإنسان لجسده ووجهه وشكله.
على كل حال حكايتي الخاصة فيها الكثير من الفصول وقد تكون ذات يوم موضوع رواية أو لا تكون، لكن أنظر إلى ذاتي الإبداعية والإنسانية بعين الرضا وأعتز بكل ما حققته وما سأحققه، وفي مرآتي العاكسة مشاهد مشرقة وجميلة وثمرات أستلذ كثيراً طعمها خاصة تلك التي يمتزج فيها الكفاح وعزة النفس والنجاح .