المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

كارل ماركس يعود إلى الجزائر:  قراءة في رواية العشاء الأخير لكارل ماركس للروائي الجزائري فيصل الأحمر

 د.طارق بوحالة

يقدم الروائي الجزائري فيصل الأحمر نصا روائيا جديدا عن شخصية كارل ماركس، وذلك باستحضار الفترة الزمنية التي قضاها في الجزائر من 20 فيفري إلى 2 ماي 1882 قصد العلاج من مرض تنفسي كان يعاني منه. فقد نصحه الأطباء بزيارة شمال إفريقيا، ليقصد الجزائر مركزا على زيارة مدينة بسكرة باعتبارها بوابة الصحراء. والتي لم يزرها لأسباب صحية واكتفى بالمكوث في فندق فيكتوريا في الجزائر العاصمة.

ولا تدعي رواية العشاء الأخير لكارل ماركس الصادرة منذ أسابيع عن دار العين، مصر، تقديم تفاصيل تاريخية عن أيام ماركس في الجزائر، بقدر ما كان يهدف الروائي فيصل الأحمر إلى إثارة مجموعة من الأفكار والقضايا المرتبطة بتاريخ الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي، وذلك عن طريق إخضاع الأحداث إلى برنامج سردي خاص، حاول من خلاله تأثيث الرواية مكانا وزمانا وشخصيات.

ويمكن أن نستحضر في هذا السياق ما قاله كيفن أندرسون في كتابه ماركس ومجتمعات الأطراف بخصوص قيمة ماركس، حيث ورد قوله: “إن ماركس، من دون شك، مفكر مثير للجدل، وإن عمق هذه السجالات التي يستطيع فكره إثارتها تدل على أنه لا يزال حيّا بيننا، وإن شبحه لا يزال يطارد معارضيه الذين كانوا قد أعلنوا موت فكره مرات عديدة.”

ولعل الإشكالية التي تثيرها هذه الرواية ترتبط أساسا بمدى أهمية أفكار كارل ماركس بالنسبة إلى سياقنا العربي المعاصر، وما الجديد الذي يقدمه لنا مفكر يظهر أن الزمن قد تجاوزه؟

يسافر ماركس إلى الجزائر ويسكن في بانسيون الأختين أليس، حيث كان يتقاسم هذا المكان رفقة كل من فردريك بروان وهو عجوز أمريكي جاء باحثا عن العلاج وجورج كانطي وشقيقته بلوندين وهما في زيارة لابن بولوندين الهارب إلى الجزائر والضابط المتقاعد مكسيمليان شوز وهو إسباني يحمل الجنسية الفرنسية. وقد كانت روزالي هي المشرفة العامة على هذا الفندق، والتي تبين بعد ذلك أنها موظفة من قبل الإدارة الاستعمارية، بينما تحضر الجزائرية “صافية” من باعتبارها من تقوم بكل أعمال النظافة والخدمة. والتي تؤخذ أوامرها مباشرة من روزالي.

أما “جيني” زوجة ماركس فتحضر هي أيضا أثناء لحظات وحدته، حين كان يطالع كراسة تركت فيها رسائلها إليه بعدما دونتها أيام تواجدها في المستشفى إثر مرضها الخطير والذي أودى بحياتها، مما خلف عنده حزنا شديدا. فجيني ليست فقط زوجة بل هي رفيقته في مسيرته العلمية وأم ابنتيه لورا وجيني.

وتثير الرواية مجموعة من النقاشات حول قضايا كثيرة تخص العمال والفلاحين البؤساء في الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي خاصة مع نهايات القرن التاسع عشر، وكذا الحديث عن أمور تاريخية مثل كمونة باريس، أو عن شخصيات تاريخية معروفة مثل ألكسيس دو طوكفيل …الرجل الذي كان نصف عقله يقبل استعمار الجزائر لأن الاستعمار صار واقعا لا نقاش فيه.، فيما كان نصفه الآخر وريث الثقافة الإنسانية للنهضة والأنوار يرفض الفظاعات التي يرتكبها الجيش الفرنسي على هامش مهمته الأمنية ، التقتيل والاستيلاء على الأملاك…ص98

وجون فيري الذي “يبدو تلميذا وفيا لطوكفيل.. وإن كان أعرق وأعمق في تربية التناقضات .. كان يشعر بمسافة مزعجة تقف بينه وبين المغاربة. تعوّد على النظر في عيون الجرمان والفرنسيين والإنجليز. تحدث مرارا عنهم فيما ينظرون وإليه ويحركون رؤوسهم إيماء بالموافقة على كلامه. إلا أن عيون الجزائريين كانت تقول شيئا آخر عدا ما كانت عيون أشباههم في أماكن أخرى تقوله. شيئا تأسف لأنه شعر بعمق بأنه عاجز عن فهم هؤلاء المسحوقين المعذبين في الأرض.” ص114. وكذا لامرتين وجوزيف برودون وغيرهم من الأسماء الأخرى.

ولا نلمح ماركس في هذه الرواية باعتباره مريضا يطلب الشفاء فحسب، بل إن فيصل الأحمر يبني عمله على مجموع الحوارات والسجالات التي تدور بين ماركس وشخصيات الرواية سواء الذين يقطنون في الفندق أو القاضي فريني المشرف على راحته أو الطبيب الشاب محمد شوليي أو مكسيمليان شوز. أو خارج الفندق خاصة في نقاشه المحتدم الذي خاضه مع بعض الحاضرين في مأدبة العشاء في بيت الحاكم العام. أو الحوار مع الصحفي الشاب ترسيان باريار.

ومن هذه الحوارات ما دار بينه وبين مكسيمليان شوز بعد وجبة العشاء ورفقة روزالي والسيدة إليس الصغرى، ليفتح هذا الضابط المتقاعد مساحة رحبة لممارسة جلد الذات، لدرجة أنها تمثل جلسة اعتراف أمام ماركس لما اقترفه من جرائم بشعة في حق أناس أبرياء تحت شعار نشر الحضارة. يقول السيد شوز: “طوال حياتي لم أفعل شيئا عدا العمل في البحرية العسكرية، ظللت أذهب إلى جزر بعيدة مثل جزر الغويان وكايين وجزر الشيطان، أو إلى كاليدونيا الجديدة والمارتينيك وأبعد منها، كنا ننقل الأسرى والمؤونة . لم أقم طوال حياتي برحلة خيالية من الموتى والمتمردين. حياتي سلسلة طويلة من الخدمة في ميدان نسميه البحرية والمقصود هو الحربية. ونسميه زيارة الجزر والاستكشاف مع فرق العلماء، والواقع أنها كانت تنظيما لمجازر رهيبة، ثم كذب أبيض من خلال إطلاق أسماء علمائنا وأمرائنا الجبناء على نباتات ندعي أننا اكتشفناها فيما أهل البلد يعرفونها ويستعملون معظمها منذ الأزل. وكل من يتحرك ضد ما نفعله نعاقبه بأقسى أشكال التقتيل، حتى لا نخول لغيره من الغاضبين على الوضع نفسه فيتحرك هو أيضا. إنها حضارة القتل والخوف، لا مجد مع الرعب، الرعب ينتج الرعب والكره الكبير.” ص 66

كما قلنا سابقا يكشف هذا القول على الكثير من مواطن التحيز والتزييف الذي مارسه الاستعمار الأوربي باسم الحضارة. وكذا الازدواجية التي تميز بها في التعامل مع القضايا الكبرى مثل الديمقراطية والعدالة والمساواة ويكفي هنا استحضار شعار الثورة الفرنسية.

وفي نموذج آخر من حوارات ماركس ما دار بينه وبين الطبيب محمد شوليي الذي كان يزوره في الفندق، وهو كما تصفه الرواية شاب طويل وعريض أسمر بعيون خضراء ولحية كثة، شخص كأنه ماركس عربي شاب بعين سّلافية…ص 30

وقد أثار هذا الطبيب اهتمام ماركس، فهو ليس مجرد طبيب يحرص على متابعة مرضه، بل اكتشف فيه شابا رافضا للسياسة الاستعمارية ولعل ما يبين ذلك ما جاء على لسانه وهو يتحدث عن الإدارة الاستعمارية وعلاقتها بالمعمرين قائلا: ” الإدارة جهاز سياسي تشريعي يقبع تحت تصرف رأس المال كما يقول… من تراه يقول هذا الكلام؟ .. آه تذكرت ..إنه مسيو ماركس.. ورأس المال يهيمن عليه أبناء الحرام. تعلم جيدا أن جل الكولون من المساجين والمعارضين السياسيين الذين أريد إبعادهم عن العاصمة، استجلبوا لعمران هذه الأرض أي لنهبها بلا مقابل. ماذا تنتظر من رجل فاقد للأمل كمحكوم عليه بالسجن المؤبد؟ هم لن يعودوا إلى فرنسا ولو جروهم بسلاسل. وهو أغنى الناس في فرنسا، سواء فرنسا القارية أم فرنسا المستعمَرة. لهذا فهم يؤثرون في السياسة بقوة كبيرة. يشترون ذمما داخل البرلمان . لديهم أموال قارون.. وقارون في هذا المنظور رجل من فرنسيي الجزائر.” ص 96

يستمع ماركس جيدا لما يقوله محمد شوليي ثم يستدرك عليه بنصيحة لا تخلو من تحليل، حيث يخبره: ” رويدك بنيّ. الأمور معقدة جدا. نظريّتي أوربية محضة. يوجد خلف كل جريمة جهاز يحاربها أو يعمل على متابعتها. سيغتالونك ببساطة فيما أراه. لا فرنسيّ في الجزائر يتصرف كإنسان مسؤول عن القيم الإنسانية. ألاحظ سلوكهم. يبدون جميعا كحارس السجن أو كالجلاد، يكسبون مالا وفيرا ولا يتمتعون به. كل ما يهمهم تتبع سرقات الأهالي من محاصيلهم وهي كميات صغيرة يعيلون بها أهلهم.” ص 96، 97

من جهة أخرى يستحضر الروائي الرسائل التي كان يكتبها ماركس لصديقه المقرب إنجلز ولصهره لافارغ والتي كان يعبر فيها عن موقفه من بعض القضايا التي تخص العلاقة بين المستعمر الفرنسي والجزائريين حيث يعبر في إحدى مواضع الرسالة التي كتبها لإنجلز قائلا: ” أعتقد أنني قلّما رأيت قسوة سلطها بشر على بشر مثل هذه التي أراها هنا، موجهة من الفرنسيين صوب الجزائريين. والأغرب في كل هذا هو أن الذي يفعل ذلك هم سادة مثقفون جدا، كلهم مثل جول فيري في نهاية الأمر رجال نظيفون جدا بأيد لا تتعفف عن أن تكون وسخة.” ص 105

كما تتحدث الرواية عن تفاصيل يومية لحياة ماركس في فندق فيكتوريا، مركزة على أوقات تخص نومه وتناوله الطعام وجلسات الشرب والتجول داخل الفندق وكذا زيارته لحديقة التجارب رفقة القاضي فيرمي، ثم حضور مأدبة العشاء التي أقامها حاكم الجزائر ….

هذه المأدبة التي تعد أخر عشاء لماركس قبل مغادرته الجزائر، بعد أن خاب أمله في تحسن الطقس لصالحه، كانت هذه المأدبة حلبة للمصارعة المعرفية بين قطبين متعارضين، قطب يمثله ماركس لوحده وقطب يمثله الحاكم العام وبعض الحاضرين خاصة مستر هارسون رجل أعمال وأدب وأحد مساعدي القنصل الأمريكي في الجزائر المستعمرة، حيث أبان هذا النقاش الساخن على قدرة الروائي فيصل الأحمر الفائقة في سبك الحوار وثراءه الفكري والمعرفي. وقد مثل ماركس الصفة التي دائما ما تطلقها زوجته جيني، في قولها “حبيبي ملاكم في عالم الأفكار”

وتسعى الرواية إلى فضح ازدواجية الخطاب الاستعماري خاصة في الجزائر، حين كانت القوة هي الشعار الذي تدافع به فرنسا الاستعمارية عن مشروعها الاستدماري وقمعها لكل محاولات الدفاع عن الأراضي، ولهذا يختار الروائي لسان كارل ماركس للقيام بمهمة فضح هذه الإزدواجية، خاصة في الحوار الذي دار بينه وبين الصحفي الفرنسي الشاب ترستان باريار الذي استفز ماركس بأسئلته الغير بريئة.

يقول باريارفي موضع من حواره مع ماركس: ” فهمت. أنت ترى أن البناء الكولونيالي ليس صالحا. ولكن كل المعلقين يرون في الكولونياليّة خيرا لا ريب فيه، ويصنفون الكمونة وأعمال الشغب كحركات بسيطة لا تشكل أي خطر على مسار التطور الرهيب لعالمنا الحديث . ألا تعتقد أنك تريد إقامة حفل عزاء لعالم بائس في دماغك وسط أناس يحتفلون بميلاد عالم جديد يتفاءلون به خيرا في أدمغتهم التي هي أكثر عددا بكثير من دماغك مع احترام المقامات وعدم إهمال الإحصاءات ؟” ص152

والملاحظ أن رواية فيصل الأحمر تجمع بين التاريخي والمتخيل، إلا أنها لا تغفل الواقع فهي ترسل بعض الإشارات المرتبطة بالتاريخ والذاكرة والتي لم تتخفف العلاقة المتوترة بين الأنا والأخر وومدى ازدواجية الخطاب وعدم الاعتراف.

وتتطلب هذه الرواية معرفة خاصة من أجل محاورتها، كونها تختزن كثيرا من القضايا الفكرية التي تعيد ترتيب مواقف ماركس، الذي بدوره يعيد النظر في مواقفه الكثيرة، ليسقط عنه من خلال حواراته العديدة تهمة: المفكر الأوربي المتمركز والداعم للكولونيالية

ويجب على القارئ أن يملك قدرة خاصة أيضا تمكنه من فك التشابك بين الحقائق التاريخية وبين مواضع الخييل. وأن يتوصل إلى فكرة مفادها أن الروائي قد أعمل خياله من أجل خلق مساحة رحبة مهمتها هي التعبير عن قضايا الراهن وعلاقتها بقضايا أخرى تاريخية لم يحسم القول فيها بعد.

*الجزائر