المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

من هي النخبة في الوطن العربي؟؟

جمال حضري

إن الدافع إلى طرح هذا التساؤل هو الفوضى التي نعيشها، فوضى القيم والتوجّهات، فوضى التفكير والسلوكات، فوضى السياسة والانتماءات، فوضى الكتابة والانتشار السطحي، وتسليع كل شيء في حياتنا. والأخطر من ذلك فوضى العلاقات الاجتماعية والخيارات السياسية والآفاق الثقافية. فهل الفوضى المتشعبة نتاج لغياب النخبة؟

يمكن الجدال بشأن دور النخبة وأهميتها، خاصة في عصر يشهد ديمقراطية المعلومة وشيوع المعرفة، وذوبان الفوارق بين طبقات المجتمع، لكنه جدال كلاسيكي يحصر النخبة في فئة المثقفين وحسب. فالكثيرون يعتقدون أن هذه النخبة فقدت هي ذاتها بوصلتها وانغمست في واقعها اليومي، ولم تعد تملك الحضور والوزن الذي يغير وجهة الأحداث.

والحقيقة، أن النخبة ضمن العنوان الثقافي في مجتمعاتنا على الأقل لم تكن يوما نخبة بالمعنى الفعّال، بل كانت تلعب دورا مكمّلا لنخبة ظلّت تتلاعب بها وتستخدمها وتوظفها في الأطر المحددة لها. لقد صنع السياسي تابعا أساسيا ووظيفيا هو المثقف، وأسس له وظيفة وحيدة هي تشييد الدعامة المعنوية للسلطة، أو الواجهة الجمالية للعبة الحكم والتسيير. وفي تاريخنا الثقافي تقبع صورة “شاعر البلاط” في ذاكرتنا، يعرض سلعته على الحاكم وينتظر عطاياه لتنشيط لسانه، ويصل الدور إلى أتفه مراتبه حين يؤدي هذا الشاعر وظيفة الدعابة وتطييب مزاج الحاكم بالهجاء ومناوشة خصوم الشعر.

لا يبتعد واقعنا المعاصر كثيرا عن هذا المشهد المروّع، فأقصى ما يمكن أن يخرج إليه مثقف اليوم من التحرر هو سلوك سبيل الرفض، وحينها يعيش عزلته الذاتية وينكفئ داخل أحلامه، ويبتدع عوالم فردية ينفّس داخلها عن همومه بعيدا عن البلاط. وينبري للوظيفة التاريخية في الترويح والدعابة مرشحون آخرون “أكثر واقعية” لملء الفراغ.

وبهذا الشكل تصعد إلى الواجهة نخبة ثقافية مصنوعة على هوى السياسي، تقتات على أعطياته الرسمية ومكرماته المزاجية وجوائزه الموسمية، وتكتفي في المقابل بالخط المقبول من التمرّد الثقافي والضجيج الإعلامي والمناوشات “الإخوانية”، بما يخيّل للناس أنها حركية كافية لاستقرار الخيارات السلطوية.

وتمييع النخبة الثقافية عن طريق “تبريد” أبعادها التغييرية، وتصعيد الواجهات التصالحية والتشاركية و”الصفقاتية” و”الخدماتية”، ليس إلا وجها واحدا لتغييب المثقف “المزعج”. فالوجه الآخر، والأكثر إسهاما في توليد الفوضى الشاملة، هو تنويع الواجهات النخبوية والنموذجية، لتعمل على تشتيت مراكز التأثير على “الرعية” عبر تكثير نقاط الجذب. فعناصر الإشعاع الثقافي تم تعويمها داخل عناصر إشعاع منافسة بشكل قاتل، حتى أصبح المثقف في وضع محرج ماديا ومعنويا. فإشعاع جاذبية الرياضة مثلا ألقى بثقله حتى أصبح ورقة لا تقدر بثمن في الألاعيب السلطوية، ونشأت تحت الرعاية السياسية نخبة رياضية قادرة على أداء دور الرديف للحكم بشكل أكثر حيوية وفعالية، ولا عجب أن يصعد نجوم من شتى الرياضات، ووراءهم قنوات للتجييش والتحشيد والتمجيد، لكن ليس بعيدا عن اليد الحانية الحامية للقائد السياسي، حتى أصبح للمعلق الرياضي صوت يدلي به في الخيارات المصيرية، وتوجيه الرأي العام الوجهة المطلوبة.

بالموازاة مع تصنيع النخبة الرياضية، أو قبلها أو بعدها، تم تصنيع نخب الفن والسينما والتلفزيون، وتشكل معها مجتمع مخملي مرتبط بطبقة الحكم ارتباط الجارحة بالجسد، وتمددت العلاقة حتى أصبح الفنان بوصلة للناس في الخيارات السياسية، فكيفي مرشح الحكم أن يحيط نفسه بشلة من الفنانين لتمرير أو تبرير مقبوليته لدى الجمهور المؤطّر فنيا كما أطّر رياضيا وثقافيا.

والجديد في هذه الصناعة النخبوية هو استقطاب نجوم التواصل الاجتماعي، الذين يُرصَدون لالتقاط كل الفئات التي عجزت الصناعة النخبوية الكلاسيكية عن استيعابها، ففي فترة متسارعة انتبهت طبقة الحكم إلى مستجدات العولمة الإعلامية والاجتماعية وما تلعبه في حشد الأنصار حول “المؤثّرين”، ومن خلال التفاف قانوني وتشريعي تم ترويض العناصر المتفلّتة، واستقطبت لأداء دور نخبوي جديد، أصبح واجهة غير رسمية للخطاب السائد.

والنتيجة هي تعددية نخبوية كسرت معايير التفوق والترقي الاجتماعي والثقافي، وقفزت من نطاق الهامش إلى بؤرة التأثير، لا لكفاءات خارقة أو إنجازات فارقة، بل المعيار الوحيد هو نجاحها في تسويق خطاب يلائم جيلا جديدا لا يثق في القنوات الرسمية التربوية والإعلامية وحتى الترفيهية، فكان هذا رصيده ليترشح لخدمة منظومات الحكم التي كادت أن تخرج من عصرها وحاضرها، فأنعشتها هذه النخبة “المعولمة” ومدّت في رمقها الناضب.

كل هذه “النخب” وغيرها مما لم نذكر، ليست في الحقيقة نخبا بالمعنى الذي يشاع بكونها موجهة أو فاعلة، بل هي نخب “كوسميتيكية”، نخب لتجميل طبقة الحكم الناعمة أو الخشنة، أما النخب الحقيقية التي توجه وتقرر وتحدد المصائر، فما أبعدها عن الأضواء وما أقربها للفعل والأداء.

مثل هذه النخب لا تصنعها الخطابات والأهواء والإشهار والقنوات، بل يصنعها المال والقوة والنفوذ. نخب تتوارث السلطة بسلاسة عبر توافقات مستقرة لا تعكرها جفوة عابرة أو خلاف “أخوي” مقبول. هذه النخب مغلقة تجاه “الهبل” الفكري و”النزق” الفني و”الهيجان” الجماهيري، فحياة هذه النخب الرهيبة ماضية في غمرة هيمنتها على كل شيء، أرضا وجوا وبحرا. عند هذه النخب يوجد “الوطن الحق” و”الوطنية الحقيقية”، وعندها فقط يوجد للتاريخ معنى وللمستقبل آفاق. هذه النخب الحقيقية هي التي لا يشغلها كل صباح سعر الرغيف والحليب والكهرباء وسعر الإيجار لإيواء العائلة أو سعر العقار لبناء بيت.

وكل ضجيج الدنيا الذي نسمعه كل يوم ليس إلا تغطية جميلة أو بشعة على سريان الحياة المستقرة لهذه النخب الحقيقية، وإذا ما كشفت الأيام فلتة من حياتها ظهر القليل مما تنعم به من خيرات لا يكفي الخيال لتصورها. فقد يراد لمنعطف ما في حياة تلك النخب أن يتم بعنف وقسوة لاسترضاء الرعية وتمرير مشروع ما، فيضطر لكشف فئة “ضالة” و”مختلسة”، فإذا بالمكشوف النادر يشيب لهوله الولدان، فحتى مصطلح السرقة لا يكفي، تكالب على موارد “الشعب” و”الوطن” وكأنه غزو لأرض معادية، أموال وشركات وعقارات في أصقاع الأرض وسيارات ويختات وطائرات وهلم جر، مما كنا نحسبه من ترف الممالك والإمارات الباذخة، فإذا به من يوميات كل “أوطان العزة والكرامة” عندنا. عالم منفصل بكل حيثياته يجري على ذات أرضنا وتحت سمائنا، أرض وسماء نتداول فيهما يوميات الندرة والجهد والغلاء وضيق الدُّور والصدور، وتتداول فيهما تلك النخب المليارات والعقارات والمراكب، تداول حاتمي لا يحرم منه الأبناء والبنات والزوجات والأقارب إلى أبعد الدرجات.

إننا لا نعيش إلا ضوضاء مصنّعة تتولّاها نخب زائفة، تقتات على ما تجود به النخب الحقيقية المنفصلة في عوالمها الباذخة.