المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

“أنا ضد أيّ اتّفاق ما برجّعني لبيت محسير… فاهم!”

   حسن عبادي/ حيفا

صدر للشاعر والروائي أسعد الأسعد كتابه الأخير “جمر الذكريات غيض من فيض”، 149 صفحة، تصميم ومونتاج: عبد الله دويكات، صف: سمر هواري– علاء الدين، الناشر: مكتبة كل شيء الحيفاويّة لصاحبها صالح عباسي.

ومن إصداراته الروائية الأخرى: دروب المراثي، ذاكرة الملح، ليل البنفسج، بطعم الجمر، هناك في سمرقند وعري الذاكرة.

وسم المؤلف كتابه هذا بـ “ما يشبه السيرة”، وتحدث فيه عن جوانب مختلفة من ذكرياته، الخاصّة والعامّة، وشخصيات ومواقف وأحداث، منها ما ذكرها بإسْهاب، ومنها باختصار كبير، بشكل مباشر، وأخرى تلميحاً، ويصل إلى نتيجة مآلها تَحقّقُ نبوءة والده بأنّ اتّفاقيّة أوسلو سبب النّكبة المستمرّة التي يُواجهُها الشعبُ الفلسطيني على مَرآى ومسمع العالم بأكمله بالبثّ المباشر عبر الكاميرات وشاشات التلفاز.

الكاتب ابن قرية بيت محسير الواقعة في قضاء القدس، وأنشئت على أراضيها مستعمرة “بيت مئير” و”مسيلات تسيون”. هُجّرت منها عائلته إثر النكبة وتوفيّ والده حالماً بعودة مُشتهاة إليها، وانتكس حين سمع بأمر التوقيع على اتفاقية أوسلو المشؤومة، ويصوّر الكاتب بعدسته البانوراميّة ديوان والده ساعة وقوع الخبر كالصاعقة “ما أنْ ألقيت التحيّة على والدي وضيوفه، حتى عاجلني وقبل أن أجلس بسؤال لم يخطر على بالي: دَخْلك… قُل لي… اتّفاق أوسلو هذا شو بحكي؟ بحكي عن بيت محسير؟ وللا ما بحكي؟ فاجأني والدي بسؤاله، لكنّي تمالكت نفسي وأجبتُه: لأ يابا، لا بحكي عن بيت محسير، ولا عن يافا ولا عن حيفا، ولا حتى عن القدس. خيّم الصمت على ضيوفه فيما استعد والدي للرد على جوابي… اسمع يا أسعد، واسمعوا كلكم، أنا ضدّ أوسلو وضدّ أيّ اتّفاق ما برجّعني لبيت محسير… فاهم!” (ص. 10) ويصل إلى خلاصة مفادها أنّ “اتفاق أوسلو هزيمة ونكبة أكبر من نكبة 1948”.

جاء في الإهداء: “إلى والدي الذي شكلني وزرع فيّ بذرة الحياة، إلى أمي حليمة عزات “أم أسعد” التي علمتني كيف أحب الناس والأرض”؛ والإهداء يعتبر عتبة نصيّة مهمّة، وعبر صفحات الرواية نلمس دورهم المفصليّ في حياته، وصورة نموذجيّة للوالدين في الزمن الجميل، زمن ما بعد النكبة، حيث اهتما بتربية أحد عشر فرداً، وحرصا على تعليمهم الجامعي، رغم معاناة التهجير والمخيم، باستثناء سعاد، وظلت قصتها شوكة في خاصرة الوالد، تعضّه بين الحين والآخر حتى وفاته، وقد بدا دوما نادما على فعلته ولم يغفر لنفسه تلك الخطيئة.

تناول الكاتب تجربته مع الشيوعية في البدايات وخيبته وخذلانه من ممارسات قادة اليسار ورموزه آنذاك “لقد تورط اليسار الفلسطيني بفسادٍ مال قلّ نظيره من خلال المؤسسات غير الحكومية، التي انتشرت في فلسطين والدول العربية كالفطر… ألحقت الخطر في القطاعات المختلفة سواء الفكرية والبحثية، والزراعيّة والصحيّة، النسائية، الطلابية، والشبابية وغيرها… تسبّب في انحراف كثير من القيادات وخروجهم على الصف الوطني، وأهداف الحركة الوطنية، عن وعي أو غير وعي، لا فرق”. (ص.44-45).

أعادني الكاتب لما كتبته حول دور جمعيات المجتمع المدني والأهلي ذات التمويلِ الأجنبي وترويضها للمقاومةِ وللقضيةِ الفلسطينيةِ، والانعكاسات السلبية لتلك المنظمات على المجتمع الفلسطيني، حين تناولت رواية “الخيمة البيضاء” للكاتبة ليانة بدر وسلسلة مقالات نشرتُها تحت عنوان “المانحون والمادحون، لن يمروا”.

يا إلهي، ما أشبه اليوم بالأمس!

تناول عمله في جريدة الفجر التي بدأت تأخذ دوراً مهماً في الحركة الثقافية آنذاك، واستقطاب الشباب والقوى التقدمية، وانقلاب الفجر عام 1976 وسيطرة حركة فتح بقيادة بول عجلوني وحنا سنيوره، وتعيين مأمون السيد رئيساً لتحريرها، وهيمنة أكرم هنية وطاقمه الفتحاوي على جريدة الشعب، ومكتب العودة بإدارة إبراهيم قراعين وريموندا الطويل الذي كان عمليا مكتبا لحركة فتح في القدس، وصدرت عنه مجلة العودة وكان المتوكل طه أحد أهم محرريها.

وما آلت إليه حالة الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي تحوّل إلى حزب الشعب الفلسطيني، وتبخّرت بين ليلة وضحاها عشرات الكوادر وأموال الحزب الطائلة و”استئثار عدد من رموز الجمعيات غير الحكومية والمؤسسات بجمعياتهم ومؤسساتهم، ومنها جمعية الإغاثة الطبية برئاسة الدكتور مصطفى البرغوثي، وجمعية الإغاثة الزراعية برئاسة إسماعيل دعيق، وجمعية المرأة العاملة برئاسة آمال خريشة، وجمعية الأرض والمياه برئاسة خضر شقيرات”. (ص.81-82)

تناول عمله في الصحافة؛ في الفجر بدايةً، وإصدار مجلة “الكاتب”، جريدة “البلاد”، وافتتاحه “مكتبة شروق” ودوره الريادي في تأسيس “اتحاد الكتاب الفلسطينيين” ورئاسته لعدّة سنوات.

تطرّق مطوّلاً إلى الطبقة الكومبرادوريّة؛ الطبقة البرجوازية التي تتحالف مع المحتلّ الأجنبي ضد مصالح شعبها تحقيقاً لمصالحها الشخصيّة للاستيلاء على السوق الوطنيّة وتدمير قوى الإنتاج المحليّة، عبر “مستر 5%”؛ تلك العمولة التي تقاسمها زلمة المخابرات السابق وشركاه من المتنفّذين في السلطة الفلسطينيّة مقابل التسهيلات التي كان يقدّمها لتمرير المشاريع وتيسير الأمور والمضايقات التي تعرّض لها حين حاول فضحها.

كما وتناول التغيير الذي حلّ بنشطاء ومقاومين وأسرى سابقين وغيّروا جِلدتهم وصاروا قامعين تحت مسمّيات شتى مثل الأمن الوقائي وغيره، وجبريل الرجوب مثالاً (ص. 92-98).

تطرّق بسخرية سوداويّة إلى ظاهرة “الترزّق” من الراحل ياسر عرفات؛ طوابير تصطف باب مكتبه “ومعظمهم يحمل بيده ورقة أو مغلفا يطلب مساعدة أو وظيفة” وما نتج عنه من نظام أبوي مالي وإداري في السلطة ومخترة مهترئة أدت إلى ظهور طبقة من السماسرة المنتفعين والمترزّقين أصحاب الحظوة وصار تخصصهم الحصول على توقيع “أبو عمار” من أجل قرار لتمويل مشروع “وهمي” أو لقرار بتعيين في وظيفة أو مساعدة مالية، مما شرعن الفساد، وبات هذا النهج مدرسة كانت إحدى عوامل تخريب المشروع الوطني.

أخذني الكاتب مجدّداً إلى ما حدّثتني به الصديقة مونيكا ماورير عن التفويض الرسميّ الذي منحه إيّاها الراحل ياسر عرفات شخصياً كموثّقة للثورة، حيث رآها تحمل كاميراتها خلال حشد شعبيّ في بيروت، ناداها وطلب ورقة من أحد مساعديه وصكّ كتاب التعيين، وما زالت تحتفظ به حتى يومنا هذا.

صار الفساد سيّد الموقف؛ وشيّد الفاسدون قصوراً تطلّ على المخيّمات. نعم، صدق الحبيب بورقيبة حين أطلق تصريحه الشهير “من يبني هذه القصور لا يفكر بفلسطين ولا بتحريرها”.

كما تناول بحرقة آفة الفصائلية المقيتة، وتقاسم المواقع والغنائم، كلّ حسب حجمه، بدل السعي إلى وحدتها وانخراطها في منظمة التحرير كما فعلت تنظيمات فيتنام، وبقيت الفصائلية مهيمنة وصارت المصالح الضيقة تتحكم في سلوكيات السلطة، وأعادني الكتاب مرة أخرى إلى بداية تواصلي مع الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال، فقد بتُّ أمقت هذه الكلمة “الفصائلية”، وكم تمنّيت حذفها من معجم اللغة العربيّة.

توقّف الكاتب عند أمور وذكريات شخصيّة وعائليّة مؤثّرة؛ مرض والده ووفاته الذي لخّص المشهديّة الأوسلويّة في آخر أيامه، ووجعه من “تكالب الناس في سعيهم إلى وظيفة في السلطة، وخصوصاً في الحصول على وظيفة في أجهزتها الأمنيّة” (ص. 110) … أو حارساً في إحدى المولات. وكذلك الحال رحيل والدته حليمة عزات “أم أسعد” حاملة معها حسرتها وحزنها على شجراتها وزيتوناتها التي اقتلعها المحتل بجرّافة يقودها سائق فلسطيني، يا للمفارقة وسخرية القدر. كما تناول قصّته وزوجته نعيمة؛ لاجئ ابن مخيم يتزوج ابنة مختار قرية برهام المقتدر، ومحصول الزيت لديه يتعدّى تسعمئة تنكة، ويخلّفا أربع بنات لتموت إثر جلطة دماغية وشلل.

يتناول الكاتب محطّات مرّ بها المجتمع الفلسطيني منذ النكبة والترحيل واللجوء، مروراً بفترة الحكم الأردني الذي امتد منذ عام 1948 حتى حزيران 1967، ومن ثم نير الاحتلال الإسرائيلي من حزيران 1967 وعودة أوسلو المبتورة، وما مرّ به من مُضايقات واعتقالات مُتلاحقة، ويبقى الفساد الشخصي والمؤسّساتي والحزبي والتنظيماتي والأوسلوي المستشري هو سيّد الموقف.

كلمة لا بدّ منها؛ حبّذا لو استعان الكاتب بمحرّر لتفادي بعض الأخطاء ومنها، على سبيل المثال، يوسف بورغ (وليس أبراهام بورغ) وزير الداخلية الإسرائيلي (ص. 81)، يوسي غينوسار (وليس غونسار) (ص. 92/ 96) وغيرها.

وأخيراً؛ لمست في الرواية جرعة أولى من سيرة طويلة وعريضة، مع قفزات زمكانيّة، وكأنّي بها عناوين رئيسة لسيرة شخصيّة وسيرة شعب… ونحن ننتظر.

ينهي الرواية بكلمات أغنية كتبها، وكأنّي به يقولها بصريح العبارة، هذه بطاقتي التعريفيّة وأعتز بها وأفخر:

إنزلنا ع الشوارع رفعنا الرايات

غنينا لبلادي أحلى الأغنيات

أغاني الحرية للحرب الشعبية

طريق الانتصارات

افرحي يا بلادي طلّوا أولاد صغار

واعيين القضية بايديهم حجار

بتشرق منها الشمس وبطلع ألف نهار.