حاتم السروي
تقول الدكتورة “أميرة حلمي مطر” في مقدمة كتابها “الفلسفة اليونانية.. تاريخها ومشكلاتها”: “والفلسفة بالمعنى الدقيق للكلمة علمٌ عرفته حضارة اليونان وحددته بأنه تفسير عقلاني لظواهر الكون والحياة الإنسانية، ولا يعتمد هذا التفسير إلا على الفروض العقلية التي تقبل النقد والحوار، وهو ظاهرة فكرية جديدة على الفكر الأسطوري القديم، وهو الأساس لكل فلسفة حديثة”.
وفي العصر القديم عَرَّف أفلاطون الفلسفة بأنها: ” السعي الدائم لتحصيل المعرفة الكلية الشاملة التي تستخدم العقل وسيلةً لها وتجعل الوصول إلى الحقيقة أسمى غاياتها” وفي العصر الوسيط عرَّفها الفارابي بأنها: “الصناعة التي تؤدي إلى إصابة الحكمة لمن يتمتعون بجودة التمييز الناتجة عن دودة الذهن” كما عرَّفها الكندي بقوله: ” الفلسفة هي علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان؛ لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق”.
أما في العصر الحديث فقد عرَّفها ديكارت بقوله: “إن كلمة الفلسفة تعني دراسة الحكمة، ولسنا نقصد بالحكمة مجرد الفطنة في الأعمال؛ بل معرفة كاملة بكل ما في وسع الإنسان معرفته بالإضافة إلى تدبير حياته وصيانة صحته واستكشاف الفنون، ولكي تكون هذه المعرفة كما وصفنا فمن الضروري أن تكون مستنبطة من العلل الأولى”.
الفلسفة إذن هي البحث عن الحكمة، وهي كلمة يونانية الأصل مكونة من مقطعين: (فيلو+ صوفيا) وذلك أن الحكيم والعالم اليوناني “فيثاغورس” رأى أن الحكمة من صفات الآلهة ولا يمكن أن يتصف بها الإنسان، لكن يكفي المرء أن يحب الحكمة ويعشقها ويجد في السعي إلى طلبها، ومن هنا لم تعد الفلسفة هي Sophia بل أصبحت Philosophia ومعناها “محبة الحكمة”.
ولما كانت الفلسفة هي محبة الحكمة فإن هذا الحب يقتضي السعي المستمر من أجل معرفة الحقائق والآراء السديدة ومعرفة ماهو الخير، وإذا كانت الفلسفة القديمة التي بدأت عند اليونان لم تكن إلا محاولة لتفسير الكون وبيان أصل الحياة والوجود ومصيرهما؛ فإن الفلسفة المعاصرة تعمل على تغيير المجتمع وإصلاحه وتطوير آفاق الحياة فيه.
والفلسفة ليست علمًا بالمعنى الدقيق للكلمة لأنها لا تلتزم بميدان محدد تتخصص فيه، وإنما هي نظرة عقلية شاملة للكون والوجود والحياة، وهي علم المبادئ العامة أو العِلَل الأولى، فعلى حين يهتم العلم الطبيعي بالبحث عن الأسباب أو العلل القريبة المباشرة للظواهر التي يدرسها؛ فإن الفلسفة تحاول أن ترد هذه الظواهر إلى علةٍ أولى، وعلى سبيل المثال: إذا كان علم النبات يقرر أن الأسباب المباشرة لعملية الإنبات هي وجود الضوء والحرارة وثاني أوكسيد الكربون، فإن الفيلسوف – إذا كان مؤمنًا- يقرر أن الله بإرادته النافذة هو الذي شاء للنبات أن يعيش وينمو.
فالفلسفة إذن وجهة نظر توجه تفكير الفيلسوف وسلوكه والقيم التي يدعو إليها ويعمل بها، وبعبارة أخرى هي المبادئ العامة التي يبني عليها الشخص معتقداته الاجتماعية والخلقية والسياسية، وبهذا المعنى العام يصبح كل البشر فلاسفة، أو في داخل كلٍ منهم بذرة فيلسوف.
على أن الفلسفة بالمعنى الدقيق المحدد هي بحث يستخدم العقل بشكل منطقي ومرتب للوصول إلى وجهات نظر تشكل مذهبًا فلسفيًا متكاملًا، وقد يستهين البعض بكلمة “وجهة نظر” فما الأهمية لوجهات النظر في تقدم الأمم؟ والحقيقة أن فوائد الفلسفة للفرد والمجتمع كثيرة جدًا ولكن نظرًا لانتشار الجهالة والسطحية وقلة القراءة فقد سادت نزعة عدائية واضحة للفلسفة لأن المرء عدو ما يجهل، ويمكن الحديث عن فوائد الفلسفة – على سبيل المثال وليس الحصر- على النحو التالي:
تكوين وجهة نظر متماسكة وعقلانية في الحياة:
إن الفلسفة تؤثر في اتجاهات القارئ والدارس لها، فهي تدفعه إلى تبني قيم معينة، كما تجعله يعتقد باتجاهات خاصر في تفكيره وسلوكه ومجمل حياته، والفلسفة من هذا الجانب تضم نظرة الفرد في الأسرة والأخلاق والعمل والناس والمجتمع والاقتصاد والسلوك والعقائد الإلهية، ولأن للفلسفة هذا التأثير الهائل فإنه من الواجب على دارس الفلسفة أن يتأنى في اختيار المدرسة الفلسفية التي يفضل الانتماء إليها إذا كان ممن يفضلون اتباع مدرسة فلسفية معينة، أما إذا كان ممن يفضلون تكوين وجهة نظر مستقلة فإنه يتحتم عليه عدم التسرع في التفكير وأن يبني معتقداته بعد دراسة شاملة وتفكير منهجي يقوم على العقل لا على الهوى، وقد تكلم ديكارت – الفيلسوف الفرنسي المعروف- عن المنهج الذي يصلح لكل البشر من وجهة نظره من أجل الوصول إلى الحقيقة، وسوف نعرض بالتفصيل لهذا المنهج في موضعه من الكتاب.
الفلسفة تعصم الفرد من النظرة القاصرة؛ حيث تجعله قادرًا على دراسة الموضوعات دراسة شاملة استقصائية تحصي كل جوانب القضية المراد دراستها.
التفكير النقدي: تعمل الفلسفة على تشكيل وصياغة عقل الفرد من جديد بحيث يصبح قادرًا على تمييز الأفكار والمعلومات التي تلقى إليه ولا يكون مجرد وعاء يجمع كل الأفكار بدون نظرة نقدية واعية، والتفكير الناقد هو الذي لا يقبل معرفةٍ أو حكمًا إلا بعد البحث والتمحيص وبذلك يرفض التقليد والتبعية والأحكام المتسرعة، ويتحرر من تأثير الأحكام المسبقة والعادات الفكرية التي قد لا تكون صائبة، ويسعى إلى الشك المنهجي حتى يصل إلى اليقين الحقيقي.
السعي الدائم نحو المعرفة ومحبة الوصول إلى الحقيقة في كل شيء؛ فالتفكير الفلسفي لا يقف عند حدود بل يُستثَار دائمًا ويتتابع إلى ما وراء حدود قد يقف عندها التفكير العلمي.
• والخلاصة:
أن الفلسفة تعطي للإنسان معنى لحياته، وتوسع مجالات تفكيره وتساعده على التعمق في الفكر، وتكسبه القدرة على النقد البناء، وتجعله يشك حتى يصل إلى القناعة التامة التي تريحه وتجعله يؤمن بمعتقداته بشكلٍ راسخ ومتين لا يتزعزع، والفلسفة تحرر الإنسان من سطوة العرف والتقاليد إلا إذا كانت التقاليد متفقة مع لعقل السليم وساعية نحو الخير، والدارس للفلسفة يبني معارفه وآراءه على العقل، ويختار سلوكياته وأفعاله بناءً على العقل فيصبح حكيمًا أو فلنقل: إنه يقترب كثيرًا من الحكمة، ويصبح دائم التساؤل والبحث عن إجابات، ومن ثم يصبح مثقفًا حقيقيًا، فلا ثقافة بدون الفلسفة.
أما عن فوائد الفلسفة للمجتمع؛ فهي كالتالي:-
معرفة مبادئ جديدة في المجالات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية، وهي مبادئ من شأنها العمل على تقدم المجتمع.
نقد المبادئ التي أدت إلى إحداث المشكلات في المجتمع، والقيم التي ثبت للفلاسفة عدم صلاحيتها للحياة الاجتماعية، وهذا ما نراه عند “جان جاك روسو” و”جون لوك” و”مونتسكيو” والبراجماتيين أمثال: “وليام جيمس” و”جون ديوي”.
وفي المقابل تعمل الفلسفة على الدفاع عن القيم الأسياسية للمجتمع والتي تضمن تماسكه وتحافظ على تراثه وتعمل على حمايته من التحلل وبالتالي يستمر وجوده.
تعبر الفلسفة عن حضارة الشعب والعصر اللذين ظهرت فيهما، وتختلف الفلسفات باختلاف أحوال الشعوب وثقافاتها، وعلى سبيل المثال تأثرت فلسفة “بيكون” و”جون لوك” وهما من انجلترا بظروف المجتمع الانجليزي في عصرهما، فيما تأثرت الفلسفة البراجامتية المعاصرة بظروف المجتمع الأمريكي واتجاهاته الفكرية والعملية.
• وللتفكير الفلسفي عدة خصائص تنبئ عن أهمية الفلسفة للإنسان وفائدتها الكبرى للنوع البشري، ويمكن إجمال هذه الخصائص على النحو التالي:
الحيرة والدهشة: الفلسفة هي دهشة الإنسان الشغوف بالمعرفة المحب للاستطلاع ذو اللسان السَّئُول والذهن العَقُول، والتفكير الفلسفي ليس كأي تفكير فهو يتأتى من حيرة الفيلسوف الحميدة ودهشته التي تدفعه إلى الانشغال بالبحث عن الأسباب البعيدة للظواهر الكونية والحياة والمعرفة والوجود بكليته.
الشمولية: يمتاز الفكر الفلسفة بالعمومية مقارنةً بالفكر العملي الذي يتسم بالتخصص ويكتفي بالبحث في المواضيع الجزئية للظاهرة أو الموضوع المطروح للدرس، والنظرة الشمولية أمرٌ محمود ولا شك.
المنهجية: يمتاز الفكر الفلسفي بالمنهجية والابتعاد تمامًا عن العفوية؛ حيث يمر بمراحل وخطوات محددة يضعها الفيلسوف بنفسه.
الشك: والشك ليس شرًّا في المطلق كما يرى البعض، وإنما الشك هو أول طريق اليقين، والمواقف التي يخلص إليها الفيلسوف هي بكل تأكيد نتيجة للشك في مواقف مغايرة ومضادة، فلابد من الشك حتى نصل إلى رأي واضح يمثل ما نعتقد أنه اليقين.
تحديد مجالات الفلسفة:
عند بداية الفلسفة منذ حوالي ألفي وخمسمائة عام وعلى مدار العصور القديمة والوسيطة كان بين الفلسفة والعلم بكل مجالاته رابطة لا تنفصم عراها، وفي العصر الحديث استقل العلم تمامًا عن الفلسفة نظرًا لكثرة أنواع المعارف الإنسانية وتعدد جوانبها الأمر الذي استتبع بالضررة حتمية توزيع المجهود العقلي وإيجاد التخصصات حتى يتمكن العالم من التفرغ إلى مجاله والإبداع فيه والتفوق، ولم يقف الأمر عند وضع الحدود الفاصلة بين الفلسفة والعلم؛ بل إن العلوم نفسها قد تمايزت عن بعضها البعض.
واليوم عاد المثقفون للحديث عن وحدة المعرفة الإنسانية وضرورة العودة إلى “الموسوعية” إلا أن الأمر الواقع حتى الآن أن العلوم لها شُعَبٌ كثيرة، وأن الفرق واضح تمامًا بين العلم والفلسفة؛ إلا أن العلاقة بينهما لا زالت مستمرة ولم تزول بطبيعة الحال فكلاهما يفيد الآخر ويستفيد منه.
ويمكن حصر أقسام الفلسفة في ثلاثة مجالات أساسية، وهي على النحو التالي:
“الأنطولوجيا” وهي البحث في طبيعة الوجود وحقيقته.
“الإبستمولوجيا” أو نظرية المعرفة، وتعني دراسة المسائل العامة المتصلة بطبيعة المعرفة الإنسانية وما فيها من صواب وخطأ والحدود التي تقف عندها.
“الإكسيولوجيا” وتعني البحث في القيم من حيث: ماهيتها- حقيقتها- دلالتها ويراد بالقيم هنا: (الحق والخير والجمال) ويدخل تحت فلسفة القيم فرعان هما: 1- علم الأخلاق، وهو البحث في المُثُل العليا أو المعايير التي يُقاس بها سلوك الإنسان. 2- علم الجمال: وهو البحث في المُثُل العليا، أو المعايير التي يُقاس بها الفن.
وللفلسلفة فروع أخرى غير المجالات الثلاثة المعروفة (الوجود والمعرفة والقيم) وأبرزها بالطبع (علم المنطق) وهو علم يبحث عن الشروط العامة للتفكير الصحيح فهو أداة العقل وقانونه الذي يحكم عملياته، وللمنطق منزلة خاصة بين سائر الدراسات الفلسفية الأخرى فهو المقدمة الأساسية لها جميعًا.
ومن فروع الفلسفة (علم النفس) وقد استقل هذا العلم عن الفلسفة في مرحلة متأخرة؛ غير أن دارس الفلسفة في الجامعات حتى الآن يدرس علم النفس كما يدرس علم الاجتماع بالإضافة إلى “فلسفة القانون” و”فلسفة العلم” وكل مجال فيهما يبحث عن المبادئ العامة للقانون والعلم ويجيب عن بعض الأسئلة الخاصة بهما تاركًا تفاصيلهما للمتخصصين فيهما.
ومبحث (الوجود) أو الأنطولوجيا هو أعظم فروع الفلسفة الأساسية خطرًا؛ فهو المحور الذي تدور حوله الدراسات الفلسفية كلها في الحقيقة، أما (المعرفة) و(القيم) فليسا سوى وسيلة نستعين بها على فهم الوجود وتوضيوح طلاسمه ومعمياته.