أجرى الحوار وترجمه : سعيد بوخليط*
بمناسبة الترجمة العربية، التي أنجزتُها مؤخرا لإحدى أعمال روني بوفريس Renée Bouveresse حول العالِم والفيلسوف كارل بوبر Karl Popper، والصادرة عن إفريقا الشرق تحت عنوان : العقلانية النقدية عند كارل بوبر. ارتأيت حتما، إجراء مقابلة معها قصد إعطاء القارئ المغربي والعربي، أرضية أخرى ممكنة تمكنه من ولوج عتبات هذا العمل من جهة، وكذا المشروع البوبري إجمالا. أعتبر هذا الحوار، بمثابة تقديم إضافي ثان، إلى جانب المقدمة الطويلة التفصيلية التي مهدت بها الترجمة، وذلك سعيا مني ما أمكنني الأمر إغناء الحواشي والهوامش والأقواس والتعليقات… حتى تدرك أقرب مسافة ممكنة لها مع ذاتها وكذا الآخر… . حصلت روني بوفريس Bouveresse، على شهادة التبريز في الفلسفة سنة 1972. وهي تلميذة قديمة بالمدرسة العليا. دافعت عن أطروحتين لنيل درجة الدكتوراه : واحدة في تاريخ الفلسفة (ترجمة مع تقديم كرونولوجي وبيبليوغرافي وتأويلي للكتابات الجمالية التي خلفها تراث دافيد هيوم David Hume). في حين، انصب موضوع رسالتها الثانية على سيكولوجيا الفن. بعدها، عُيّنت أستاذة مساعدة بجامعة \”Orléans\”. ولأنها، فضلت دائما الفلسفة مقارنة مع علم النفس، فقد تحولت سنة 1976 إلى أستاذة محاضرة في الفلسفة بجامعة ستراسبورغ Strasbourg، واستمرت طيلة مسارها الجامعي، في تهيئ دروس متعلقة بعلم النفس لطلبة الفلسفة. مكثت في ستراسبورغ خمسة عشر سنة، قبل أن تطلب انتقالها إلى جامعة ديجون Dijon. أحيلت، حاليا على التقاعد.
أصدرت بوفريس Bouveresse ما يقارب عشرينا عملا، تنوعت مضامينها بين الكتابة عن بوبر Popper وهيوم Hume وسبينوزا Spinoza وليبنيتز Leibniz…، ثم الجمال وفلسفة الفن إلى جانب الملتقيات الفكرية الدولية التي هيأتها وأشرفت عليها.
1) كيف تأتّى لكم الوقوف خاصة عند المنجز العلمي لكارل بوبرPopper؟
لقد انتقلت بشكل طبيعي جدا من هيوم Hume إلى بوبر Popper الذي تحاور مع هيوم Hume واستعاد في القرن العشرين صراع كانط Kant ضد التجريبية الذي هيمن على الوسط الأنجلوساكسوني ـ Anglo Saxon. في شبابي، توجهت باستمرار إلى إنجلترا، حينما اكتشفت سنة 1976 بوبر Popper ، حيث يقيم هناك بعد أن تقاعد عن التدريس بمؤسسة : London school of economics. ابتدأت في الاشتغال عليه، وبعثت له بعملي. أما، المرة الأولى التي توجهت فيها للقاء بوبر Popper، فقد كنت بصحبة آلان بوير Alain Boyer، وقد حزنت كثيرا لموته.
2) انطلاقا من صداقاتكم مع بوبر Popper، نلتمس منكم رسم صورة تقريبية عن هذا العالِم الكبير ؟
كارل بوبرPopper ، الذي كنت أدعوه دائما ب : سير كارل Sir Karl.[1] حتى، ولو قال لي، بعد وفاة زوجته هيني Hennie ـ كان مرتبطا بها جدّا، ولم يكن لهما من أولاد ـ بإمكانية أن أدعوه فقط ب كارل Karl. ميزه ذكاؤه الاستثنائي، لطيف، محبوب، موسيقى، يعشق كثيرا الحلويات، مرهف الحس، باذخ المشاعر. كان بالمطلق لطيفا جدا معي، وحينما رحل عن هذا العالم جراء إصابته بمرض السرطان، انتابني إحساس بالفراغ والافتقاد. في البداية، بعث رسائله إلّ، تحت توقيع : بصدق إليكم، لكن بشكل سريع سيوظف الصيغة التالية : إليكم دائما الشيء الذي أثر في كياني. لقد، تعرفت عليه فقط لحظة بلوغه مرحلة الشيخوخة، التقيت أيضا تلامذته. ابنه الروحي \”جيريمي شير مور\” Shearmur، توجه إليّ مخاطبا وهو يستقبلني عند مدخل مؤسسة : London school of economics \”هل أنتم استقرائيون ؟ \”. لأنه، كي تكون بوبريا عليك أولا رفض ما يسميه بوبر Popper ب : أسطورة الاستقراء. لذلك، حينما يريد إلقاء دروسه، يستثني من حلقته الدراسية الطلبة العنيدون الذين يرفضون الاعتراف بأخطائهم والتعلم منها (يمكنكم إهمال هذه الإشارة، إذا رأيتم بأنها تسيء إلى بوبر Popper في أعين الجمهور). كان يحثنا على أن نتوجه إليه بالنقد، مؤكدا على أننا نتعلم من الخطأ، وكذا ممارسة النّقد. صديقي الفقيد ويليام بارتليWilliam Bartley ناشر أعمال بوبر Popper، بالمعنى الأنجلوساكسوني للكلمة، اختلف ذات يوم مع بوبر Popper ثم تصالحا بعد ذلك، وصف بوبر Popper قائلا، هو : \”رجل صعب المراس\”. لقد راكم بارتلي Bartley مجموعة وثائق، وهو يهيئ لكتابة دراسة بيبليوغرافية عن بوبر Popper بعد رحيل الرجل الكبير، إلا أن إصابته هو أيضا بمرض السرطان أسرعت بوفاته قبل بوبر Popper. باختصار، كان إشعاع الفكر البوبري عظيما، وجلّ تلامذته يقدرونه.
3) كيف تجلى حضور بوبر Popper في فرنسا ؟ قبل مرحلة أعمالكم. خاصة وأنه تقليديا وتاريخيا، اهتم الفرنسيون خاصة بالفكر الألماني قياسا للفكر الأنكلوساكسوني ؟
صحيح، لقد ركز الفرنسيون أكثر على الفكر الألماني مقارنة مع الفلسفة الأنجلوساكسونية، مثلما قلتم بالضبط. لكن، أيضا الفلسفة الشيوعية Philocommunisme، حسب تعبير ريمون آرون Raymond Aron، حيث شكل باستمرار عشق الماركسية والشيوعية، عائقا أمام احتضان إيجابي ل بوبر Popper في فرنسا. ويمكن اعتبار كتابه : [la société ouverte et ses ennemis]، مجهودا حربيا، صاغ فقرات مضمونة بالموازاة مع وقائع الحرب العالمية الثانية، لأنه فكك وانتقد أصول التوتاليتارية : أفلاطون، هيغل، وماركس.
4) نريد منكم القيام بجرد سريع لبعض الأسماء الفكرية الفرنسية الأخرى التي توجهت مثلكم نحو بوبر Popper ؟
حينما انطلق مشروعي عن بوبر Popper سنة 1976، قرأته باللغة الإنجليزية. لم يُترجم آنذاك إلى الفرنسية سوى كتابيـه : \”منطق الاكتشاف العلمي\”
(la logique de la découverte scientifique)، وكذا \”بؤس التاريخانية\”
(Misère de l\’historisme). عمله الآخر، المعنون ب \”المجتمع المنفتح وأعداؤه\”
(la société ouverte et ses ennemis) تُرجم عن دار النشر \”Seuil\” لكن بطريقة مبتورة مع تجاهل للإشارات المهمة الواردة في الطبعة الإنجليزية. أما \”ماري إيرين\” \”Marie Irène\” و \”مارك دولوني\” \”Marc de launay\”، فقد ترجما إلى الفرنسية كتاب آخر ل بوبر Popper، وهو \”حدوس وتفنيدات\” (conjectures et réfutations). بينما عرف عمله، \”المعرفة الموضوعية\” (la connaissance objective) ترجمة جزئية ضمن منشورات \”complexe\” سنة 1978. وبعد ذلك أنجز \”جان جاك روزا\” \”J.J. Rosa\” ترجمة جيدة جدّا ومتكاملة بخصوص هذا العمل. مع ذلك، لازالت دراسات أخرى ل بوبر Popper مكتفية بلغتها الأصلية، ولم تأخذ بعد طريقها إلى اللغة الفرنسية. أما عن المقاربات النظرية، الصّادرة أيضا بالفرنسية عن بوبر Popper، فأشير إلى أهمها : [فلسفة كارل بوبر والوضعية المنطقية]، لصاحبه الأستاذ البلجيكي \”جان فرانسوا ماليرب\” J. F. Malherbe. ونشر، \”آلان بوير Alain Boyer، بحثا تحت عنوان : [كارل بوبر والإبستمولوجيا اللائكية؟؟] تحول بعدها إلى : [مدخل إلى فلسفة كارل بوبر]. في السيـاق ذاته، جــاءت مساهمة \”دومنيك لوكور\” Dominique lecourt بما يلي : [بوبر وفتجنشتاين، النسق واللعب]. الماركسي القديم وأستاذ الفلسفة الساسية، السيد \”جون بودوان Jean Boudoin، فقد كتب : [ماذا أعرف عن كارل بوبر]. وكذا : [الفلسفة السياسية عند كارل بوبر]. في حين، ابن عمي الجرماني \”جاك بوفريس\” Jacques Bouveresse، وقف على أطروحات بوبر Popper عبر مقالتين نشرهما في مجلتي : La recherche/critique.
5) أين تموضعون المشروع البوبري ضمن سيرورة الفكر الإنساني ؟
إحدى الأسباب التي تفسر الاهتمام الكبير بفكر بوبر Popper في حقبتنا، يرجع بالتأكيد إلى كونه أحد القلائل الذين اقتحموا كل حقول الفلسفة وأعطوا مكانا في كل الأحوال للحوار الاستدلالي : ميتودولوجيا العلوم طبعا، فلسفة المعرفة العامة، القضايا التي يطرحها تأويل الفيزياء المعاصرة، البيولوجيا، علم النفس، العلوم المجتمعية، لكن أيضا الفلسفة السياسية والأخلاقية، تاريخ الفلسفة وكذا الميتافيزيقا. تطور اللاعقلانية، وقد تطابقت بطريقة مفارقة مع الانطلاقة المعاصرة للعلم، تمثلت بالخصوص تأثير هذا الاعتقاد الخائب في عقلانية دوغماطيقية تفترض بأن معرفتنا يمكنها أن تتأسس وتصل إلى اليقين. يعتبر بوبر Popper أحد أفضل من ترافع لصالح العقل طيلة هذا القرن، وبقوة لا تضاهى، لكن وهو يقترح بصدد ذلك صورة نقدية : الإرادة في أن نضع موضع اختبار باستمرار أفكارنا، ودون اعتبارها ثابتة دائما، يمثل خاصية جوهرية للفكر العقلاني، ما دام الخطأ هو المطلق الوحيد وبعدم قدرتنا على التطور إلا إذا قبلنا بالمجازفة عوض التملص من ذلك. إذن، يصبح من الممكن بالنسبة ل بوبر Popper العودة بالعلوم الطبيعية إلى مشروعها الأساسي أي رد الاعتبار لطموحها بأن تكون نظرية (ضد التجريبية) وتصف حقا الحقيقة (ضد المثالية) وتتبلور موضوعيا ضد النفسانية والاجتماعوية. من جهة أيضا، سيحدد مستوى التقدم السياسي الحقيقي، بفضح أوهام الإغواء التوتاليتاري، والدفاع عن إصلاح يتخلص من كل وهم، فهو يختبر باستمرار كل مبادرة ويخضع أية سلطة للفحص. مع ذلك، فيما وراء الميتودولوجيا، نرى أخيرا تشكل ميتافيزيقا حقيقية بين ثنايا نتاج بوبر Popper : ميتافيزيقا عالَم لا حتمي، منفتح، يبرز الحياة والإنسان و\”عالم الأفكار\” هذا، المستقل، نسجه الإنسان وخوّل له اكتشاف الكون الذي يحتويه ويتحول بلا انقطاع تحت تأثير مفعول رجعي في اتصال بعمله الخاص.
6) نريد أن نتمثل، بعمق أكثر الخاصيات النظرية الكبرى للابستمولوجيا البوبرية ؟
تتجلى أهم أفكار بوبر Popper الفلسفية والمعرفية فيما يلي :
1 ـ الاختلاف بين نظرية علمية وأخرى لا علمية (قد تكون مفيدة) ينهض على أن الأولى تجازف بإمكانية دحضها من قبل التجربة : إنها تستبعد وقائع نلاحظ احتماليتها (وبقدر ما تستبعد تتجلى أهميتها) وهي تجريبيا قابلة للتفنيد. على النقيض، تلك النظرية التي تتوخى إدراك جلّ الوقائع الممكنة وبأن لا شيء يدحضها. تعتبر، فارغة مضمونيا، بالتالي لا تفيدنا قط حتى ولو أعطت للذي يتبناها شعورا بالمناعة. إجمالا، ما يميز الفكر العلمي إقراره بالمجازفة (وليس الدوغماطيقية).
2 ـ إن الجواب الوحيد الذي قد تتكفل الترجمة بتقديمه، حينما نوظفها قصد اختبار نظرية ما، هو جواب سلبي : لا يمكن لتجربة خاصة إثبات نظرية عامة لكنها قد تفندها. ألف إوزة بيضاء، لا تجيز القول بأن كل الإوز أبيض. يمكننا، تقديم الدليل عن خطأ نظرية عامة، في حين يستحيل علينا إظهار حقيقتها. بهذه الأطروحة، جاء بوبر Popper بجواب لتحدي هيوم Hume الذي تبنى قضية مبرر الاستقراء. كيف ننتقل من ملاحظات جزئية ارتبطت بعدد محدود، ثم نصنع منها قواعد عامة ؟ لقد أوضح هيوم Hume، بأننا لا نتوقف عن التعميم وليس لدينا وجهة نظر عقلانية تخول لنا حقا القيام بذلك. إذا عممنا، فبفعل تأثير العادة. لذلك، المعرفة حسب هيوم Hume تبرر وجودها بالاستناد على الفعل وليست مُبررة بالعقل؟ ينطلق، بوبر Popper من مبدأ، أن التجربة لا يمكنها أن تؤسس وضعيا تعميما ما، بل في وسعها فقط إبطاله. بحيث، يخلص إلى النتائج التالية :
* يلزم على العلم التخلي عن حلمه باليقين : المعرفة سياق دائم للتساؤل. قد تظهر تفسيرات أخرى أفضليتها مقارنة مع التفسيرات القائمة. ببداهة، المعرفة تتطور : النظريات الجديدة، دون أن تكون أكثر يقينية، هي أفضل من سابقاتها لأنها تحافظ على مكتسباتها الوضعية بالسعي نحو مفاهيم أكثر تكاملا وشمولا.
* لا يمكننا الارتقاء بمعرفتنا، إلا إذا عملنا منهجيا على دحض نظرياتنا الخاصة : أن نختبرها. صمدت أم لم تصمد. ففي الحالتين، الأمر جيد : إبراز الخطأ لا يعتبر فشلا : نتعلم من تلك الأخطاء. في كل الأحوال، يستحيل تجنب الخطأ، فنحن معرضون له. فقط، نتوخى جاهدين كي نستبعده تدريجيا.
3 ـ أهم، ما يميز الفكر العقلاني، الخاصية النقدية التي ترفض الدوغماطيقية. فليس الفكر العقلاني، من يظن في ذاته توفره على أفضل منهجية تصل آليا إلى الحقيقة. بل، هو فكر يتصور حلا للقضية التي يجد نفسه أمامها، بعد ذلك يختبره نقديا مع استعداده للتخلي عنه، في حالة تعارض الحل مع الوقائع. عمليا عقلاني الإنسان، من كان قادرا على تغيير رأيه حينما يتوصل إلى دلائل حاسمة أخرى. ثم، يبحث لكي يتحاور مع الآخرين ولا يتشبت باعتقاده مهما كلفه الأمر.
4 ـ المفهوم التجريبي والوضعي للمعرفة خاطئ. مفهوم، نجده عند باكون Bacon ولوك Locke والوضعيون، يربط بين المعرفة والملاحظة بالارتكاز على دور سلبي للأحاسيس، ثم يصطدم مع الاعتراض وهو ينبني على إحساس خاص، فلا يمكننا تأسيس قواعد عامة. ومهما يكون أيضا، يستحيل أن نلاحظ دون تنظير أولي، وكذا أفكار قبلية توجهنا. بالتالي، يدافع بوبر Popper عن ما يلي :
* تنطلق المعرفة دائما من تصورات خائبة الظن، وليس من ملاحظة قسرية. مما يعني، بأننا ننطلق دائما من توقعات، ورؤيتنا للواقع ليست مُفترضة بشكل عذري. لا وجود، لصفحة بيضاء. كذلك، الملاحظة ذاتها، هي مشبعة دائما بالنظرية مما ينفي مسألة كونها محايدة.
* نحاول أمام قضية العثور على تفسيرات عن طريق مجهود للخيال. بعد ذلك، نخضع فرضياتنا التي تشكلت بطريقة قابلة للدحض، إلى روائز : ستبعد من هي غير قابلة للصمود. في المقابل، نُقر مؤقتا بالأخرى الصامدة أو بالأحرى أغناها بمعنى تلك التي تُفسر أكثر. وفي نفس الآن، تجد نفسها أكثر قابلية للتجريب. إجمالا، تقوم المعرفة على \”التخمينات والتفنيدات\”.
* علينا العمل أقصى ما يمكن، كي نتجنب الغش. طبعا، يبقى من الراجح دائما الدفاع عن أنفسنا أمام واقعة من شأنها أن تدحض النظرية. وأحيانا، يتحتم القيام بذلك : لا يمكننا القبول بكل دحض جلي : قد نعترض على الملاحظة، أو نفسرها بعوامل غير مرئية، إلخ. لكن، أن نتبنى منهجيا استراتيجية كهاته يحرمنا من كل إمكانية لتطوير معرفتنا : من اللازم الإقرار بالتفنيدات وليس الاستكانة إلى الدوغماطيقية.
* كل قضية عثرنا لها على حل، إلا وتظهر إشكالات جديدة، فالبحث لا نهائي. بقدر، معرفتنا نكتشف جهلنا، فيتجلى حجم دهشتنا. نتموضع، دائما بين نوعين من التوتر : لا وجود سواء إلى جهل أو معرفة مطلقين: الاثنان متلازمان.
* لا تتطور المعرفة بالتراكم وحده، لكن هناك في الغالب افتراض لعنصر ثوري. إننا مجبرون في كل مرة التخلي عن مجموعة اعتقادات، وتعويضها بأخرى أكثر تكاملا: تحتفظ بما هو صحيح فيما سبق من تصورات. حقا، ينطبق هذا على مستوى النظريات الكبرى وكذا المعرفة المعتادة.
* يفترض تطور المعرفة شروطا مجتمعية: وجود مجموعة خبراء لهم نفس قناعة الفكر النقدي. يسعون إلى إيجاد حل للقضايا وذلك بإخضاعها لمقياس الاختبار النقدي من قبل زملائهم.
* إجمالا، لقد استعاد بوبر Popper التقليد الكانطي ضد التجريبية دون تخليه كليا عنها. حسب كانط Kant، تفترض المعرفة بأن الذات فاعلة، توجب اقتضاءاتها على الطبيعة. أثبت بوبر Popper، من جهته : نعم المعرفة تأسست على ضوء احتياجات الفكر : إنها، من جهة قبلية، لكن ذلك لا يبرر صحتها. تستمر في التقويم بناء على اتصالها بالتجربة.
* بوبر Popper ، وهو يقطع مع التجريبية، يرفض النسبوية. هؤلاء النسبيون مثل كوهن Kuhm وفيرابند Feyerabend ثم رورتي Rorty والمتأثرون بداية ب بوبر Popper، تمسكوا بمبدأ أن العلم ليس عقلانيا جدا كما نزعم، وسلطة النقاش النقدي محدودة ثم عدم جدوى مفهوم الحقيقة. على النقيض، دافع بوبر Popperعلى أن النقاش النقدي مفيد دائما، حتى ولو لم ننته معه في الغالب إلى توافق. كما، أن العلم بامتياز يمثل حقلا لتطور المعرفة نتيجة التدليل والسجال. أيضا، يرصد العلم بشكل جيد الحقيقة، بالرغم من تيقنه بعدم ملامستها. هذه القطيعة بين العقلانيين والنسبويين، تعتبر جوهرية داخل الفكر المعاصر.
7) نعلم، بأن بوبرPopper اقتحم تقريبا كل الحقول الفلسفية؟ ما هي بالتدقيق أداة مرتكزه المنهجي ؟
فيما يتعلق بسؤال المنهج البوبري، فقد سعى بوبر Popper إلى التخلص من مسألة بناء النسق، حتى ولو كان فكره ينهض على نوع من النسقية. ينطلق، من قضايا يطرحها كل واحد منا بشكل من الأشكال : يتفحص الإجابات المختلفة والممكنة مع احتفاظه بأفضل البراهين، ثم يختار من بينها تلك القادرة أكثر على الصمود والإقناع. تارة، يستند أيضا إلى براهين الحس المشترك وقد يرفضها، تارة أخرى. إجمالا، ينتمي بوبر Popper إلى نمط الفلاسفة الذين يبحثون على الحقيقة دون اكتراث بالأصيل. وحينما، يؤمن بحاجتنا المطلقة لمحاور ذات استدلالات فلسفية، فلا يعني ذلك ممن يظنون بأن الفلسفة حقل قائم بذاته. كما أنه، لا يخول إمكانية بلورة تحققات أخرى مثل التي جاء بها العلم والفن.
8) كيف تتموقع حاليا الأستاذة بوفريس Bouveresse داخل الثقافة الفرنسية؟ وهل لا زالت حاضرة ؟
بالتأكيد، لقد ابتعدت الثقافة الفرنسية الراهنة عن الإشكالات والقضايا التي هيمنت عليها بين سنوات الثلاينات، والسبعينات. يخوض ، الفرنسيون اليوم، في نقاشات أخرى تتميز بطابعها العمومي، وهي نفسها التي تعرفونها كذلك في المغرب. كيف نوفق على المستوى الاقتصادي بين ضرورة الفعالية كما تقتضيها العولمة. وكذا مطلب التماسك الاجتماعي ؟ كيف نماثل بين ضرورة النمو وحماية البيئة ثم الدفع بالتنمية الدائمة ؟ كيف نشبع حاجة الانفتاح عند الإنسان المعاصر، دون التضحية مطلقا برغبته كي يعيش بشكل جماعي مع الآخرين، داخل جماعة متضامنة ؟ كيف نضمن تطورات العلوم والتقنيات، وكذا التوظيف الإيجابي لها من قبل الإنسان كي لا يفقد أبدا خاصيته الإنسانية ؟ كيف، نعمل على خلق حوار بين مختلف الثقافات، بشكل أفضل، بحيث تتلاقى حول قيم كونية ثم تحتفظ كليا على هويتها ؟ هي، إذن الأسئلة التي يشتغل عليها المفكرون الفرنسيون راهنا، وقد أثارت حقا نقاشات جدية.
9) في الختام، نريد معرفة مشاعركم ، وأنتم تعلمون أن إحدى دراساتكم عن بوبر Popper، قد تُرجمت مؤخرا إلى اللغة العربية ؟
حقا، هو شرف كبير لي أن أنتقل إلى اللغة العربية، وسعيدة جدا بتداول أفكار بوبر Popper، داخل نسيج الثقافة العربية. لكنني أرى في الوقت ذاته، بأن هذه الثقافة العربية الإسلامية، في حاجة ماسة إلى الاشتغال أكثر فأكثر من أجل ترجمة نصوص ومتون الثقافات الأخرى.
لقد جاءت الثقافة العربية، بتقليد فلسفي كبير، وذلك إبّان عصر ابن رشد، بعده، سيعرف المسار انحطاطا. بالتالي، يقتصر الأمر اليوم، على بعث نهضة جديدة توجه اهتمامها نحو كل ما يكتب في العالم. وأشعر، فعلا بوجود أجيال فكرية تؤثت مختلف البلدان العربية، تتميز بانفتاحها على العالم الخارجي، وتحصّن باستمرار الأوضاع العقلانية. تجب، الإشارة هنا، إلى تصورنا الدائم للبلدان العربية باعتبارها منقسمة بين اتجاهين : أحدهما تقليدي بل وأصولي، يحكمه هاجس الخوف من الحداثة. في مواجهة، تيار ثان متفائل أكثر، يؤمن بكونية القيم الديموقراطية، ويدافع بشتى الوسائل عن ضرورة ولوج العالم العربي والإسلامي، حلقة العالم المعاصر. دون خوف، من أن يفقد هويته الثقافية. في هذا الإطار، فإن قراءة مفكر من طينة بوبر Popper، يبين إمكانية مناقشة كل شيء من منظور عقلاني، سواء كان إيتيقيا أو ميتافيزيقيا ودون تصنيفات تقوم على المحظور والمقدّس. إنه، نقاش مُثمر على الدّوام، يساهم في تكريس انتصار عقل السلم، وهو يواجه عقل العنف. أقول، بأن الإحالة على بوبر Popper، يقود صوب تقوية مناعة تيار الانفتاح في العالم الع
[1] ـ حصل بوبر Popper على لقب \”سير\” Sir ـ وهو يشير داخل المؤسسة المعرفية الأنجلوساكسونية، إلى مختلف مظاهر الإجلال والتقدير ـ ثم خمسة عشر دكتوراه فخرية ومجموعة من المناصب الفخرية العلمية والأكاديمية.
*كاتب وباحث ومترجم من المغرب