شاعرة تعرف جيدا حدود أحلامها، وترى في القصيدة الناطق الإنساني الأسمى، لا تعترف بمصطلح\” الأجيال\” عندما يتعلق الأمر بالأدب، أو بالكتابة التي تعتبرها جغرافية تتسع للجميع.. لغالية خوجة العديد من النشاطات الأدبية، ولها أفكارها الخاصة التي يمكن تلمسها في كتاباتها.. الزميل كمال عبد الرشيد أجرى هذا الحوار الحصري معها هذا نصه…
مازلت أبحث واللغة والكون عني
المجلة الثقافية الجزائرية: لو طلبت منك أن تقدمي نفسك، فماذا ستقولين؟
بعضي في \”إلياذة الدم\”، و\”نشور الأزرق\”، و\”أوذيسا البنفسج\”، و\”الملحمة المجنونة\”، و\”محواذة\”، و\”مشيمة السديم\”، و\”النجمة العجيبة\”، و\”قلق النص\”، و\”أسرار البياض\”، وسواهم من مؤلفاتي، ومازلت أبحث واللغة والكون عني، فيما كتبته، أكتبه، وسأكتبه، وهذا يعني أنني لا أبحث عن \”أناي المفردة\”، بل عن \”أنا النحن\”.
المجلة الثقافية الجزائرية: أنت شاعرة.. كيف يمكن وصف القصيدة في زمن القنابل البشرية، والمدن المتساقطة بين مخالب الاحتلال؟
أولاً، لا أفضل استخدام المصطلحات المستوردة من المغتصبين:\”قنابل بشرية\”، وهذا بحد ذاته نوع من الاغتصاب والاحتلال، وأجزم بأنك توافقني. وأنا من القائلين بأن هناك شهداء، لا قنابل بشرية! وأعني بهم، فقط، المقاومة والمقاومين، الصامدة، والصامدين، في كل مكان وزمان فيه مغتصبين. ولذلك، أرى بأننا مصابون باحتلال أو اغتصاب العقول والأرواح والنفوس والضمائر قبل أن نصاب بمدن مغتصبة.. وعليه، فأنا أبصر بأن القصيدة قنبلة لا مرئية، غير مؤقتة، لأنها بوصلة الخلود التي لا تنسى أبجديتها، علائقها، ودماءها المنثورة والمتبرعمة مع كل قطرة دم بريئة للتراب والصلصال والزرقة. القصيدة هي الحرية، والحق، والجمال، والحياة، والقيامة، الشاهدة والشهيدة، دون تعريف، أو توصيف.
العنف يبتكر أشكاله في مشهدنا الحياتي، بكل تفاصيله
المجلة الثقافية الجزائرية: أنا لم أقصد المقاومة ولا الجهاد، قصدت العنف المستسهل ضد البشر، فالقنبلة البشرية ليست بالضرورة عربية ولا إسلامية. ما رأيك؟
العنف المستسهل من البشرية ضد البشرية أجمل من القنابل البشرية، وهذا العنف قد يكون بكلمة قاتلة، أو خبيثة، تجرح الروح والريح، الوردة والعطر، وقد يكون معنى ملوثاً يقتل النبض والوقت والسماء والأرض.. العنف يبتكر أشكاله في مشهدنا الحياتي، بكل تفاصيله، ومجملياته، وأحسب متيقنة أن الأوكسجين ومدار الشمس وحواف الكون، كل أولئك أصيبوا بهذا العنف، وبالمقابل، أتساءل: ماذا لو أن العنف حول طاقته إلى الخير؟ وطريق الخير والمحبة والسلام أسهل بما لا يقارن من أي طريق للعنف مهما كانت المسافة قصيرة؟ وأنا أؤمن بأن العنف سيقضي على العنف، على ذاته، ذات لحظة شاملة، ، فلا شيء يدوم إلا النور، ومهما حاولوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم وأيديهم إلا أن الله متم نوره ولو كرهوا، ولذلك أبصر بأن زبد العنف يذهب جفاء، وما ينفع الكون يمكث في كل كلمة طيبة
المجلة الثقافية الجزائرية: هل ثمة مكان للشعر حقا؟
كل مكان، وكل زمان، هو للشعر. الشعر هو الكون، والكون هو الشعر، وبينهما الإنسان برزخ.. وكل من يخرج عن هذه \”المعادلة ـ المكانة/ الإشراقية\”، هو خارج نفسه، أي مصاب بــ \”سرطان الانفصام ـ الشيزوفرانيا المسرطنة\”.. الشعر والموسيقى والفنون الجمالية الأخرى، علاج ليس روحياً، بل كلياً لجميع الأرواح.. وهذا ما أثبته العلم المعاصر لا الشعراء الإيغاليون وحدهم.
هناك شعر أو لا شعر
المجلة الثقافية الجزائرية: يثار دائما ذلك الجدال إزاء قصيدة النثر. كيف تفهم غالية خوجة قصيدة النثر، وهل ثمة إشكالية حقا إزاء وجودها كشكل أدبي؟ وهنالك من لا يعترف بقصيدة النثر كشكل أدبي، ويعتبرها كتابة متطفلة على الأداة الشعرية عموما.. ما رأيك؟
هناك شعر أو لا شعر، ولن أخوض في نقاش عقيم يدار في طواحين الهواء منذ أكثر من نصف قرن، لكنني أؤكد بأن الخلل المسوخي يكمن فيمن يكتب، لا في القصيدة، فإذا كانت الخواطر المتشابهة، أو النصوص الممسوخة، المتداولة في عالمنا العربي والعالم الآخر، هي ما يسمونه \”قصيدة\” و\”نثر\”، فأنا ضدها..، ضد هذا النوع من الكتابة، لأنه أساء إلى نفسه، ولا يستحق أن يكون ضمن \”القصيدة\” تلك التي كتبها \”محمد الماغوط\” مثلاً، \”آرثر رامبو\”، \”أدونيس\”، و\”بودلير\”، وسواهم، وما قبلهم من متصوفة، وهم أساس هذه القصيدة برأيي.
المجلة الثقافية الجزائرية: لديك العديد من المجموعات الشعرية، ولديك أيضا نشاطات ثقافية.. هل ترين أن الكاتب مطالب بتقديم نفسه للآخرين بكل الطرق المتاحة له، أم يترك النص الذي يكتبه يفعل ذلك؟
النص إما أن يتحدى الأبدية بأبدياته الاختلافانية المختلفة، فيكتب للناس كافة، ويتركهم في احتمالات تآويله وتكويناته، وإما أن يكفن نفسه منذ الحرف الأول، فيتوارى في جنازته وحيداً، كأنه لم يكن ولا للحظة، ولا للحرف. وأنا من الذين يعتذرون كثيراً عن العديد من الأنشطة \”الميكروفونية\”، وأساهم في بعضها من أجل التحاور الفاعل.. لماذا؟ لأنني أرى، وأتوقع أن يوافقني آخرون، بأن مشهدنا \”الثقافي\”، غالباً، متخم بالزيف والرياء والمصالح الذاتية المتبادلة، وما يسمونه \”المنافع الخاصة\”، فأغلب المنصات والمنابر والمهرجانات والندوات، لا تقام من أجل قيمة ثقافية عليا، وهي إن حدثت، تحدث بعيداً عن معايير الأدب والجمال والإضافة والجدة والجدية.. وأجزم بأن \”المتنبي\”، و\”ابن عربي\”، و\”أبو تمام\”، و\”المعري\”، وأمثالهم، تركوا لنا ـ للإنسانية، نصوصاً عظيمة لم تراهن على ما هو خارجها أبداً.
المجلة الثقافية الجزائرية: كيف تفسرين انتشار الرداءة الأدبية على حساب النص الأصيل، سواء شعرا أو قصة أو رواية؟
أسباب عديدة أدت إلى انتشار وباء الرداءة المستعصي، منها التهاون والأمية والمادية، التي يتمتع بكثافتها الكثير من المسؤولين عن النشر، سواء دوريات، أو مؤسسات ودور حكومية، أو خاصة، غايتها الربحية، لا النوعية، فلو كان الواقع عكس ذلك، لتوقفت المطابع منذ قرن، أو لطبعت كتاباً أو كتابين كل نصف قرن، وإذا ما تساهلت أكثر، لطبعت ما لا يزيد عن أصابع الكف كل سنة. ومن ضفة أخرى، افتقادنا إلى نقد مثقف بنـّـاء، وهذان السببان المهمان، قائمان على معايير الرداءة كالمحاباة، والنفاق، الكذب والتدليس، الشهرة والتشهير، وإلخ. وأختزل ما سبق بهذه العبارة: عندما تكون مصلحة النص هي العليا، لا مصلحة الشخص، نكون في اتجاه المشارق الإبداعية، ورغم ذلك، أجزم بأن النص الإبداعي لا ينتظر أحداً ليثبت إبداعيته، وذلك منذ لحظة كتابته، إلى ما قبلها، وما بعدها، من آزال وآباد.
أرى بأنني لا أرى قارئاً للرواية، والشعر، والقصة
المجلة الثقافية الجزائرية: هنالك من يرى أن القارئ أصبح أكثر انجذابا إلى الرواية، أكثر من انجذابه إلى القصيدة أو القصة القصيرة؟
يرى من يرى، لكنني أرى بأنني لا أرى قارئاً للرواية، والشعر، والقصة، وإلخ.. فقط، أرى قراء أميين يلهثون وراء نصوص أكثر أمية! ولك أن تتأكد من خلال استفتاء تجريه للكتاب \”المنبريين والميكروفونيين\”، والقراء، مختاراً أهم ما انكتب من الأجناس الأدبية، لتفاجأ بأنهم لا يعرفونها، بل يقرؤون ما يقدم لهم \”اللا أدب\” كحالة أخرى من الفساد، أو الاغتصاب، أو الاحتلال، وهذا يدل على مرض \”نفسي وروحي\”، يحتاج إلى دراسته من خلال \”السيكولوجيا الذاتمجتمعية = الذاتية والاجتماعية\”.
المجلة الثقافية الجزائرية: لكن واقع النشر المطبعي نفسه صار يفضل طبع الرواية على المجموعات الشعرية أو القصصية؟ ما رأيك؟
ليس كل رائج، أو مطلوب، أو ربحي، أو مافوي بطريقة مقصودة أو غير مقصودة هو المعيار.. لأن المطابع لا يهمها بناء العقول، بل بناء الجيوب، وهناك من يهمه، إضافة إلى ذلك، \”التخريب\” بكل دلالات هذه اللفظة المتوقعة واللا متوقعة.. وهذا جزء من مأساتنا التي لن تنتهي إلا إذا توقفت أمثال هذه المطابع.. وأضيف: لو كان المعيار هو الرواج، والنشر المطبعي، وعدد النسخ أو الطبعات، لكانت العديد من الأعمال العربية والأجنبية ـ تبعاً لهذه المعيارية ـ قد حازت جائزة \” نوبل\”.. هذه الجائزة الإنسانية التي لا تساوم على معايير الإبداع.
المجلة الثقافية الجزائرية: ألم تفكري في دخول عالم الرواية بكل ألغامها كما فعلت شاعرات قبلك؟
الحمد لله بأنني لا أفعل كما يفعل الآخرون، وإلا لما كنت ذاتي.. فإما أن أبدأ بكل شيء غير مألوف، وإما أن أصمت عن كل شيء، فأريح وأستريح.. ثانياً، لا أفكر أين ستحط الحالة الإبداعية رحالنا، حيث لا مستقر، لأنني لا أفكر كيف ومتى وأين أكتب.. يخطفني الملكوت الإبداعي، أنا التي لم أعرف خروجاً منه، والحمد لله، إلى ما سنكونه: قصيدة، قصة، رواية، مقالة، نقداً.. أجهل البداية والنوع والنهاية.. أزمنتي حلزونية حتى في الحياة وليس في الكتابة وحدها.. وأود أن أهمس بأنني أصدرت روايتين حتى الآن: برزخ اللهب/ دار آرام 1999، وفينيق الأبجدية/ دار ناجي نعمان 2006، وللأطفال واليافعين: فتاة التفاحة/ جائزة وزارة الثقافة السورية/ صادرة عنها 2005، وسلسلة حكايات أندلسية/ مركز الإنماء الحضاري 2004، يوميات طفل فلسطيني/ دائرة الثقافة والإعلام 2009، والنجمة العجيبة/ جائزة وزارة الثقافة السورية، وستصدر عنها، إضافة إلى العديد من الروايات المخطوطة للكبار والصغار.
إما أن يكون هناك نص إنساني سردي أو شعري، تشكيلي أو موسيقي، وإما ألا يكون
المجلة الثقافية الجزائرية: دعيني أسألك عن النص السردي النسوي، وأنا لا أقصد الأدب النسائي بالمعنى \”الهرموني\” بل السرد النسوي العربي؟
إما أن يكون هناك نص إنساني سردي أو شعري، تشكيلي أو موسيقي، وإما ألا يكون.. هنالك من يرى أن المرأة خرجت إبداعيا من عنق الزجاجة وأصبحت أكثر حراكا وقدرة على التنوع في الصوت وفي النص بعد أن كانت منغلقة في أناة شخصية ضيقة.. ما رأيك؟ أثق بأن الذي يرى هو مذكر حتى ولو كان رائية أي امرأة، وأثق بأن من يرى هكذا رؤية، هو يجهل \”الرؤيا\”.. ولذلك أسألك: ألم تسترجع من خلال دالة \”المرأة\” الحالة النسوية الجنسوية، الفيزيقية، أو الهارمونية؟ أظن بأن الإبداع لا يعترف بهذه التصيفات العنصرية، أو الجنسوية، النسوية، أو الذكورية، ولن أعيدك إلى ما اكتشفه العلم من تناغم بين الهرمونات المؤنثة والمذكرة في المبدع الحقيقي سواء كان مؤنثاً أم مذكراً، وكلما تناغمت هذه الحالة بجمالية وارتفاع كتب الإنسان الإبداع، وكتب الإبداع الإنسان.
المجلة الثقافية الجزائرية: هذا يقودني إلى سؤالك عن ظاهرة الرواية العربية \”الاستعجالية\” التي اجتاحت المكتبات في السنوات الماضية؟ ما رأيك فيها؟
أنت تجيب عنها بسؤالك \”الاستعجالية\”.. إذا كان كما فهمتها: الاستهلاكية، الفاسدة، المفسدة..
المجلة الثقافية الجزائرية: يبدو أن ما يعيب بعض تلك الروايات أنها انحصرت في إسقاطات جسدية وإيحاءات أيروتيكية أطرّها كرواية شكلية ومرحلية، ك\”أدب تجاري\” .. ما رأيك؟
أنت تجيب أيضاً، مؤكداً على رأيي الذي لا يرى في تلك الإسقاطات والإيحاءات والمردود التجاري والابتذالات أية صلة بالأدب.. أنا مع النص الكوني الكينوني، المتجدد، المتثاقف بالمخيلة، المهذب للإنسان واللغة والوجود واللا وجود..
المجلة الثقافية الجزائرية: البعض يرى أن دور النشر هي التي \”صنعت\” هذا النوع من الكتابة. ما رأيك؟
الحاضرون الحاضرات، الغائبون الغائبات، المغرضون المغرضات، الفارغون الفارغات، وغيرهم، هم المخربون المخربات، القاصدون والقاصدات، المستهترون والمستهترات، بكل القيم الأخلاقية، الحياتية والكتابية، وهم من اشتركوا في ارتكاب هذه الجريمة التي أصفها بالخيانة العظمى.
المجلة الثقافية الجزائرية: وكيف تقرأ غالية خوجة الفضاء الأدبي الراهن في بلدها سورية؟
متنوع، كعادته، يضج بالتجريب، والتنوع، وكما يحفل بالقلة من المبدعين والمبدعات، تجد فيه الكثير من الأدعياء والمزيفين والوصوليين وإلخ..
لا أعترف بتصنيف الأجيال
المجلة الثقافية الجزائرية: ألم يظلم الإعلام في رأيك الكثير من الأدباء المبدعين السوريين الجدد، بحيث أن القارئ العربي لا يعرف عن الأدب السوري سوى الأسماء الكبيرة من الجيل السابق؟
أولاً، لا أعترف بتصنيف الأجيال.. ثانياً، الظلم قد يطال ما تسميه \”أسماء كبيرة\”، و\”أسماء جديدة\”.. وهذا ما يحدث في العالم وليس في أمتنا العربية وحدها، واسأل ميشيل فوكو وكيف عانى من ظلم مخيف مع كتابه \”الجنون\”.. وتلك هي فرنسا \”دولة الفن والثقافة\” التي ظلمت \”رامبو\” وسواه أيضاً.. لست مع الظلم، بالطبع، لكنه موجود في كل مكان وزمان، وقد يكون ظلماً مظلماً بظلمات من فوقها ظلمات من تحتها ظلمات، والسبب الرئيس عائد لغلبة كل المعايير إلا الإبداعية والأخلاقية، ولذلك أقول: علينا أن نعطي كل ذي حق حقه، لنكون أهلاً للحضارة وإبداعها، فكم من مبدعين ومبدعات، ظلموا بأبشع الطرق، ولا أخفيك إن قلت أنا واحدة منهم، ولا يهمني ذلك، لأنني لا أنتظر أية عدالة من أي فان، بل أؤمن بأن الباقي الأعلى، من وهبني هذا البقاء، منحني عدالته منذ قال \”كوني\”.
المجلة الثقافية الجزائرية: وماذا تعرف غالية خوجة عن الأدب الجزائري؟ ومن الكتاب الذين قرأت لهم؟
لا أدعي بأنني ملمة بالأدب الجزائري بشكل كامل، لكنني قرأت كتابات لأسماء لن أذكرها كي لا تقول \”أسماء كبيرة\”، فهي معروفة للجميع ، كما أنني أتابع المشهد المتحرك في الجزائر، عبر الشبكة الالكترونية، والدوريات العربية، وما يصلني من كتب، ومن خلال الملتقيات المتبادلة لا سيما بين سوريا والجزائر، وأرى بأن الأدب الجزائري انزاح عن حدوده المألوفة، بين الرواية والقصة والنقد، إلى وهج شعري أقرب ما يكون إلى الصوفية والسوريالية، وذاك الغموض الجمالي، النابع من بصيرة حساسة. وألفت إلى أنني قرأت \”الحمار الذهبي\” التي تعتبر أول رواية مكتوبة حتى الآن، إذا لم تخني ذاكرتي التي أشبه ما تكون بالثقوب الكونية السوداء، والبيضاء!