بقلم: بول إيلي ترجمة تقوى مساعدة
كان البيت في ناحية هادئة من مكسيكو سيتي، وكان يضمّ مكتبًا وجد فيه عزلةً لم يعرفها من قبل ولا من بعد. كانت سجائره على الطاولة، حيث كان يدخن 60 سيجارة في اليوم. كانت الأسطوانات على الغرامافون، ليستمع إلى مقطوعات ديبوسي وبارتوك وإلى ألبوم «أ هارد ديز نايت» لفرقة البيتلز. أما على الجدران فقد علّق رسومًا تتحدّث عن تاريخ بلدة كاريبية أطلق عليها اسم «ماكوندو» وشجرة عائلة أسماها «آل البويندياس». في الخارج كانت الستينات، وفي الداخل كانت سنوات ما قبل الاستعمار في الأمريكيتين، أما الكاتب، فكان جالسًا قبالة آلة الكتابة مفعمًا بالقوة.
أطلق وباء الأرق على أهل ماكوندو، وجعل قسيسًا يرتفع إلى السماء، وبقوّة الشوكولاتة الساخنة أرسل نحوهم سربًا من الفراشات الصفراء. قاد شعبه في الدرب الطويل بين الحرب الأهلية والاستعمار وجمهوريات الموز المُتزعزعة، تتبّع خطواتهم إلى داخل غرف نومهم وشهد مغامراتهم الجنسية الفاحشة والمسافِحة.
وعندما كان يتذكر، كان يصف عمله بقوله «في أحلامي كنتُ أخترع الأدب». وشهرًا تلو شهرٍ أخذت المسوّدة المطبوعة على الآلة الكاتبة تنمو مؤذنًة بالثّقل الذي كانت الرواية العظيمة ستلحقه به، وهو الثّقل الذي وصفه لاحقًا بأنه «عزلة الشهرة».
بدأ غابرييل غارسيا ماركيز بكتابة «ثيين آنيوس دي سوليداد» – مئة عام من العزلة – قبل نصف قرن، وأنهاها في أواخر سنة 1966. خرجت الرواية من المطبعة في بوينوس آيريس في الثلاثين من أيار سنة 1967، قبل يومين من صدور أسطوانة فرقة البيتلز «سرجنت ببرز لونلي هارت كلوب باند» وكانت ردة فعل القرّاء من الناطقين بالإسبانية شبيهة بحالة الهوس التي رافقت كل ما له علاقة بفرقة البيتلز؛ حشود وكاميرات وعلامات تعجب وإحساس عارمٌ بباكورة عهد جديد. ظهر الكتاب باللغة الإنجليزية سنة 1970، وتبعته نسخة بغلاف ورقي عليه رسمٌ لشمسٍ حارقة، وأصبح هذا الرسم الرمز المقدّس لذلك العقد من الزمان.
وعندما حاز ماركيز على جائزة نوبل سنة 1982، باتت الرواية تمثّل الـ«دون كيخوتة» للنصف الجنوبي من العالم، وباتت الدليل على الشوكة الأدبية لأمريكا اللاتينية، وصار ماركيز معروفًا باسم «غابو»، يمتدّ صيته إلى كل القارات باسمه الأول، شأنه كشأن صديقه الكوبي فيديل.
مرت سنوات عديدة، وما يزال الاهتمام بغابو وبروايته متأججًا، فقد دفع مركز هاري رانسوم في جامعة تكساس مؤخرًا 2,2 مليون لشراء أرشيفه، بما في ذلك مسوّدة على الآلة الكاتبة بالللغة الإسبانية لـمئة عام من العزلة، كما اجتمعَ أفراد عائلته وأكاديميون في تشرين الأول ليلقوا نظرة جديدة على إرثه، معتبرين الكتاب مجددًا رائعته الأدبية الخالدة.
وبشكلٍ غير رسميّ فإن مئة عام من العزلة هي رواية الجميع المفضلة من الأدب العالمي، وهي الرواية التي ألهمت روائيي عصرنا أكثر من غيرها منذ الحرب العالمية الثانية، مثل توني موريسون وسلمان رشدي وجونوت دياث.
أحد مشاهد فيلم «الحي الصيني» تدور في عمارة في هوليود أُطلق عليها اسم «شقق ماكوندو». خلال فترته الرئاسية الأولى، أعرب بيل كلينتون عن رغبته في لقاء غابو عندما كان كلاهما في جزيرة مارثا فينيارد في ماساتشوستس، وانتهى بهما الأمر بتناول العشاء معًا في بيت ويل وروز ستايرن بينما تبادلا وجهات النظر حول ويليام فوكنر. وشاركهما العشاء كلٌّ من الروائي كارلوس فوينتيس ورجل الأعمال والناشط فيرنون جوردان والمنتج السينمائي هارفي واينستين.
عندما توفّي ماركيز في نيسان 2014 انضم باراك أوباما إلى بيل كلينتون في نعيه لماركيز بوصفه بأنه «من كتّابي المفضلين منذ كنت طفلًا» وتحدّث عن نسخته العزيزة الموقّعة من «مئة عام من العزلة».
أمّا يان ستافانس، الباحث البارز في الثقافة اللاتينية في الولايات المتحدة الذي قرأ الكتاب ثلاثين مرة فإنه يصر على أن «الكتاب لم يُعِد تعريف أدب أمريكا اللاتينية فحسب، بل أعاد تعريف الأدب، نقطة وسطر جديد».
كيف كان لهذه الرواية أن تكون مثيرة وممتعة وتجريبية ومتطرفة سياسيًا وأن تحظى بهذه الشعبية العارمة في آن معًا؟ إن نجاح الرواية لم يكن أمرًا مضمونًا، وقصة هذه الرواية جزءٌ مهمٌ وغير معروفٍ من التاريخ الأدبي خلال نصف القرن الأخير.
ترك الديار
الكاتب الذي نسجَ أشهر قرية في الأدب هو ابن مدينة، حيث وُلد سنة 1927 في قرية آراكاتاكا الكولومبية قرب الساحل الكاريبي، ودرس داخل البلاد في ضاحية من ضواحي بوغوتا. ترك غابرييل غارسيا ماركيز دراسة القانون ليصبح صحفيًا في كارتاخينا وباررانكيا (كان يكتب عمودًا صحفيًا) وفي بوغوتا (حيث كان يكتب مراجعات لأفلام سينمائية).
وفي الوقت الذي اشتدّت فيه قبضة الديكتاتورية، ذهب ليعمل في أوروبا، مبتعدًا عن درب الخطر. مرّت عليه أيام صعبة هناك، ففي باريس كان يرجع القناني الزجاجية إلى الدكاكين ويستردّ تأمينها ليؤمّن المال، وفي روما تلقّى دروسًا حول صناعة الأفلام التجريبية، أما في لندن فكان يرتعش من البرد، وكان يرسل الأخبار من ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفيتي.
وعند عودته جنوبًا إلى فنزويلا كاد أن يُعتقل في مداهمة عسكرية عشوائية، وعندما تولّى فيديل كاسترو السلطة في كوبا، وقّع ماركيز عقدًا مع «برينسا لاتينا» وهي وكالة أنباء تمولها الحكومة الشيوعية الجديدة، وبعد أن عانى من ضيق الحال في هافانا انتقل إلى نيويورك سنة 1961 مع زوجته مرسيدس وابنهما الصغير رودريغو.
لاحقًا وصف المدينة بأنها «متعفّنة متفسّخة، إلا أنها كانت في طور الميلاد الجديد، كالأدغال. لقد أذهلتني». أقامت العائلة في فندق ويبستير عند تقاطع الجادة 45 وشارع 5، ولاحقًا انتقلوا للسكن مع أصدقاء لهم في كوينز، إلا أن غابو كان يمضي أغلب وقته في مكتب جريدة قرب مركز روكفيلير، في غرفة بنافذة واحدة تطلّ على ساحة تغزوها الجرذان. كان الهاتف يرنّ طويلًا، وكان المتصلون من المنفيين الكوبيين الغاضبين الذين كانوا يرون في الوكالة بؤرةً لنظام كاسترو الذي يمقتونه، وكان يُبقي قضيبًا حديديًا على أهبة الاستعداد في حال تعرضت الوكالة للهجوم.
كان يكتب الروايات طوال الوقت: كتب «عاصفة الأوراق» في بوغوتا، و«ساعة الشؤم»، و«ليس للجنرال من يكاتبه» في باريس، وكتب «جنازة الأم الكبيرة» في كاراكاس. وعندما سيطر الشيوعيون المتشددون على قسم الصحافة وطردوا المحرّر، استقال ماركيز متضامنًا.
كان من المقدّر له أن ينتقل إلى مكسيكو سيتي وأن يركز على الأدب، ولكن قبل ذلك كان عليه أن يرى الجنوب الذي لطالما تحدث عنه ويليام فوكنر، والذي قرأ كتبه مُترجمةً منذ كان في العشرينات من عمره. ويروي عن مروره في غريهاوند أن عائلته عوملت على أنها جماعة من «المكسيكيين القذرين»، حيث كانوا يرفضون تأجيرهم الغرف ويمنعون عنهم الخدمة في المطاعم.
يصف ماركيز الرحلة فيقول «المعابد النقية وسط حقول القطن، والمزارعون ينامون قيلولتهم تحت حواف نوافذ النّزُل على جانب الطريق، وأكواخ السود تستمرّ في العيش وسط الضنك … عالم مقاطعة يوكناباتوفا الفظيع مرّ أمام عيوننا من نافذة الحافلة، وكان حقيقيًا وإنسانيًا كما هو في روايات الأستاذ الكبير».
عانى ماركيز، وتحوّل لكتابة السيناريو، وحرّر مجلّة نسائية من ذوات الورق المصقول اسمها “لا فاميليا” وحرر مجلة أخرى تختص بالفضائح والجرائم. وكتب المحتوى لجي والتر تومبسون، وعلى الضفة اليسرى من مكسيكو سيتي كان يُعرف بأنه متجهّم ونكِد.
ثم تغيرت حياته. اهتمت وكيلة أدبية من برشلونه بأعماله، وبعد أسبوع من الاجتماعات في نيويورك سنة 1965 ذهبت معه نحو الجنوب.
ورقة
قالت كارمن بالثيس بنبرة حازمة لإنهاء الحوار «هذه المقابلة خدعة». كنا في شقتها الواقعة فوق مكاتب وكالة «كارمن بالثيس» الأدبية، في وسط مدينة برشلونة. وعلى كرسيها المتحرك خرجت لملاقاتي عند المصعد ثم أدارت الكرسي نحو طاولة ضخمة مُثقلة بالمخطوطات وصناديق حمراء. (كُتب على أحد الصناديق: بارغاس يوسا، وكُتب على آخر: وكالة وايلي).
بسنواتها الخمس والثمانين، وشعرها الأبيض السميك، وبنيتها الضخمة والمتينة التي قادت إلى تسميتها بـ«الأم الكبيرة». كانت ترتدي ثوبًا أبيض واسعًا فبدت شبيهة بنسخة أنثوية من البابا.
قالت بالانجليزية «خدعة» بصوت مرتفع ودقيق، وقالت «عندما يموت شخصٌ مشهور، أو فنّان، ولا يعود من الممكن أن يجيب على الكثير من الأمور، فتكون الحركة الأولى حينها هي إجراء المقابلات مع السكرتيرات ومصففي الشعر والأطباء والزوجات والأبناء والخياط. أنا لست فنانة. أنا وكيلة أدبية. أنا موجودة هنا كشخص كان له أهمية كبيرة في حياة غابرييل غارسيا ماركيز. ولكن هذا ليس الأمر الحقيقي، فالحضور العظيم للفنان مفقود».
كانت بالثيس تعدّ لمستقبلٍ لن تكون موجودة لتشهد عليه، حيث كان هنالك صفقة لتبيع وكالتها إلى وكالة أندرو وايلي إلا أنها لم تنجح (سيأتي المزيد عن هذا الموضوع لاحقًا). وهنالك طالبو ودٍّ آخرون يسعون لشراء الوكالة، وبالثيس كانت تحاول أن تختار من سيعتني بعملائها الذين يزيدون عن الثلاثمئة كاتبًا، وتركة ماركيز أبرزهم. قالت لنا متبرّمةً أنها ستجتمع بعد مقابلتنا بمحاميها ووصفته بأنه «عملٌ وسخ».
في ذلك المساء، بحيويتها الفخمة، نحّت هذه الأمور جانبًا وأخذت تتذكر أول يوم شعرت فيه بأنها قريبة من «الحضور العظيم للفنان».
تحبّ كارمن وزوجها لويس القراءة في الفراش، تقول كارمن «كنت أقرأ أحد أوائل كتب ماركيز، وقلت للويس «هذا رائع يا لويس، يجب أن نقرأه في نفس الوقت». وهكذا أعددت نسخة من الكتاب، وكلانا تحمسنا له: لقد كان كتابًا جديدًا ومنعشًا وأصيلًا ومشوّقًا. هنالك كتبٌ يقول عنها كل قارئ في ذهنه «هذا واحد من أفضل الكتب التي قرأتها على الإطلاق»، وعندما يحصل هذا مرارًا وتكرارًا مع نفس الكتاب، في كل أنحاء العالم فهذا يعني أننا أمام تحفة أدبية. هذا هو ما حصل مع غابرييل غارسيا ماركيز».
وعندما وصلت كارمن ولويس إلى مكسيكو سيتي في تموز سنة 1965 لم يكن ماركيز قد التقى بوكيلته الجديدة فحسب، بل التقى بشخصين يتعاملان مع أعماله بحميمية. خلال النهار كان يرافقهم ليريهم المدينة، وفي الليل كانوا يتناولون العشاء مع كُتّاب محليين. وبعد أن شعر ماركيز بالألفة الكاملة مع ضيوفه، أخرج ورقةً، وبوجود لويس كشاهد وضع هو وبالثيس عقدًا باتت بموجبه ممثلته في كل أنحاء العالم للسنوات المئة والخمسين القادمة.
قالت لي مبتسمة «ليست مئة وخمسين سنة، بل أعتقد انها مئة وعشرون سنة … لقد كانت مزحة، عقدٌ ساخرٌ كما ترى».
ولكن كان هنالك عقدٌ آخر، ولم يكن ذلك العقد مزحةً على الإطلاق، ففي الأسبوع السابق في نيويورك وجدت بالثيس ناشرًا أمريكيًا –هاربر آند رو- لينشر أعمال ماركيز. كانت قد عقدت صفقة لحقوق كتبه الأربعة باللغة الإنجليزية. بكم؟ بألف دولار. وكانت قد أحضرت العقد معها وقدمته له ليوقعه.
بدت شروط العقد مجحفة، لا بل ضارية، كما أعطى العقد دار هاربر آند رو للنشر الخيار الأول لتقديم عرض سعر لكتابه الأدبي التالي مهما كان. قال لها «هذا العقد خرائي» إلا أنه وقّعه على أية حال.
غادرت بالثيس لتعود إلى برشلونة، وانطلق ماركيز مع عائلته لإمضاء عطلة على شاطئ أكابولكو الذي يبعد يومًا بالسيارة باتجاه الجنوب. في منتصف الطريق أوقف سيارته الأوبل البيضاء ذات الفرش الأحمر من طراز 1962، وعاد أدراجه. لقد خطرت له فكرة عمله التالي فجأة. فلقد أمضى عشرين سنة وهو يجرجر ويستنهض قصةً عن عائلة كبيرة في قرية صغيرة. والآن تراءت له بوضوح كما يرى رجلٌ يقف أمام فصيل الإعدام حياته تمرّ أمامه في لحظة واحدة.
وفي وقت لاحق قال «لقد كانت القصة ناضجةً بداخلي، إلى الحد الذي كان يجعلني قادرًا على أن أُملي الفصل الأول كلمةً بكلمة على شخص يطبع على الآلة الكاتبة».
وطّن نفسه أمام الآلة الكاتبة في المكتب. «لم أنهض طوال ثمانية عشر شهرًا» وكبطل الكتاب الكولونيل أوريليانو بوينديا الذي كان يختبئ في ورشته في ماكوندو ليبتدع أسماك صغيرة بعيون من الحجارة الكريمة، كان الكاتب يجلس ليعمل بهوس. كان يضع العلامات على الصفحات المطبوعة، ثم يرسلها إلى طابع ليعدّ نسخة جديدة. كان يتّصل بالأصدقاء ليقرأ عليهم صفحات بصوتٍ عالٍ. مرسيدس كانت تعتني بالعائلة، وكانت تملأ الخزانة بالويسكي ليكون موجودًا عندما ينتهي العمل، وكانت تتكفّل بمحصّلي الفواتير. وبحسب خيرالد مارتين كاتب سيرة ماركيز فقد رهنت مرسيدس أدوات المنزل لتحصل على المال: رهنت الهاتف والثلاجة والراديو والمجوهرات. باع سيارة الأوبل، وعندما انتهت الرواية ذهب غابو ومرسيدس إلى مكتب البريد ليرسلوا المخطوطة إلى دار سود أميريكانا للنشر في بوينوس آيريس لم يكن معها الـ82 بيسو أجرة البريد. أرسلوا النصف الأول، وأرسلوا البقية بعد أن ذهبوا إلى متجر الرهونات.
كان قد دخّن 30 ألف سيجارة وأنفق 120 ألف بيسو (قرابة العشر آلاف دولار). سألت مرسيدس: «وماذا لو كانت الرواية بعد كل هذا روايةً سيئة؟».
ذهن متأجج
يقول فوكنر «الماضي لا يموت أبدًا. إنه ليس ماضيًا حتى»، ومع «مئة عام من العزلة» جعل ماركيز حضور الماضي شرطًا للحياة في ماكوندو، كالفقر والظلم. فعلى امتداد سبعة أجيال استمر حضور خوسيه أركاديو بوينديا وأبنائه في حياة بعضهم: ظلوا حاضرين في الأسماء المتوارثة، وفي نوبات غضبهم وغيرتهم، وفي عداواتهم وحروبهم، وفي كوابيسهم، وفي تيار سفاح الأقارب الذي يمرّ خلالهم. قوٌة تجعلُ الشبهَ في العائلة لعنةً، والانجذاب الجنسي قوةً تُكافح، خشية أن يولد لك ولحبيبتك (وهي أيضًا ابنة عمك) طفلٌ له ذيل خنزير.
«الواقعية السحرية» بات المصطلح الذي يصف انتهاك ماركيز لشروط الطبيعة من خلال الفن. ويبقى السحر في الرواية أولًا وأخيرًا في القوة التي تجعل آل بوينديا وجيرانهم حاضرين للقارئ. فأنت تشعر بها عندما تقرأها. تشعر أنهم على قيد الحياة، وأن هذا قد حدث بالفعل.
بيعت ثمان آلاف نسخة من الكتاب في الأسبوع الأول في الأرجنتين فقط، وكان هذا رقمًا غير مسبوق لأي عمل أدبي في أمريكا الجنوبية، قرأها العمال وخدم المنازل وأساتذة الجامعات وبائعات الهوى، حيث يستذكر الروائي فرانثيسكو غولدمان أنه رأى نسخة من الرواية على طاولة قرب الفراش في بيت هوى عند الساحل.
سافر غابرييل غارسيا ماركيز إلى الأرجنتين وإلى البيرو وإلى فنزويلا ممثلًا عن روايته، وفي كاراكاس طلب من مضيفيه أن يعلقوا يافطة كُتب عليها بخط اليد: ممنوع الحديث عن مئة عام من العزلة. قدّمت النساء أنفسهنّ لماركيز، منهن من قدمت نفسها وجهًا لوجه ومنهم من قدّمت نفسها بالصورة.
وليتجنب التشويش نقل عائلته إلى برشلونة، وعندما التقى به بابلو نيرودا هناك كتَبَ عنه قصيدة، وفي جامعة مدريد كتب ماريو بارغاس يوسا -الذي كان حينها قد صار روائيًا مشهورًا بعد روايته «البيت الأخضر»- رسالة دكتوراة عن كتب غابرييل غارسيا ماركيز، وحازت الرسالة على أرفع الجوائز الأدبية في إيطاليا وفرنسا.
بدا وكأنه أول كتاب يوحّد الثقافة الأدبية الناطقة بالإسبانية التي لطالما كانت مقسّمة بين إسبانيا وأمريكا اللاتينية، وبين المدينة والقرية، وبين المُستَعمِر والمُسْتَعمر.
غريغوري راباسا اشترى الكتاب من مانهاتن وقرأه مباشرة وافتتن به. كان راباسا -وهو أستاذ اللغات الرومانسية في كلية كوينز- قد أنهى مؤخرًا ترجمة رواية «الحجلة» لخوليو كورتاثار، وفازت هذه الترجمة بجائزة الكتاب الوطنية. وكان قد عمل كمحلل شيفرة في مكتب الخدمات الاستراتيجية خلال الحرب. كان قد رقص مع «مارلين ديتريخ» عندما كانت تأتي لتسلية الجنود، وكان من أولئك الذين يميزون الأشياء الحقيقية فور رؤيتها.
تحدّث إلينا راباسا في شقته في الشارع 72. عمره الآن 93، هشٌّ الجسد ولكنه سريع الذهن وما يزال يحضر اجتماعات الناجين من جواسيس مكتب الخدمات الاستراتيجية، قال «لقد قرأت الكتاب دون أيّ نية لترجمته، كنت معتادًا على أسلوب القصّ المضمون. آه .. فقد ترجمت أعمال كورتاثار، وأعرف أعمال بورخيس، فإذا وضعت الإثنين معًا تحصل على شيء آخر: تحصل على غابرييل غارسيا ماركيز».
مدير دار هاربر آند رو للنشر كاس كانفيلد كان قد حصل على حقوق الكتب الأربعة السابقة بألف دولار، حصل هذه المرة على حقوق الكتاب الجديد بخمسة آلاف دولار تُدفع لوكالة بالثيس على دفعات. وعندما طلب ماركيز نصيحة صديقه خوليو كورتاثار لاختيار مترجم، قال له كورتاثار: عليك براباسا.
وفي سنة 1969 في بيتٍ في هامبتون بيز في ولاية لونغ آيلاند بدأ راباسا يترجم الرواية، بادئًا بجملته ثلاثية الإيقاع التي تعصى على النسيان: «بعد سنوات طويلة، وأمام فصيل الإعدام، سيتذكّر الكولونيل أوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه ليكتشف الثلج».
وضع راباسا بعض القواعد «كان عليّ أن أضمن أن الأب هو دائمًا خوسيه أركاديو بوينديا، وألا يكون مطلقًا أيًّا من النسخ المبتورة، بنفس الطريقة في رواية «الفستق» عندما كان شارلي براون لا ينادى بأي اسم عدا شارلي براون».
المحرر ريتشارد لوك اطّلع على الكتاب لأول مرة سنة 1968 بعد أن دله عليه الروائي توماس مكغوين عندما كان في زيارةٍ له في مونتانا. يقول «توماس كان قارئًا ممتازًا إلى حد بعيد، وقال أن هذا هو الرجل الذي يتحدث عنه الجميع».
وفي الوقت الذي أرسلت فيه دار هاربر آند رو للنشر نسخ الرواية للتدقيق في بدايات سنة 1970، كان لوك قد أصبح محرر الملحق الأدبي الأسبوعي لجريدة النيويورك تايمز، ويستذكر لوك وصول الرواية:
وفي هذه الأثناء كان كانفيلد قد أفضى بكل ما عنده لمراسل من جريدة التايمز، ونُشرت حينها مراجعة لكل أدب أمريكا اللاتينية الجديد المترجم إلى الإنجليزية وكان غابرييل غارثيا ماركيز أول الأسماء التي تناولتها المراجعة. «نحن متأكدون أن غابرييل غارسيا ماركيز سيتسبب بأثر شبيه على المشهد الأدبي الأمريكي بالأثر الذي تسبب به الأدباء الفرنسيون والألمان بعد الحرب» يقول كانفيلد.
نُشرت النسخة الإنجليزية من «مئة عام من العزلة» في شهر آذار سنة 1970 وجاء غلافها الأخضر الوارف وخطها الذي لم يوفَ حقه من التقدير، ليخفيا كل ذلك الشغف الذي تضمه الرواية. مراجعات التايمز للمبيعات والجوائز كانت وما تزال هي المراجعات الأهم، حيث كتب جون لينارد في النسخة اليومية من التايمز «سِفر تكوينٍ أمريكي جنوبي، قطعة دنيوية من السحر» ولم يكتفِ بذلك بل كتب أيضًا: «تنبعث من هذه الرواية المدهشة كمن ينبعث من حلم، وذهنك يتأجج» واختتم «بقفزة واحدة، صعد غابرييل غارسيا ماركيز إلى ذات المنصة جنبًا إلى جنب مع غنتر غراس وفلاديمير نابوكوف، شهيته هائلة كهول خياله، وإيمانه بالقدر أعظم من إيمان كليهما. مبهر».
بعد توقيعه على مبلغ خمسة آلاف دولار بناءً على«عقد خرائي» باع الكتاب خمسين مليون نسخة في كل أنحاء العالم، وشغل مكانًا على قائمة الكتب المنشورة سابقًا التي يُعاد طبعها كل عام.
راقب غريغوري راباسا المشهد بخليطٍ من الفخر والامتعاض، بينما أصبح عمله _الذي تقاضى عليه دفعةً واحدة «ألف دولار تقريبًا» كعمل بُستانيّ ينثر الروث على حقلٍ فاره_ العمل المُتَرجم الأبرز والأكثر شهرة.
قرأ ماركيز نفسه النسخة الإنجليزية من مئة عام من العزلة التي نشرتها دار هاربر آند رو للنشر وصرّح أنها أفضل من الأصل الذي كتبه بالإسبانية، ووصف راباسا بأنه «أفضل كاتب أمريكي لاتيني باللغة الإنجليزية».
المشادّة
منّى الكثيرون أنفسهم بفكرة تحويل «مئة عام من العزلة» إلى فيلم، إلا أن أيًّا منهم من لم يقترب من تحقيق هذه الأمنية. فإما أن الوكيلة والكاتب كانا يطلبان مبالغ خيالية مقابل الحقوق. وكان غابو قد قال لهارفي واينستين أنه سيعطيه هو وغيسيب تورناتور الحقوق بشرط أن يُصنع الفيلم على طريقته. يستعيد واينستين ما قاله غابو «يجب علينا أن نصوّر الكتاب كاملًا كفيلم ولكننا لا نطلق منه إلا جزءًا مدته دقيقتان كل عام طوال مئة عام».
وبدلًا من تحويل الرواية إلى فيلم، كان هنالك الكثير من الأعمال التي أبدت تقديرها للكتاب، كتبها روائيون آخرون، منها أعمال صريحة كالروايات المضخّمة التي كتبها أوسكار إخويلوس عن كوبا الأمريكية، ومنها أعمال غير مباشرة وخفية كرواية ويليام كينيدي «نبتة الفيرنونيا» والتي يتكلّم فيها طفل ميت من قبره مع والده. أما أليس ووكر فقد خرقت حدود المعقول في روايتها «اللون القرمزي» حيث كانت الرسائل المُرسلة إلى الله تجلب إجاباتٍ حقيقية. وإيزابيل أييندي قريبة الرئيس التشيلي المذبوح سالفادور أييندي (وهي واحدة من الكتّاب الذين تمثلهم كارمن بالثيس) قصّت قصة التشيلي الحديثة من خلال ملحمة عائلة في روايتها «بيت الأرواح».
وتروي المحررة توني موريسون والتي كانت قد نشرت حينها كتابين من تأليفها:
عندما توفي والد موريسون كانت تفكر بكتابة رواية جديدة، كل أبطالها رجال وكان هذا شيئًا جديدًا عليها، «ترددتُ قبل الكتابة عن هؤلاء الرجال، أما الآن، ولأنني قرأت «مئة عام من العزلة» لم أعد أتردد، فماركيز أعطاني الإذن». الإذن لكتابة «نشيد الإنشاد» التي كانت الرواية الأولى من سلسلة روايات عظيمة وجسورة. (وبعد عدة سنوات درّست موريسون وماركيز معًا مساقًا لطلبة الماجستير في جامعة برينتستون، كان هذا في سنة 1998 التي تصفها موريسون بأنها «السنة التي ظهرت فيها الفياغرا». وتستذكر «كنت آخذه في الصباح من الفندق الذي كان يقيم فيه مع مرسيدس، وكان يقول بإنجليزية مكسورة «الحبّببة .. الحبببة ليست لنا نحن الرجال، إنها لكنّ، إنها للنساء، نحن لا نحتاجها، ولكننا نريد أن نرضيكنّ!».
جون إيرفينغ كان يدرّس الأدب ويدرّب على المصارعة في كلية ويندهام في فيرمونت، وكان أحد خريجي ورشة كتابة أيوا المبهورين بغنتر غراس. قد أذهله كتاب ماركيز كما أذهلته رواية «طبل الصفيح» لغراس، أذهلته بسعتها وثقتها التقليديتين، يقول إيرفينغ «إنه رجلٌ يقصّ القصص على طريقة القرن التاسع عشر ولكنه يعمل الآن، إنه يخلق الشخصيات ويجعلك تحبها. عندما يكتب عن ما هو خارقٌ للطبيعة يكتبه بطريقة تفوق المعتاد، لا يكتب بطريقة اعتيادية. عندما يكتب عن سفاح الأقارب وعن الزواج المختلط فإن كل هذا مقدّر سلفًا، كما هو الحال في كتابات توماس هاردي».
بالنسبة لجونوت دياث، وهو الأصغر بجيل، فإنه يرى غابو دليلًا لأشكال الواقع الحالية. قرأ دياث الرواية أثناء شهوره الأولى في جامعة روتغرز سنة 1988. يقول دياث «تحوّل العالم من الأبيض والأسود إلى عالمٍ بالألوان. كنت كاتبًا شابًا لاتينيًا أمريكيًا كاريبيًا يبحث باستماتة عن قدوة. اجتاحتني هذه الرواية كالصاعقة: دخلت عبر جمجمتي وهبطت إلى أخمص قدميّ، يرجع صداها بداخلي خلال العقود اللاحقة، وحتى اللحظة».
أذهله أن «مئة عام من العزلة» كُتبت سنة 1965 وهي نفس السنة التي اجتاح فيها الجنود الأمريكيون بلده الدومينيكان، وهكذا بات يرى في الواقعية السحرية أداة سياسية «تمكّن الشعب الكاريبي من رؤية الأشياء في عالمهم بوضوح، عالمهم السوريالي حيث الموتى أكثر من الأحياء، وحيث المحو والصمت يفوق المنطوق. هنالك سبعة أجيال من عائلة بوينديا، ونحن الجيل الثامن، نحن أبناء ماكوندو».
كان سلمان رشدي يعيش في لندن ويفكر بأرض طفولته بينما كان يقرأ الرواية لأول مرة، وبعد عدة سنوات كتب «كنت أعرف كولونيلات ماركيز وجنرالاته، أو كنت أعرف على الأقل نظراءهم الهنود والباكستانيين، أساقفتهم كانوا ملالينا، شوارع أسواقه كانت بازاراتي. كان عالمه عالمي مُترجمًا للإسبانية. وليس من المستغرب أنني وقعت في حب الكتاب، لم أقع في حب سحره، بل في حب واقعيته».
وعندما كتب رشدي مراجعةً لرواية ماركيز «قصة موت معلن» اختصر شهرة ماركيز بمبالغة مضبوطة وهي شيء مشترك بينه وبين غابو حيث كتب:
كان رشدي يسمّيه «الملاك غابرييل» وهي إشارة مرتجلة تشير إلى أثر ماركيز على كتاب «آيات شيطانية» والذي يحمل بطله اسم الملاك جبريل.
في ذلك الحين كان ماركيز حائزًا على جائزة نوبل، وكان لديه دار نشر أمريكية هي دار كنوبف. وفي حركة نادرة، نُشرت روايته «قصة موت معلن» كاملةً في مجلة فانيتي فير التي كانت قد عادت للصدور سنة 1983، وكان ريتشارد لوك قد أخذ موقع المحرر فيها. وقرر لوك ومدير التحرير أليكساندر ليبرمان قررا أن يعهدا إلى رسّام البورتريه الكولومبي الشهير «بوتيرو» ليرسم عملًا فنيًا يرافق الرواية. لقد عمّ الإعجاب بماركيز العالم. كان الأديب الفائز بنوبل الذي يحبه الجميع.
يحبه الجميع ما عدا ماريو بارغاس يوسا. كانا صديقين لعدة سنوات، فالاثنان لاتينيان أمريكيان مقيمان في برشلونة، وكلاهما كانا كاتبين بارزين من فترة نهضة أدب أمريكا اللاتينية، وكلاهما تمثلهما كارمن بالثيس، ووزجتاهما – مرسيدس وباتريسيا – كانتا تتزاوران. ثم وقع بينهما الخلاف. ففي سنة 1976 حضر ماركيز في مكسيكو سيتي عرضًا لفيلم «أوديسة الأنديز» الذي كتب نصه يوسا، وعندما رأى صديقه ذهب ماركيز ليعانقه، فما كان من يوسا إلا أن لكمه في وجهه ملقيًا به أرضًا وتاركًا كدمةً على وجهه.
فقال ماركيز: «بما أنك الآن لكمتني وطرحتني أرضًا، فلماذا لا تطلعني على السبب؟». هكذا قصّت عليّ بالثيس الحادثة. ومنذ ذلك الحين تساءل أهل الأدب في أمريكا اللاتينية عن السبب. إحدى الروايات تقول أن السبب هو أن ماركيز كان قد قال لصديق مشترك أنه يرى باتريسيا متواضعة الجمال. وتقول رواية آخرى أن باتريسيا شكّت بأن يوسا يخونها فسألت غابو عما ينبغي عليه فعله فنصحها غابو بأن تتركه. أما يوسا فاكتفى بالقول أن الحادثة نجمت عن «مشكلة شخصية».
وتذكر بالثيس أن أحد الأدباء قال لماريو «احذر، فأنت لا تريد أن تُعرف بأنك الرجل الذي ضرب مؤلف «مئة عام من العزلة»».
ولأربعة عقود رفض يوسا رفضًا باتًّا أن يناقش الحادثة، وقال أنه توصل إلى «اتفاق» مع غابو يقتضي أن يأخذا هذه القصة معهما إلى القبر. ولكن في حوار أُجري معه مؤخرًا، تحدّث يوسا _وهو نفسه حائزٌ على جائزة نوبل_ عن صديقه وغريمه ماركيز، وشرح بتأثر واستفاضة عما كان يعنيه له، منذ أول مرة قرأ فيها أدب غابو (وكان ذلك في باريس وبالترجمة الفرنسية) حتى لقائهما الأول في مطار كاراكاس سنة 1967، وإلى سنوات رفقتهما في برشلونة، وإلى خطتهما لكتابة رواية معًا عن حرب سنة 1982 بين البيرو وكولومبيا.
وتحدّث عن «مئة عام من العزلة» التي قرأها وكتب عنها «مباشرةً مباشرةً» عندما وصلته في كريكيلوود شماليّ لندن، بعد نشرها ببضعة أسابيع. «هذا الكتاب وسّع الجمهور القارئ للأدب الناطق بالإسبانية، ليشمل المثقفين وكذلك القراء العاديين بسبب أسلوبه الواضح الشفاف. في نفس الوقت عكس الكتاب أمريكا اللاتينية جيدًا: الحروب الأهلية في أمريكا اللاتينية، وخيالها ولا مساواتها، وحبّها للموسيقة والألوان. كل هذا كان في روايةٍ اختلطت فيها الواقعية والخيال بطريقةٍ مُحكمة» أما عن خلافه مع غابو فقد التزم يوسا الصمت، وقال «هذا سرٌّ نتركه لكاتب سيرة مستقبليّ».
ستظل كارمن بالثيس تُعرف دائمًا على أنها الوكيلة التي قدّمت كاتب «مئة عام من العزلة». قابلتني في برشلونة، متفهمةً أنها ستتكلّم نظرًا لكونها، في سيرة غابو الذاتية، ما زالت «تعيش لتروي».
اتخذ لقاؤنا، كما اتضح لاحقًا، منعطفًا ماركيزيًا. كنا عند الطاولة الكبيرة في الصالة، التي تشبه غرف شقق نيويورك الكلاسيكية. لوحةٌ رُسمتْ قبل سنواتٍ لبالثيس كانت معلقةً على أحد الجدران – العيون الجريئة ذاتها، والفك القوي ذاته_ كأن بالثيس الشابة كانت حاضرة أيضًا وشاهدةً على القصة الطويلة لعلاقة الوكيلة مع كاتبها، التي كُنِّيَت بالـ«ماتريمونيو بيرفيكتو (الزواج المثالي)».
قلت لها أنني عملت كمحررٍ مع دار «فارار، شتراوس وجيرو». فقالت متعجبةً: «آها!، لديّ ذاكرة فوتوغرافية للوجوه، ومن المؤكد أنني رأيتك عندما كنت هناك للقاء روجر – روجر شتراوس وهو الناشر-. مازلت تحتفظ بنفس الملامح».
«لأنني التقيتك من قبل، يمكنك أن تسألني عمّا تشاء»، أكملت كلامها، ثم تحدثنا لساعةٍ ونصف، ولأنها لطالما كانت وكيلةً، ظلّت تملي عليّ شروطها طوال حديثنا. قالت لي «لكن ليس لتقريرك» سببَ ضربِ ماريو لغابو ذات ليلة في عام 1976. ووضحت لي «لكن عليك أن تعدني بعدم النشر قبل أن أموت» كيف استحوذت على حقوق مئة عام من العزلة مرارًا وتكرارًا «لتعقد صفقات سرية» مع ناشريها حول العالم، ضامنةً لهم حقوق كتبٍ جديدةٍ بشرطِ قيامهم بتعديل عقودهم الشخصية لكتاب غابو – فتعود حقوق الكتاب بذلك إلى وكالتها.
تحدّثت دون تحفّظات عن حالة الوكالة «تقاعدت سنة 2000، وكان لدي ثلاثة شركاء: ابني، والرجل الذي كان يعد العقود، [ورجل آخر]. ولكنني اضطررت للعودة للعمل بسبب الديون والخسائر». وصفت تعاملاتها مع أكبر الناشرين باللغة الانجليزية: «أندرو وايلي هو أحد الأشخاص الذين رغبوا بشراء وكالتي قبل عشرين عاما، وكان ينبغي للصفقة أن تتم قبل ستة أشهر. أندرو كان هنا مع نائبته سارة، ومع ناشرٍ أصبح وكيلًا…» وهزّت رأسها عاجزة عن تذكر اسم كريستوبال بيرا، الذي كان يدير مجموعة بنغوين راندوم هاوس للنشر في المكسيك قبل انضمامه لدار وايلي في شهر آب.
في أيار 2014 دخلت وكالة كارمن بالثيس في مذكرة تفاهم مع وكالة وايلي تتناول بيع الوكالة في النهاية، وكتبت جريدة التايمز أن الصفقة قد تمت تقريبًا. ومن الواضح أن بالثيس كانت تثق بوايلي لدرجة أنها مضت في البيع حتى تلك المرحلة، فلماذا إذن لم تُتمّم الصفقة؟ قالت بالثيس أنّها خمّنت أن وايلي كان يترقّب إغلاق المكتب في شارع دياغونال في برشلونة وأنه سيضم أعمال وكالة بالثيس إلى عمل مكتبيّ نيويورك ولندن. وهذا ما عارضته بشدّة، وهكذا بدأت تدرس عروضًا أخرى: كعرض الوكيل اللندني آندرو نورنبيرغ، الذي يمثّل أدباء مثل هاربر لي وطارق علي والراحل جاكي كولينز، كما تلقّت عرضًا من ريكاردو كافاليرو الذي كان يدير «دار موندادوري» للنشر في كلًّ من إيطاليا وإسبانيا.
قالت لي بالثيس «ثلاثة عروض مُلفتة، إلا أن العملية مجمّدة لأن أيًا من هذه العروض لم يكن بالمستوى المطلوب. بعد قليل سيصل المحامون وسيحاولون تسوية الأمور» ثمّ أفصحت عن أكبر مخاوفها: خذلان أدبائها في حال حلّت احتياجات الشريك الجديد في الوكالة مكان احتياجات الأدباء الفردية. «أن تكون وكيلًا أدبيًا: هذه وظيفة متواضعة، إلا أنها وظيفة مهمة للكاتب. إنه موقع يجعلك تتخذ القرارات الصحيحة لمن تمثلهم. وتكمن المشكلة في أن كبرياء الوكلاء قد يعترض الطريق. من المهم جدًا أن الوكالة شخص. شخصٌ واحد. والأمر ليس متعلقًا بالمال».
وعند السؤال «بماذا يتعلق الأمر إذن؟» لم يعلّق أندرو وايلي على مفاواضاتهما، ويبدو بالتالي أن كلمة بالثيس ستظل هي الكلمة الأخيرة. وبالنسبة لها فقد كان هنالك فالأمر يتعلّق بشيء آخر، وهو أن يمثّل الوكيل حضورًا في حياة أدبائها، وكشخص سيكون موجودًا عندما – على حد وصفها _ يكفّ «الحضور العظيم للفنان” عن الوجود.
بحركةٍ رشيقة على كرسيها المتحرك أوصلتني إلى المصعد وقبّلت يدي عندما افترقنا. بعد ذلك بسبعة أسابيع ماتت كارمن بسكتة قلبية أصابتها في ذات الشقة في برشلونة. ورغم تقدّمها في العمر إلا أن موتها كان صادمًا لمجتمع الناشرين. وبموتها ستصبح ككاتبها السحريّ كاملة الحضور، وطيفًا يطارد في سبيل وكالتها، وفي سبيل إرث غابو.
من سيمثل «مئة عام من العزلة»؟ حاليًا، لا أحد يعرف ذلك، ولكن آل بوينديا وقريتهم ماكوندو مُمَثّلون ببراعة: فنحن سلالتهم، وهم حاضرون لنا، مشعّون كسربٍ من الفراشات الصفراء في صفحات رواية غابرييل غارسيا ماركيز العظيمة.
(نشر هذا المقال باللغة الإنجليزية على موقع مجلة فانيتي فير وسيظهر في النسخة الورقية بتاريخ 31 ديسمبر 2015).
(حبر)