المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

الذاكرة والخيال بين الفلسفة والعلم

علي محمد اليوسف

تقديم
إن المعضلة التي يطرحها تشابك الذاكرة والخيال قديمة قدم الفلسفة الغربية, منذ ما يقرب من 470- 399 ق. م أورث سقراط للفلسفة اليونانية اشكالية علاقة الذاكرة بالخيال في تيارين فلسفيين أحدهما تزعمه افلاطون الذي كان يدافع عن إدخال إشكالية الذاكرة في إشكالية الخيال, والمسار الثاني تزعمه ارسطو الذي يرتكز على ثيمة تمثل شيئا سبق إدراكه أو إكتسابه وتعلمه فيدافع عن إدخال إشكالية الصورة في إشكالية الذكرى, وعلى هذا المنوال لم يتوقف النقاش الفلسفي حول هذه الازدواجية الاشكالية بالفلسفة الى يومنا هذا. 1
وهنا أود التنبيه أن المناقشة الفلسفية حول تشابك الذاكرة بالخيال, تنطلق من أنهما مفهومان لهما علاقة ترابطية في عملية الادراك بإعتبارهما وحدة زمانية تختلف في التعبير عن الزمان كتحقيب زماني – تاريخي في إتجاهين متعاكسين أن الذاكرة هي إستذكار خيالي لوقائع وأحداث الماضي, والخيال تصنيع لزمان مستقبلي آت كما تصوّره المخّيلة, ولا تشير المناقشات الفلسفية الى أهمية التاكيد أنهما جوهران متعالقان في التعبير التجريدي عن الاشياء مصدرهما تفكير العقل, الذي أجده يحل المشكلة من أساسها, لأننا من دون مرجعية العقل لا يمكننا الحديث عن عمل ذاكرة ولا عن عمل خيال لا في ترابطهما ولا في فصلهما عن بعضهما.
بين الذاكرة والخيال
على خلاف من ديكارت وبرجسون ومعهما فلاسفة آخرين من الذين أنكروا وجود علاقة ترابطية بين الذاكرة والخيال وأنكروا أيضا توليدية الذاكرة لأفكار الخيال وإرتباط المخيّلة بالذاكرة. في مقاربة هذه ألإشكالية الفلسفية يطرح بول ريكور تلازم الذاكرة والخيال بعلاقة ممكن الفصل بينهما بالقصدية التي تتلبس الوعي في الفهم الوجودي وفلسفة اللغة. فهو يؤكد حقيقة غير مشكوك بها فلسفيا على الاقل قوله\” الذاكرة مقاطعة تابعة للخيال, الذي كان قد عومل ومنذ زمان بعيد بكثير من الشبهة كما هو الحال عند ميشال مونتين وباسكال وسبينوزا.\”2
قبل دخولنا تفسير تفاصيل هذا الحكم الفلسفي لريكور الذي نستشف منه تغليبه قيادة الذاكرة في مسكها مقود الخيال وقيادته والهيمنة عليه, لذا يصبح معنا التساؤل مشروعا أيهما يقود ألآخر الذاكرة تقود الخيال أم العكس الخيال يقود الذاكرة في حالتي إقرارنا الانفصال أو الاتصال بينهما؟ أم لا علاقة تعسفية من هذا النوع التساؤلي يكون واردا في إعتمادنا حقيقة إنفصالهما, وهذا يقودنا الى تساؤل أكثر أهمية ماهي مصادر أكتساب كلا من الذاكرة صفتها الادراكية, وكذا الحال كيف يكتسب الخيال أفكاره التخيلية وما هو مصدر تلك الافكار غير الذاكرة في حال جعلنا من إنفصال مفهومي الذاكرة والخيال عن بعضهما حقيقة قائمة لا بل موجبة كما سنرى في تعبير ريكور لاحقا.
والعقبة التي يتجاهلها الفلاسفة أن كلا المفهومين الذاكرة في ألاستذكارللماضي والمخيلة في تعبيرها عن الخيال كلاهما جوهران تجريديان لا يمكننا معرفة أين موقعهما من تكوين الجسم في التبعية البايولوجية لمنظومة ألإدراك العقلي, حتى في حال العودة أنهما نتاج عمل منطقة محددة خلوية في قشرة الدماغ أو في الفص الدماغي المّخي المسؤول عن توليد مثل تلك الفعاليتين التجريديتين الذاكرة والخيال التي هي من إختصاص علمي صرف في دراسة علم وظائف الاعضاء والجملة العصبية وعلم النفس.. وهو ما تتحاشى الفلسفة الاقتراب منه.
والسؤال المربك فلسفيا إذا كانتا الذاكرة والخيال كلتاهما تعبيران مجردان يصدران عن ملكة العقل ألإدراكية فكيف تم الربط بين إعتماد الذاكرة خزين توليدها أفكار الخيال؟ يطرح بول ريكور وجوب وأهمية فصل الذاكرة عن الخيال قائلا \” علينا الوقوف ضد هذا التيار – يقصد تيار ديكارت بإعتباره الذاكرة هامشا متعالقا بالخيال – الذي يحطّ من شأن الذاكرة ويعاملها على هامش نقده الخيال, أن نقوم بعملية فصل الخيال عن الذاكرة الى أبعد ما نستطيعه في هذه العملية \” 3 هذا ما أراده ريكور .
ويضيف ريكور أبعد مما ذهب له حول أهمية الانفصال بين الذاكرة عن الخيال بدقة متناهية الوضوح تعبيره \” الفكرة الرئيسية هنا هي وجود أختلاف نستطيع أن نقول عنه أنه جوهري بين إستهدافين, بين قصديتين أحداهما هي قصدية الخيال المتجهة نحو الوهمي, القصصي, غير الحقيقي وغير الواقعي, والممكن , واليوتوبي, والاخرى هي قصدية الذاكرة المتجهة نحو الحقيقة السابقة, الواقع السابق كأحداث تاريخية, وتشكل السبقية السمة الزمنية بإمتياز للشيء المتذكر بوصفه كذلك.\” 4, بهذا التعبير أعطى ريكور الذاكرة خاصية التعبير في إستذكار حوادث الماضي , وأعطى أفكار الخيال قابلية فتح بناء آفاق المستقبل بإعتباره وهما إحتماليا في تحققه التنبؤي له. أي جعلهما الذاكرة والخيال يرتبطان بزمنين أحدهما خاصية الذاكرة إستذكار (الماضي), والثاني الخيال خاصية تنبؤه (المستقبل), فكيف جرى الربط التعسفي بينهما في إلغاء عدم المجانسة الزمانية التحقيبية بينهما في تحاشي ألإنزلاق بوجود أكثر من زمان واحد من ناحية الماهية وليس من ناحية تحقيب ألزمان كتاريخ أرضي.
تعقيب وتساؤلات:
– يأخذ بول ريكور توجه ديكارت قوله \” لاشيء يأتي لمساعدة الذاكرة بوصفها وظيفة نوعية لبلوغ الماضي \” طبعا هنا ديكارت لا يعير أدنى أهتمام للخيال بأعتباره تصنيع أيهامي وهمي للميتافيزيقا, وعلى إعتبار الخيال رغم طابعه اليوتوبي الميتافيزيقي, إلا أنه توجه معاكس لما تضطلع به الذاكرة بإتجاهها قصديا نحو إستذكار وقائع الماضي, في حين الخيال إستشراف قصدي مستقبلي مناقض لتوجه الذاكرة يتجه قصديا لخلق عوالم مستقبلية.
كما لا يتطرق ديكارت حتى بألإشارة الى تعالق كلا من الذاكرة والخيال بالعقل البيولوجي كنواتج عن فعالية فسلجية تتم داخل دماغ الانسان عضويا وليس خارجه. جميع حلقات ألإدراك العقلي هي تجريدات متصلة مع بعضها ولا قيمة حقيقية لوجود إحداها منفصلة. وحلقات العقل الادراكية من التجريدات وغير التجريدات التي تبدأ بإحساسات الحواس, فالجهاز العصبي الناقل لها, الذهن, الوعي, ألإدراك, الفكر, اللغة, الذاكرة, المخيلة أو الخيال,النفس وغيرها من متصلات معها جميعها تخضع لتصنيع عقلي في الدماغ والمخ تحديدا. وهي حلقات تجريدات معرفية لغوية مسؤول عنها وتطلقها مناطق عصبية ترتبط بأجزاء محددة موجودة في قشرة الدماغ أو في تركيبة تكوين المخ من ملايين الخلايا العصبية التي يكون مهامها الاختصاصية كلا مسؤولة عن وحدة أو أكثر من هذه التعبيرات الادراكية..
– كيف تم جمع النقيضين الذاكرة والخيال من خلال قصدية زمنية متعاكسة,؟ الذاكرة تنشد الماضي والخيال ينشد تحقق المستقبلي, بضوء هذا التضاد المتعاكس غير المتجانس يصبح ما طرحه بول ريكور حول ضرورة الفصل بين الذاكرة والخيال أكثر من ضرورية في حال إمكانية برهنة ثبوت تحقق هذا التوجه على صعيد البيولوجيا العضوية عند الانسان وليس على وفق منطق الفلسفة التجريدي.. فكما أن ألإعتراف بربط الذاكرة بالخيال عمل إعتباطي بمنهج الفلسفة وليس بحقائق العلم, كذلك طرح الانفصال بينهما هو ألآخر عمل إعتباطي بالفلسفة وليس العلم.
كون الذاكرة والخيال أصبحا مفهومين مجردين يعبران عن أشياء يدركها العقل ولا يعرف الانسان كيف نشأت ومن هو المسؤول عنها؟, وعندما نقول ذاكرة فهي دلالة لفظية نتاج عمل خلايا عصبية موجودة ومرتبطة بالدماغ مسؤولة عنها, وتصبح تجريدا للعقل وليس موضوعا مستقلا يدركه العقل, كذلك الخيال فهو أيضا دلالة لمفهوم مجرد ترجع مسؤولية إصداره منطقة في قشرة الدماغ أو في جزء من الفص المخي الموّلد له. ويبقى الخيال تجريدا إستبطانيا ما لم يتحول الى أفكار تعبيرية تصدرها اللغة.
– الذاكرة في حال إقرارنا أنها مستودع تخزين التجارب الادراكية الواقعية المستمدة من العالم الخارجي, وإذا ما علمنا أن الذاكرة لا تستطيع إستذكار الماضي تماما بسبب النسيان الذي تمتاز به ويلازمها. لذا يكون التساؤل من أين تستمد الذاكرة أفكار الخيال وكيف تكون هي مصدر الخيالات في وقت هي تتوجه نحو ماض قائم بوقائعه التاريخية, في تعارضها المتعاكس مع توجه الخيال الى صناعة مستقبل قيد الصيرورة الزمانية التي يسودها التنبؤ والوهم في التعبير عن وجود غير موجود أنطولوجيا بعد, وليس إجترار ماض منقوص يعتريه ويشوبه النسيان.
وكيف نفهم تعبير ريكور الذاكرة منطقة هيمنة الخيال؟. لا يوجد قدرة يمتلكها الخيال في السيطرة على ذاكرة لا تجانسه الوظيفة التعبيرية عن المدركات والاشياء. فألخيال ممكنه التداخل مع عمل ألذاكرة ألإستذكاري.
– إذا ما ذهبنا مع إمكانية إنفصال الخيال عن الذاكرة فمن هو الذي يضطلع بتزويد الانسان بخيالات مستقبلية لا حصر لها. الخيال الذي لا يمكن معاملته على أنه تخزين تجارب خبرة متراكمة بالذاكرة, فمن يكون المسؤول عن منبع تزويد الانسان بالمخيلة وإبتداع موضوعاته الخيالية.؟
جان بول سارتر 1905 – 1980\” طرح في كتابيه الخيال , والمتخيل أهمية الاهتمام في تمايز الذاكرة عن الخيال يجب أن يقترن بمراجعة موازية لموضوعات المتخيل\” ص 39, هنا سارتر لا يريد تأكيد إنفصال الذاكرة عن الخيال لأنهما في حقيقتهما البيولوجية الوهمية والتجريدية جوهران منفصلان, ويمكن دراسة كل منهما منفصلا عن الآخر.
– ربما يكون أقصر الطرق في الاجابة التي على أهمية تحييد التفكير العقلي العلمي في تداخله بالاشكالية الفلسفية بين الذاكرة والخيال, أن الدماغ هو مصدرتوليد أفكار الخيال, ولكن بأية وسيلة إرتبطت الذاكرة بأنها مصدر الخيالات والمخيّلة وهي تجريد تفكيري وليست موضوعا مدركا بذاته؟.
هل يمكننا العيش بدون أفكار خيالية في حال يتعذر علينا معرفة مصدر توليد المخيلة لموضوعات الخيال عند الانسان وأين يكون موضعها في المسؤولية الإبتداعية التخليقية لها وإصدارها أفكارها الخيالية نحو الواقع الخارجي في حال جرى تمرير توجه ريكور ومن قبله برجسون لا توجد علاقة حقيقية تربط الذاكرة بالخيال ويتوجب الفصل بينهما.
المسألة الطريفة أن الفصل الذي يبتغيه الفلاسفة بين الذاكرة والخيال هو فصل لجوهرين منفصلين أساسا ولا علاقة ترابطية بينهما سوى في تعبيرات الفلاسفة التي يدحضها التفكير العلمي التخصصي بعلم فسلجة الاعضاء. فالذاكرة والخيال والوعي والذهن هي حلقات تجريدية في منظومة العقل ألإدراكية التي مركزها الدماغ. ولا تعني شيئا خارج هذا ألإطار المعرفي العلمي في الفهم السببي بين تعالق الدماغ بألإدراك العقلي للأشياء..
– إذا نحن سلمّنا بأن مصدر تخليق الخيالات هو الدماغ فعن أي حلقة في منظومة الادراك نستطيع إلقاء مسؤولية الحفاظ على ألخيالات بعد إنفصال ألذاكرة عنها وتمت تبرئتها ألإنفصالية عن الخيال؟ إن المأزق الحقيقي في إنفصال الذاكرة عن الخيال ينتج عنهما أنهما كليهما تجريدان تابعان لمنظومة الادراك العقلية. فكيف يكون تشكيل الذاكرة كمنطقة تجريد إدراكي ترتبط بالدماغ,؟ وكيف يكون مصير مخّيلة توليد أفكار الخيال التي هي تجريد أيضا يرتبط بكل من ألذاكرة وألدماغ في تفكير العقل ؟.
– لمصادرة إشكالية تعالق الذاكرة بالخيال في وجوب الفصل بينهما يطرح اسبينوزا تعريفا فحواه تضييع ألإشكالية التناقضية بين ألذاكرة والخيال بإعادتهما الى مرجعية وحدتهما الزمانية وإعتباره الزمان هو ديمومة إستمرارية الوجود, وليس للذاكرة تداخل وصلة مع إدراك هذا الزمان.5 مقولة أسبينوزا هذه مأخوذة عن ارسطو قوله \” الذاكرة هي من الزمان \”, واذا أردنا تمرير هذه المقولة ألارسطية الصحيحة يتوجب علينا التوضيح, فزمانية الذاكرة تنحصر في مهمة قصدية تنشدها الذاكرة نحو تذكّر حقائق واقعية تاريخية سابقة يحتويها الزمن الماضي كزمن تحقيبي لا يدركه العقل كموضوع غائب الحضور بل يدركه بدلالة محتواه في تاريخية أحداثه ووقائعه. والخاصية الزمانية في الذاكرة هي زمانية مكتسبة بألإدراك وليست خاصية ذاتية تمتاز بها الذاكرة. ولا توجد في هذه الميزة أدنى إرتباط بين الذاكرة والمخيلة رغم أن كليهما تجريد زماني.
– كيف يتوافق هذا التعبير مع ما ذهب له ريكورفي إعتباره الذاكرة هي خاصية إستيعابية لتذكر تجارب الماضي وعدم طيّها في غياهب النسيان. علما أن ريكور لم يبد تحفظا من أي نوع تجاه طرح سبينوزا أن الزمن سيرورة وجودية بل أعجب واشاد بها. إذا سمحنا لأنفسنا نقد هذه العبارة لسبينوزا, فأن ديمومة وإستمرارية الوجود هو علة إدراكنا الزمن غير صحيحة, بإعتبار الزمن لا يتخلق عنه سيرورة الوجود, بل الزمن هو سيرورة إدراكنا الوجود زمنيا بحركة موجودات الوجود داخله ليس في علّة إرتباط حركة الموجودات الذاتية بالزمن, بل ندرك الزمن بحركة الاجسام داخل الوجود. الزمن يساعدنا إدراك الوجود المادي في حالتي السيرورة والثبات الحركي النسبي. لكنه أي الزمن عاجز أن يكون علة وجود موجود مادي متحرك. الزمن لا يمتلك قابلية تحريك موجودات الوجود إذا صح التعبير. فالموجودات سيرورة أنطولوجية لا تستطيع الخلاص من قبضة الزمن بألإدراك العقلي لها . لذا تكون علاقة الزمن بسيرورة الوجود علاقة إدراكية فقط وليس علاقة سببية لا في حركتها ولا في وجودها الفيزيائي مطلقا.
– بضوء عبارتي ارسطو ومن بعده سبينوزا بأن ألذاكرة خاصية زمنية تحتويها القصدية التاريخية للماضي, والخيال قصدية زمنية يحتويها المستقبل, فكلا التعبيرين كما وسبق ذكرناه هو توصيف لفعالية زمنية وليست تعبيرا عن حقيقة موضوعية منفصلة عن توليد العقل لها. فكما ترتبط الذاكرة بتفكير الدماغ كذلك ترتبط المخيلة بتفكير الدماغ أيضا , ولا وجود تعبيري لإدراكهما كتجريد خارج منظومة العقل الادراكية. كل حلقة تجريد إدراكي للعقل لا قيمة لها بإنفصالها ولا تمتلك وجودا أنطولوجيا مدركا أكثر من حقيقتها أنها تجريد إدراكي مصدره العقل.
ما بعد الانفصال
في حال إقرارنا صحة إنفصال الذاكرة عن الخيال فلسفيا , وأن مصدر خيالاتنا الابداعية في تذكّر وقائع الماضي, وخيالاتنا في تصنيعها المستقبلي, يصبح كلاهما الذاكرة والخيال تجريدا إدراكيا ليس للزمن وحسب, بل كلاهما جوهران منفصلان بالتجريد متزامنان في تبعيتهما الادراكية للدماغ داخل ترابط منظومة العقل الادراكية. بهذا المعنى ألعلمي ألمفهومي الصحيح نصطدم بحقيقة واقعية هي لا وجود لذاكرة خاصيتها الماضي ولا لخيالات خاصيتها المستقبل بمعزل عن تفكير العقل المرتبط بهما, كون خاصية الذاكرة الماضوي ليس وجودا عضويا بيولوجيا لها. وكذا نفس الحال مع الخيال أو المخيلة التي لا نستطيع تحديد موجوديتها أكثر من أنها تجريد تفكيري يبتدعه ويخلقه الدماغ, الحقيقة التي نتجاهلها أحيانا أن جميع تكوينات أنشطة الانسان الموزعة بين ألاحساسات الخارجية وألأحاسيس الداخلية هي تجريدات تفكيرية صادرة عن دماغ الانسان ولا وجود حقيقي يمثلها كمواضيع إدراكية قائمة بذاتها سوى ردود ألافعال الناتجة عنها المنقولة عن تفكير الدماغ بوسيلة منظومة الجهاز العصبي. فكل إدراكات الانسان الواقعية والخيالية هي تجريد تعبيري صادر عن مناطق معينة بتركيبة الدماغ الانساني.

اللغة في إشكالية الذاكرة والخيال؟
إدراك الذاكرة ليس مصدر إنبعاثه الخيال بل مصدر توليده هو تفكير العقل, وميزة إدراك الذاكرة هو إستذكار صوري مرهون في تمثيل وقائع الماضي بوسيلة تعبير (اللغة). فإستذكار الذاكرة لوقائع الماضي لا يختلف عن إدراك الحواس لموجودات الحاضر الحسّية في وجودها المادي الانطولوجي. فكلا التعبيرين هو تمثيل صوري يتوسل اللغة في التعبير عن تمثله الموجودات في العالم الخارجي. الذاكرة تستذكر وقائعها باللغة التجريدية التصورية التي ترافقها خاصية النسيان الملازمة للذاكرة في تصوراتها اللغوية وتعبيراتها عن أحداث ووقائع الماضي.
عبارة ديكارت : الذاكرة مقاطعة تابعة للخيال الذي كان عومل عصورا طويلة بالشبهة, عبارة تناقض نفسها في :
الخيال لايقوم ولا ينوب عن الذاكرة ولا يمثلها من حيث التعبير, لا من حيث ألإختلاف الزماني ولا من حيث محتواه التعبيري عن نفسه, فالخيال تصورات ذهنية تتجه نحو المعالجة الحاضرة والمستقبلية في وهم من التصورات, ولا يهتم الخيال بوقائع الماضي إلا في إغناء تعبيرات الذاكرة الفكرية. واذا ما إضطلع الخيال بمهمة أستيعاب بعض الدلالة الواقعية الماضية التي تغني أفكار المخيلة, ومع هذا يبقى الخيال لا تشكل وقائع الماضي إهتماما له في التعبير عنها كوقائع تاريخية حدثت, لا يمكن ولا المستطاع التلاعب بها من حيث هي تاريخ إنتهى حدوثه وإكتسب زمنه الماضي في اركولوجيته وتدوينه الوثائقي.
الخيال في حال تحرره من الذاكرة يعجز التعبير عن الماضي بكيفية تطابق تعبير الذاكرة عن الماضي , من حيث الخيال سيرورة حركية في فضاء غير محدود بخلاف الذاكرة التي تكون محبوسة في وقائع حدثت تحاول نقلها كما جرت. الخيال في حال هضمه ألإستيعابي لإجتزاءات من وقائع وأحداث الزمن الماضي أنما يكون بذلك يقوم بوظيفة الذاكرة الواقعي وليس وظيفة الخيال الوهمي. حين يصبح الخيال إستذكارا لوقائع ماضية وليس إستشرافا لسيرورة مستقبل لا يحتويه الماضي ولا يتوفر عليه الحاضر بل يبقى نزوع مستقبلي يعبر عنه الخيال بتصورات لا واقعية أغلب ألأحيان ولا علاقة للذاكرة به.

إستذكار ألماضي هو وظيفة الذاكرة
هنالك رأي يحمّل اسبينوزا مسؤولية التعبيرعنه \” أن الذاكرة في حالة إختزالها الى إستذكار فهي بالتالي تعمل في سياق الخيال \” 6 هذا التعبير ألإعتسافي لا يقوم على منطق فلسفي يمرر مقبوليته, فألذاكرة في حقيقتها ألوظيفية هي تعبير صوري لإستذكارات ماضية جرت. ولا توجد هناك خصيصة دلالية تشير الى تحميل الذاكرة ما لا تقدر عليه مثل تخليقها الافكار الخيالية بدلا من وظيفة ملكة الخيال عند الانسان التي هي ملكة توليد تفكيري هي أحدى خصائص وظيفة الدماغ.
الذاكرة بمقارنة خاصيتها ألإستذكارية المحدودة في التعبير التصوري عن الماضي فقط ليس من إمكانيتها الوظيفية أن تكون جزءا من أفكار الخيال. فالخيال يتسم بفضاء متحرر غير مقيد وله قابلية التلاعب بمدركاته الشعورية التي يستمدها من المحيط وحتى من وقائع الماضي, ومن أللاشعور الذي يقوم الخيال بتوسيله للتداعيات الفكرية والصورية في توليد إستبطاني لا يكون تعبيرا دقيقا كما تفعل الذاكرة في التعبير عن وقائع حقيقية تاريخية لا تستطيع الخروج عنها. ألخيال إضافة نقدية فكرية متجاوزة لزمانيتها في إغناء الحاضر تمهيدا لمستقبل أفضل, الذاكرة عكس الخيال حلقة تعبيرية من الادراك المنغلق الذي لا تخرج محدوديته الزمانية عن الماضي فقط..
الهوامش:
1.بول ريكور, الذاكرة , التاريخ , النسيان, ترجمة وتعليق جورج زيناتي ص 41
2. نفسه ص 37
3. نفسه ص 38
4. نفسه نفس الصفحة
5. نفسه نفس الصفحة
6. نفسه ص