خديجة مسروق / كاتبة من الجزائر
الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون. مثل يطلق على الأبناء الذين يدفعون ثمن أخطاء آبائهم.
رواية اللحم المرّ للروائي طلال سالم الحديثي الصادرة هذا العام 2023, تطرح إشكالية اجتماعية مهمة. الرواية تتحدث عن أطفال الملاجيء وكيف يدفع هؤلاء الأبرياء ثمن أخطاء لم يرتكبوها. يقومون بتسديد فاتورة آباء تجردوا من مفهوم الضمير الإنساني. تصدر الحياة عقابها عليهم و يرمي بهم الزمن في مثالب اليأيس والإحباط والضغوطات النفسية .
الرواية قصيرة عبارة عن نوفيلا اعتمد فيها الروائي على السرد العنقودي, تضمنت ستة فصول, كل فصل يتناول قصة شخصية من شخصيات الرواية, وتلك القصة تحيل إلى قصة أخرى لاحقة تتعلق بالأولى .تتقاطع مصائر الشخصيات وتتحرك في فضاء محدود.
اللحم المرّ في المفهوم العام كناية عن لحم البشر. ومن الذي يمكن له أن يستبيح أكله فيأكله إلا ذلك الوحش الآدمي الذي لا فرق بينه و بين وحوش الغاب ؟
‘سهى , عبد , محبوبة , مبروك ‘ شخصيات مضطربة قلقة وعدوانية. الآثار المرضية والأزمات النفسية التي يعاني منها شخصيات الرواية مردها إلى مرحلة الطفولة. وعلم النفس يؤكد أن الطفل الذي عاش الحرمان العاطفي يكون عرضة للاضطرابات النفسية والسلوكية. وهؤلاء فقدوا الدفء العائلي, عاشوا طفولة بائسة عرفوا فيها الحرمان الاجتماعي والعاطفي أثر ذلك على حياتهم بشكل كبير.
كيف نستطيع أن نتوصل إلى الحقيقة دون أن يسأل أحدنا لماذا قُذف بنا إلى هذا الوجود؟
سهى الشخصية الرئيسة في الرواية, حين فتحت عينيها على الدنيا وجدت نفسها في دار الأيتام الموجودة بمحافظة بغداد. لا أهل لها سوى رفيقاتها اللواتي رمت بهن الأقدار معها بين جدران تلك الدار, كل واحدة لها قصة مع الزمن. منهن من رفضت زوجة الأب أن تقيم معها, ومنهن من قضت الحرب على أهلها, ومنهن من عجز الأب على إعالتها وبسبب الفقرألقى بها إلى دار الأيتام الحكومية. وكان بعض أهالي هؤلاء البنات يقمن بزيارتهن من وقت لآخر. غير أن الطفلة سهى لا أحد كان يزورها. الجرح العميق الذي تحمله بداخلها وهي تسمع لضجيج الصمت بداخلها, ابنة من أنا؟ لماذا لا أحد يزورني؟ كان تحلم بيوم تجد فيه إلى جانبها امرأة تحضنها و تقول لها أنا أمك, أو يد حانية تمتد إلي جبينها وتقول لها أنا أبوك. سهى ابنه الثالث عشرة سنة تمر لحظات عمرها ثقالا. وكلما مرّ يوم ازداد شعورها بالحاجة إلى الإنتماء إلى مكان ما وإلى شخص ما. أم أو أب يعزز وجودها.
يحدث في أحد الأيام أن تتعرض دار الأيتام إلى مداهمة من قبل لصوص مجهولين. يقومون باختطاف مجموعة من البنات النزيلات. وكانت سهى من بينهن. وجدت سهى نفسها في يد رجل غريب يلقي بها في سيارة مرسيدس ويأخذها إلى وجهة مجهولة. الخوف يملأروحها وهي الطفلة التي لا تملك القدرة على المقاومة أو الدفاع عن نفسها.
عبد الذي قام باختطافها يتميز بشخصية عدوانية حاقد على كل الناس. أفقده عينه أحد الأطفال كان يلعب معه وهو في سن صغير. أثرت تلك الحادثة على نفسيته. كبر عبد وكبر معه الإحساس بالنقص وتراكم في داخله, يشعره بعدم التجانس مع الآخرين. هرب من منطقته ليتخلص من عقدته ويبتعد عن نظرة الأشخاص الذين يعرفونه. والذي كان يقرأ في وجوههم معاني السخرية والاستهزاء. فهو يراهم أعداءه يحملون له كل الكراهية. وسار في طريق الرذيلة يمارس القمار والمجون.
أخذ عبد غنيمته المتمثلة في الطفلة سهى إلى سيدته محبوبة. محبوبة تمارس هي الأخرى كل الرذائل, الشعوذة والسحر والدعارة, تتاجر بالغنائم التي يأتي بها عبدها وخادمها عبد في سوق النخاسين. إلتف حولها نساء كثيرات صدقن شعوذتها طالبين منها حلا لمشاكلهن, ورجالا من كل مكان طالبين نساء للمتع العابرة أو الزواج. فجمعت من رواء ذلك ثروة كبيرة.
رأت محبوبة في سهى صفقة مربحة. ألقت بها إلى رجل ثري يدعى مبروك جمع ثروته من القمار. وهو رجل عنين اشترى سهى ليعيش معها كصديقين. كان يقضي الليل بأكمه مع رفقاء السوء. ظلت سهى تتصارع مع أفكارها حول مصيرها المجهول وهي السجينة بين جدران منزل مبروك لا تملك حيلة للهروب. لم يكن أمامها أي حل لمشكلتها سوى التفكير في الانتحار. بعد عدة أيام تجد نفسها تُقاد من يدها بيد رجل ملثم بقناع. يعتذر مبروك لأنه خسر أمواله في القمار ولم يبق له سوى سهى ليتنازل عنها بدلا عما خسره. تتفاجأ بأن الملثم الذي استلمها من مبروك هو عبد الذي كان سبب تعاستها. يغتصبها ويظل يبيع جسدها لأصدقائه من شلة القمار كما يبيع الجزار اللحم.
المتتبع لسيكولوجية الشخصيات التي صنعت أحداث الرواية يجد أن جميعهم يحملون عقد نفسية واضطرابات مرضية بسبب العنف الاجتماعي والقهر الذي عرفوه في الصغر.
سهى عاشت طفولة محرومة ,فاقدة لحنان الوالدين. شخصية قلقة و كئيبة, ترفض التفاعل مع الآخرين, يتملكها الخوف من المصير المجهول. وعبد شخصية متشائمة. عنيد وحاقد يرى كل الناس أعداءه. يحاول الانتقام بأي وسيلة. فالحياة أمامه تجردت من مفهومها الحقيقي, وتوشحت بوشاح سوداوي. أما محبوبة فقد فقدت الدفء العائلي كل حياتها, عاشت اليتم وتطلقت ولم تجد أحدا يسندها. فامتهنت الشعوذة والمتاجرة باللحوم البشرية لتجمع ثروة تجعل الناس يلتفون حولها. مبروك شخصية لا مبالية. عجزه عن الزواج جعل حياته باردة. وليعوض نقصه مشى في طريق الرذيلة.
بسردية بسيطة وأسلوب انشائي سلس فتح الروائي طلال سالم الحديثي نافذة على ظاهرة مهمة داخل المجتمع الإنساني تتعلق بفئة مهمة وهي فئة الأطفال. الأطفال الذين فقدوا الدفء العائلي وحرموا من الحنان الذي يعزز وجودهم, ويسبب لهم ذلك خدوش نفسية تؤثر على حياتهم في كامل مراحلها. استطاع الروائي الاقتراب من سيكولوجية شخصياته والقبض على انفعالاتهم. وتوصل إلى أن الحرمان العاطفي والاجتماعي يتراكم في دواخلهم على شكل عقد نفسية يجعلهم يرون الحياة متشائمة ومعقدة وظالمة.