خلال الأزمة السياسية الفرنسية التي اندلعت بين فرنسا وبريطانيا في الثمانينات من القرن الماضي، قرّر مثقفو البلدين الاجتماع مرتين في ألمانيا ثم إسبانيا لإيجاد حل للتوتر السياسي بين البلدين، رافضين الانحياز للقطيعة والحملات الإعلامية المعادية بين البلدين.. لكن مواقف المثقفين العرب من أزمات سياسية مشابهة لم تكن – في الواقع- إلا انعكاساً لحالةٍ من الاستقطاب السياسي الحاد الذي تكرّسه الأنظمة الراهنة، ولعل المثال الأبرز في هذه المقاربة (أزمة الخليج الحالية)!! فلماذا عجز المثقف العربي عن تحمل مسئوليته كمثقف معرفي وظل طوال الأزمات العربية يركب عربة السلطة، كلٌّ في بلاده؟ ولماذا سقط الكثير من المثقفين في وحل \”الدولة القُطرية\”، معتبرين أن بلدهم على حق وبقية البلاد مخطئة على حساب التقارب والتصالح والوعي المعرفي الذي يفترض أن تصنعه الثقافة؟! وهل تبقي شيء اسمه مثقف عربي؟!
مجلة (الثقافة الجزائرية) – وفي إطار بحثها عن دور المثقف ومسؤولياته اتجاه الشعوب- طرحت هذه الأسئلة على عدد من المثقفين العرب وعادت بهذه الإجابات وكان ردهم.. نذكر أننا سنترجم الملف إلى اللغة الفرنسية لنشره في مجلة Lire الفرنسية الشهيرة وفق الاتفاق الأخير معهم على ذلك..
د.عاطف سليمان (أديب من مصر): من الصعب الحديث عن المثقف بالمطلق.
بالنسبة إليَّ، يتعذَّر الحديثُ عن (المثقف) بصفةٍ مطلقة لِفرط عمومية واتساع مفهوم هذه الكلمة، ولِما يجلبه ذلك من خلطٍ وجدل، وسأقتصرُ على المثقف اليساري.
في نهاية ثمانينات القرن العشرين سقط النظامُ الاشتراكي في الاتحاد السوفـييتي، وتفككت الكتلةُ الشرقية، واستتبع ذلك تداعي وانهيارُ الأحزاب والمنظمات الشيوعية والماركسية والاشتراكية في معظم بلدان العالم. منذ بداية التسعينات، وبحذقٍ بالغ، سارعت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها وتابعوها من الدول الأوربية إلى الانتفاع المزدوج بمئات الآلاف، بل بملايين، من الشخصيات والعقول التي تركها سقوطُ الاتحاد السوفييتي هائمةً في الفراغ، وفطنت إلى إرساء شكلٍ مُتقَنٍ بديلٍ من أجل احتواء المثقفين والمناضلين اليساريين المنكسرين وإعادة تأهيلهم و\”تشكيلهم وضبطهم\” فلا يعودون إلى التفكير في مناهضة الإمبريالية بل يمكن الاستفادة منهم بالتدريج في خدمة قضايا الإمبريالية بالذات. وكان ذلك الشكل البديل البارع هو (منظمات المجتمع المدني) أو (المنظمات غير الحكومية)، واستُقطِب الكثيرون من القيادات اليسارية في مصر وفي بلدان عربية وغير عربية، فوقفوا أمام أبواب السفارات والمؤسسات الأمريكية والغربية يتسوَّلون التمويلاتِ والتراخيصَ ودعواتِ السفر وبرامجَ العمل، ويتلقونها. وقد اعتنت هذه السفارات والمؤسسات، ظاهرياً ومؤقتاً، بطمأنة الجميع أنهم سوف يعملون في أنشطة تشرِّف تاريخهم وماضيهم النضالي مثل تكوين جمعيات للحفاظ على حقوق الإنسان وخدمة البيئة المحلية وما إلى ذلك. وفي الوقت نفسه تمكنت أمريكا وزملاؤها من الضغط على الحكومات لأجل (توضيب) الهامش الذي تستطيع فيها جمعياتُ المجتمع المدني غير الحكومية العملَ في بلدانها بقدرٍ كبير من الحرية. مع اعتياد المثقف اليساري، المؤسِّس أو المنضم إلى الجمعية المموَّلة، على نمط حياةٍ جديد به قدر لا بأس به من الوفرة والرغد والوجاهة الاجتماعية والحماية والأمان، بات عليه ألَّا يخاطر بفقدان مكاسبه تلك، وألَّا يجد غضاضةً في التنازل تدريجياً عن استقلاليته لصالح أولياء نِعمته، وأن يتبنَّى مواقفاً تشبه – فقط من حيث الرطانة – مواقفَه القديمة الأصلية، ويناصر قضايا تشبه – فقط من حيث العناوين – قضاياه الأصلية، ويقبل بازدواجية المعايير، ويرضى بالانتقائية التي تفرضها عليه برامجُ العمل. لكن أمورَ هذه الجمعيات بكل مخازيها استتبت، خاصةً أن شيوعَ انضواء شخصيات يسارية بارزة في هذه الجمعيات كان له مفعول فتاوى التحليل الدينية، فخَلَقَ نوعاً من التشجيعِ والتواطؤِ العام بخصوصها في أوساط اليسار وغضِّ الطرف عن انتقاد المنضوين فيها، ثم استعرَ الحماسُ لها والتنافس بل التكالُب عليها. وبالمختصر؛ فإن المؤسسات الدولية الخادِمة للمصالح الأمريكية والغربية قد استولت بسهولة على قطاع مهم من مثقفي اليسار في العالم كله، وأدمجتهم بالتدريج في منظومتها، وحصلت منهم – مثلاً، في مصر ومنطقتنا العربية – على الجهود التي بذلوها من أجل تبييض وجه جماعة الإخوان المسلمين ومن أجل إلحاقها بالمعارضة الوطنية، تمهيداً للدفْع بها إلى مقدمة الحريق العام العارم الـمُسمى بثورات الربيع العربي وفوضاه المهلكة. على أن ذلك، بالطبع، لم يكن المصيرَ الوحيدَ للمثقفين اليساريين العرب الذين تنوَّعت مصائر الباقين منهم بما لا يمكن حصرُه؛ فالبعض انزوى، والبعض استمر على خط كفاحه ونضاله ومعتقداته، والبعض ذهب إلى الأفكار والجماعات الدينية بمختلف أنواعها، والبعض التفتَ إلى لقمة العيْش يكرِّس لها كل حياته، والبعض أخذته الدولُ البترولية ولم تردَّه إلا جسداً نُزِع عنه ماضيه المضيء، مثلما جرى مع الدكتور فؤاد زكريا في الكويت ومع الدكتور عبد الوهاب المسيري في السعودية. هل الدول العربية وأنظمة الحكم في الدول العربية هي دول وأنظمة مستقلة ولها إرادة حرة بشكل عام حتى في خلافاتها مع بعضها البعض؟ أعتقدُ تماماً أن سياسات معظم الأنظمة العربية – بما فيها سياسة الخلافات البينية – تُمليها مشيئاتُ الدول الغربية بشكل مباشر أو عبر مَن ينوب عنها، وينحصر دورُ الأنظمة العربية، ربما، في طريقة إخراج هذه الخلافات ووضْع نكهة (المكايدات) عليها. وبافتراض أن مجموعة معتبرَة من أهم مثقفي العالم العربي قد توافقت على رأي معين بخصوص أزمة معينة بين الدولة (س) والدولة (ص) والدولة (ع) من الدول العربية، وبافتراض أن الإمكانيات المادية للسفر والتلاقي والمناقشة متوفرة، وبافتراض أن تأشيرات السفر ميسورة، وبافتراض أن جولات هذه المجموعة من المثقفين ستحظى بالاعتبار والاحترام والتقدير وأنهم سيتمكنون من الالتقاء بأصحاب السلطة في البلدان المقصودة، وبافتراض أن رأيهم كان صائباً وحكيماً، فهل سينصت إليهم فعلاً أصحابُ السلطة؟! بل إن السؤال بالأحرى هو: هل يملك أصحابُ السلطة من أمرهم ما يكوِّن لهم إرادةَ الاستماع والإنصات وتنفيذَ ما فيه صالح أوطانهم وشعوبهم؟! كمِثالٍ فقط، أود التذكيرَ بالأزمة المشينة المزرية التي نشبت بين مصر والجزائر في سياق مباريات كرة القدم المؤهلة إلى نهائيات مونديال 2010، وأنوِّه بأن غالبية الذين أوقدوا تلك الأزمة – من الجانب المصري – كانوا من المثقفين البهاليل الانتهازيين؛ صحفيين وإذاعيين ومعلِّقين وفنانين وغير ذلك، ممن واتتهم الفرصةُ ليتملقوا أصحابَ السلطة في مصر ويناصروا مسألةَ توريث الحُكم التي كان يُزمعُ إجراؤها، فيضمنوا لأنفسهم حظوةً في حناياها بأي ثمن وبأية وسيلة. لعلنا نحتاج إلى شرطيْن اثنيْن، على الأقل، لكي يكون للمثقف العربي دورٌ إيجابي في مداواة الخلافات العربية-العربية: أولاً- أن يتوفَّر مثقفون ذوو جدارة ومصداقية موثوقة ومُجرَّبة، والغالبية من هذا الصنف ليست موجودة إلا في صفوف اليسار، غير أن اليسارَ ممتنعٌ الآن امتناعاً شديداً. ثانياً- أن تتوفَّر أنظمةُ حُكْمٍ حُرة، مستقلة، وذات رشاد!
حميد الحريزي (ناقد وروائي عراقي): الإسقاطات الراهنة أنتجت مثقفاً متلوناً.
المثقف هو منتج الثقافة، والذي ينتمي في الأعم الأغلب إلى الطبقة الاجتماعية في أي مجتمع من المجتمعات في العالم، ومعنى أن تكون هناك طبقة وسطى إنها طبقة بين طبقتين، في عصر النهضة الأوربية كانت الطبقة البرجوازية الناهضة تقود نضالاً ثورياً ضد قوى الإقطاع والملكية المطلقة، تؤازرها الطبقة العاملة المنتجة، ووجود طبقة وسطى تتميز بالاستقلالية ينتمي لها أهل الفكر والعلم والثقافة، لأنها بين طبقتين قويتين ومنتجتين، فكانت هذه الطبقة هي منتج الفكر التنويري والديمقراطي باتجاهين متعاكسين ولكنهما في النتيجة يصبان في مجرى الحداثة والتقدم الحضاري الذي تشهده هذه المجتمعات، مما أعطاها دوراً متميزاً في تاريخ رقي وتطور هذه المجتمعات وأكسبها شخصية مستقلة مؤثرة، فقد كانت طبقة رائدة وقائدة وليست تابعة للسلطة الحاكمة. في عالمنا العربي وفي ظل واقعه الاجتماعي المتميز بهشاشة و(ميوعة) طبقاته الاجتماعية، وعدم وجود طبقة برجوازية وطنية منتجة، بسبب القطع القهري للتطور الاجتماعي لهذه المجتمعات التي عانت من التدخل الاستعماري وكون أغلبها دولة (ريعية)، وتحويل مجتمعاتنا إلى مجتمعات مستهلكة، وسوق لتصريف بضائع ومنتجات العالم الأول، وبذلك صنعت طبقة برجوازية طفيلية تابعة للرأسمال العالمي، تسير في فلكه وتأتمر بأمره، وقد مكنت قوى الاستعمار هذه الطبقة لتتربع على سدة الحكم والسلطة … إن حاجة هذه الطبقة إلى كوادر تدير عمل دوائر الدولة المختلفة، وفق عقليتها وتوجهاتها، وثقافتها الاستهلاكية، تطلب منها تصنيع طبقة وسطى تتسم بالتبعية، وهشاشة الذات، متقدة للاستقلالية، لأنها مرتبطة بمؤسسات ودوائر الدولة الحكومية، وتحت هيمنتها ونفوذها، مسؤوليتها تنفيذ سياسة الدولة وطبقتها السياسية المهيمنة، تتلقى منها رواتبها، الأكثر حظوة برضا الحاكم، هو الأكثر حظوة بحيازة المكاسب والمناصب، ومن يكون خلاف ذلك يُعتبر مشاكساً ومنبوذاً ومطروداً من كافة المناصب الحكومية ومحروماً من امتيازاتها.. حالة اللا استقرار، ودوام أزمة الطبقة الحاكمة، الذي أدى إلى عدم استقرار وتبدل رموز ووجوه هذه الطبقة عبر المؤامرات والانقلابات المستمرة، من أجل احتكار كرسي الحكم لعائلة بعينها أو (لحزب) من أحزابها فقط، بناءً على طبيعتها الأنانية والاستحواذية، لذلك فإن بلداننا هي الأكثر في عدد الانقلابات (الثورات)، وتبدل وجوه الحكام من حيث الشكل وليس المضمون، كل زمرة (جديدة) تستحوذ على السلطة، تسعى إلى إحلال المواليين لها من كوادر إدارية وعلمية وثقافية، يقدمون لها فرض الطاعة والولاء، مما يتطلب إقصاء المشكوك في ولائهم، مما يتطلب من (المثقف) أن يغير موقفه وولائه، ويتبع المهيمن، بالضد من دوره المفترض أن يكون دائماً خارج هيمنة الحاكم وخارج هيمنة السلطة … وهنا يكمن كما نرى سرّ تهافت وضعف وتبعية وتلوّن (المثقف) العربي، وعدم فعاليته في التأثير على السلطة الحاكمة، واغترابه وغربته داخل المجتمع .
د.أنس المقداد (باحث سوري): سيبقى للمثقف العربي الدور في رسم مستقبل.
في الواقع لا يجوز تعميم ذلك على جميع المثقفين، فمنهم -كما تفضلتِ- ركب عربة السلطة للسعي وراء المنصب والربح المادي والنفاق السياسي، ومنهم من وقف على الحياد بسبب تكميم الأفواه والخوف من السجن وإجرام السلطة المتعدد الوجوه، ولكن هناك الكثير من المثقفين ممن تعرض للسجن بسبب موقفه من السلطة الفاسدة ونقده البناء وطلبه للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، والبعض الآخر من المثقفين اضطر للهجرة خارج بلده حتى يحافظ على كلمته الحرة، ويستطيع الكتابة حتى يعبر عن ذاته والواقع المر الذي يمرّ به وطننا العربي من استعباد واضطهاد. والحقيقة إن البعض من المثقفين تقلّص دوره بقطره الضيق وواكب سياسة بلده القاصرة التي تتمثل بمقولة البلد أولاً مثلاً الأردن أولاً وسورية أولاً و….ولكن البعض الآخر خرج من هذا النطاق الضيق ليسبح في آفاق العالم الرحب ومنهم من نادى بوحدة العالم العربي، وسعى إلى ذلك من خلال كتاباته والبعض الآخر طار باتجاه الأممية والنظرة الإنسانية بأوسع أبوابها، ومنهم من أصبح بوقاً للقوى الخارجية ضد مصالح بلده الأم. ولكن عندما يعالج المثقف العربي المشاكل القُطرية الضيقة فهو يعالج مشاكل الأمة المتشابهة في محاربة الفساد، وتأمين فرص عمل للشباب المتعلم، ومحاربة حكم التسلط الذي جاء بقوة السلاح والانقلابات العسكرية في معظم الدول العربية، فالبيئة العربية خصبة لكي يثور الإنسان فجميع بلادنا العربية على (طنجرة بخار) لا نعرف متى الانفجار. لكن بالطبع سيبقى للمثقف العربي الدور الكبير في رسم مستقبل البلاد لأنه يمثل الطليعة الواعية ويستطيع بما يحمله من علم توعية أفراد المجتمع ووضع الدواء على الجرح الذي ينزف منه عالمنا العربي والإسلامي فالمثقف هو البوصلة التي توجه التيار نحو البناء والتطوير ومحاربة الفساد ووضع الحلول الايجابية ليسير عالمنا العربي نحو المستقبل الزاهر الذي يتمتع بالحرية والكرامة والسعي لتحرير الكلمة في كل مناحي الحياة اليومية.
جبر الشوفي (كاتب سوري): نعم لم يزل هناك مثقف عربي مستقل حرّ الضمير
المثقفون الحقيقيون هم حراس القيم والضمير وقادة التغيير السياسي والأخلاقي والاجتماعي، ولكي يقوم المثقف بدوره في قيادة التغيير، لابدّ من أن يكون منتمياً إلى المستقبل وإلى الخير العام، وأن يتوفر له مناخ من الحرية ( حرية الضمير) والاستقلال عن النخب الحاكمة، وأن يكون هو نفسه مثقفاً نقديا، متجاوزاً لدور المثقف التقليدي المحتجز بالممنوعات الثلاث (السياسة والدين والجنس)، بينما يعاني المثقف العربي في هذا المجال من حالة عجز مركب، يتمثل في غياب حرية التعبير والتقاليد الليبرالية، في ظلّ سلطة النخب المستبدة والبعيدة عن مفهوم الدولة الحديثة والمواطنة، وسلطة هذه بنيتها، لا تحتاج إلى شركاء ولا مثقفين نقديين وتغييرين، بل إلى تابعين وأجراء، وإذا أضفنا أن معظم المثقفين في هذه المجتمعات ولاسيما الخليجية، ينحدرون من النخب الاجتماعية التقليدية في نظام (المشيخات)، التي لم تقطع مع عقل العشيرة وعلاقاتها، لذا نجد معظمهم، يشكلون أتباعاً وبطانة للنخب الحاكمة، ويفتقدون إلى دورهم المستقلّ والمعبر عن مسؤولياتهم، في تقريب المتباعدين وإصلاح المتخاصمين، هذا إذا لم يتحولوا همّ أنفسهم إلى أدوات لترويج هذا الصراع وتأجيجه، عبر النفخ المستمر والمتصاعد في نار الخصومات والعداوات المستحكمة. وفي ظلّ سلطات التغلّب والعصبية السائدة في دول الخليج وفي معظم الدول العربية، وغياب المشروع التنموي العربي الحامل لطموحات الأمة، والتمركز على استمرار السلطة والحفاظ على أدواتها وترسيخ أسس بنائها.. تغيب الحريات العامة والخاصة وحرية الكلمة، ولا يجري أيّ احتكام إلى الشرعية الدستورية، فيجد المثقف العربي (والخليجي تحديداً) نفسه محاصراً وغير قادر أن يؤسس لوعي تغييري منفصل عن النخب الحاكمة، ولا يأمن على نفسه، لذلك تبقى الكلمة للتابع ولمثقفي البطانة الذين يعيشون على فتات موائد السلطان، وفي حالة هذا الخصام والاحتراب البيني بين دول المجلس، يغيب الصوت الحرّ والمستقلّ، إما لأنه تابع أو لأنه مقموع، ويغدو الأمر أكثر إشكالية مع غياب الدولة المثل والبديل، فليس بين هذه الدول المتخاصمة دولة دستورية حداثية، تحافظ الحرية والكرامة، وهذا الوضع أدعى لنكران الحقائق ولاصطفاف هذا النوع من المثقفين خلف السلطات المحلية، وهو ما يكرّس البنية التقليدية لمثقفي السلطان، ويغيب تبعاً لذلك مثقفو التغيير السياسي والداعين إلى عملية إصلاح داخلي شاملة، ويجد عقل العشيرة وعلاقاتها المناخ المناسب للاستثمار الخاص وتلقي (تبريكات) السلطات، على حساب المسؤولية التاريخية للمثقفين، بينما تجعله الأفكار المؤسسة على حرية الرأي ومناصرة قضية التغيير في موقع المساءلة والمغيب أو المهجر أو السجين! مع ذلك.. نعم لم يزل هناك مثقف عربي مستقل حرّ الضمير، ورافض لسياسة النخب الفاسدة والمستبدة، ولكن في ظلّ هيمنة رأس المال وتابعية وسائل النشر والإعلام والميديا بشكل عام، سيظل صوته ضعيفاً ومغيباً، وسيظل معرضاً، لكل عمليات التدجين والتخوين، رغم التوفر النسبي للفضاء الإعلامي المفتوح، ريثما يتوفر له مناخ الحرية في دولة ديمقراطية حديثة، راعية لحقوق المواطنة وحرية الضمير .
جودت هوشيار (كاتب عراقي):المثقف الحقيقي في بلادنا يناضل من أجل البقاء
ليس المثقف من يحمل شهادة جامعية أو لقباً أكاديمياً أو مرتبة علمية في تخصص معين ، ولا كل من يمارس نشاطاً ذهنياً في حقل من حقول المعرفة، ،سواء أكان عالماً أو أديباً أو فناناً، ذلك أن لأن الإنسان المتعلم قد لا يكون إنساناً مثقفاً . إن اتخاذ المعرفة المجردة أساساً لتقييم المثقف أمر يرفضه العقل والمنطق, لأن الدور القيادي الذي يمارسه المثقف الحقيقي في توجيه المجتمع ثقافياً وروحياً، لا يقل أهمية عن دور السياسي المخلص النزيه، الذي يهمه في المقام الأول ، تطوير المجتمع وتحديثه، بما يتلاءم مع الظروف الموضوعية ومواكبة الحضارة الإنسانية المعاصرة فيآن واحد. ..المثقف الحقيقي يتحلى بصفات وسجايا عديدة مثل يقظة الضمير والإحساس بالمسؤولية واستقلالية الرأي والفكر النقدي، ويمتلك رؤية واضحة ومعاصرة للواقع الراهن وآفاق تطوره، والإيمان بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية, ليس لشعبه فقط ، بل لشعوب الأرض جميعاً صغيرها وكبيرها، ولا يمكن تصور أي مثقف حقيقي لا يتفاعل مع قضايا عصره ومجتمعه ولا يقلقه قضية التعايش السلمي بين الشعوب. في الدول التي لا تتوافر فيها ديمقراطية حقيقية – وأنا أتحدث هنا عن العراق حصراً ، لأنني على علم بما يجري فيه – نجد أن السواد الأكبر من ( المثقفين) ينحازون إلى السلطة الحاكمة دائماً، سواء أكانت هذه الأخيرة على حق أو باطل، وقد يتحول بعضهم إلى بوق إعلامي يردد ما تود السلطة سماعه، من أجل ( المناصب والمكاسب ) دون أي اعتبار آخر، بل أن العديد منهم أسسوا مراكز مزعومة للبحوث الاستراتيجية بدعم من هذه الدولة الأجنبية أو تلك، من أجل المساهمة في تنفيذ أجندتها .
المثقف الحقيقي في بلادنا يعاني من الاغتراب في مجتمعه، ومن شظف العيش، ويناضل من أجل البقاء، ولكنه يحرص على قيمه ومبادئه رغم شتى أنواع القمع الفكري والسياسي، الذي يتعرض له. وهو لا يستطيع الجهر برأيه من دون أن يخاطر بمصدر رزقه وقوت عياله، بل حتى بحياته . هذا هو حال المثقفين العراقيين اليوم. كيف يمكن أن نطالبهم بأن يكونوا رسل خير وجسر سلام للتفاهم وحل الخلافات بين الشعوب إذا كانوا داخل بلدهم مختلفين وعاجزين عن فعل أي شيء من أجل وقف نزيف الدم والتهجير والتدمير؟! وإذا كان المثقف المعارض ضحية للفكر الظلامي ووأد الحريات، ومعاداة الآداب والفنون وكل ما هو جميل في الحياة. ولا أظن أن الحال أفضل في عدد من البلاد العربية الأخرى المبتلية بوباء التعصب الديني والتطرف الفكري، ومحاولة القضاء على الآخر المختلف ثقافياً وحضارياً .
ابراهيم محمود- (باحث من سوريا): أين مكان للمثقف في هذا العالم؟
الكل ساخط إجمالاً في عالم اليوم، حتى الذي لا يدَّخر جهداً في إيذاء أقرب المقربين إليه بالقول والفعل، وللمثقف نصيب وافر من هذا السخط، ربما شعوراً منه أنه يهمَّش، أو يحاصَر، أو حين يجد حشوداً من المعتبَرين أنفسهم مثقفين، وهم يسدّون عليه الطريق،فيظهرون هنا وهناك بالكلمة المكتوبة والمسموعة، فيلتزم الصمت، أو يتكلم خجلاً مصدوماً بما يرى، أو يبحث عن عالم وهو فيه غريب اليد واللسان، تقديراً منه أنه يؤكد ذاته بذلك،تجنباً للوقوع في \” مستنقع \” الجاري. وسؤال\” أي مكان للمثقف في العالم؟ ينبني على تصورات من هذا النوع، حيث البساط مسحوب من تحت قدميه، في ظل \” تكالب \” ضروب من مثقفي \” السيمولاكر \”، لأن فُرص توظيفهم، أو إبرازهم في الساحة، أو لمواجهة الذين يخشى جانبُهم من المثقفين الذين تحسب لهم السلطة\” أي سلطة طبعاً \”، قد سنحت، وهو ما نجد صدى وضجيجاً له في جهات شتى. لكنه- معرفياً- سؤال لاثقافي، في مواجهة المستجد، ولأن لا أكثر من حيرة المثقف المعهود بنبرته، وهو يطرح على نفسه ولو في صمت: أين هي الحقيقة، ومع من تكون في عالمنا هذا؟ لعل المنوَّه إليه هنا هو أن هذه الحيرة تترجم سلوكاً ذا دلالة يعرّي في السائل داخلَه، كون المثقف الفاعل، يجد صوته، بقدر ما يؤكّد كينونته في ظل التأزمات الكبرى، كما هي أوضاع منطقتنا، حيث يموت الناس بالجملة، ويتم الخراب بالجملة، واختفاء الناس بالجملة…الخ، ومحتوى المعرَّى هو أن المثقف هذا يعرّف بموقعه الذي يشده إلى هذه الجهة أو تلك، بالرغم من كونه يزعم عن أنه صاحب شخصية، وهي مفهومية، سوى أن هذه لا تتحرر من غواية الذات الطرفية أو الفئوية أو المحلية الضيقة، إلا بالخروج على الجميع وهم يتواجهون أو يتشابكون، ليس في أن يشكّل جبهة خاصة به، فذلك تخندقٌ من نوع آخر،وليس لأنه يكتب ويتحدث وأمام ناظريه من \” يتفندق \”: من يكتبون ويتحدثون ميديوياًوغيرها بالإيجار، وإنما حين ينظر إلى الجميع كما لو أنه الوحيد في العالم، وموقعه هذا هو الذي يُسمّيه، فيجمع في موقفه بين المثقف اللاحدودي والمنتمي الاجتماعي بأقصى ما للكلمة من معنى، وهو يشخّص المشترَك العنفي، وجرثومة الخلاف الناخرة، وبنسب مختلفة في الذين أحالوا المجتمع حلبة، والسلطة الضابطة محكاً. وأحسب أن المكافأة الوحيدة التي يمكنه نوْلها هو فيما يراه صواباً دونما انتظار لأي مكافأة من لدن أي كان، وما يقربه من سعادة الروح كانطياً، وهو من شأنه التنبيه إلى المستغرَق في المستنقع المجتمعي والسلطوي، أن هناك من يكتب ويتكلم وبصوت يتردد على مقاسه، يشير من خلاله إلى أن الحياة تكون خارج هذا المستنقع المركَّب والمميت !
شكرا جزيلا