المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

الخالة ريحانة

بقلم د. عطيات أبو العينين

 

يا لصوتها الشجي، تشعر وأنت تستمع إليه كأنه خارج من أديم الأرض، تلمس في رنته رنين صخور الصحراء وهي تصطك ببعضها، كأن الجبال صبغتها بصبغتها الداكنة فصارت جزءا منه، لكنني استطعت أن أستشعر هذه الترنيمات الحزينة الشجية، كأن كلماتها التي لم أفهم معناها هي عزف للحن حزين على تلك الآلة التي تقطع نياط القلوب الناي، امتزج نشيجه مع صوتها الحزين ليعزفا معا لحنا واحدا.
هذه هي “الخالة ريحانة” بوجهها الأسمر سمار الجبال الشاهقة، التي تحيط بنا وقد لفحتها أشعة الشمس، وغريب أن تلفح الشمس وجها لا يرى كلاهما الآخر إلا عابرا، ربما تكون الشمس قد تسللت خفية إلى حجرتها لتنصت إلى صوتها الشجي، أو لتشم زهور الريحان.
أما الخالة ريحانة وهذا ليس اسمها الحقيقي، إنما أطلقناه عليها لزهور الريحان التي تخفيها خلف أذنيها، تميزت بهذه الرائحة التي تعبق المكان فتملأ نفوسنا انشراحا وإقبالا على العمل، عرفناها بها منذ أن تدخل من باب المستشفى التي أعمل بها في تلك المنطقة النائية، فما أن تأتي في الصباح لتنظيف مكاتبنا حتى يفوح عطر الريحان ليتضوع بعرفه المكان.
– كيف حالك يا عواطف؟
هكذا كانت تناديني “الخالة ريحانة” بلا ألقاب، بالرغم من أن جميع العاملين بالمستشفى من أصغر عاملة إلى المديرة لا ينادونني بغير “الدكتورة” إلا الخالة ريحانة، واعتدت منها ذلك، فزهور الريحان تشفع لها.
صارت الخالة “ريحانة” جزءا منا، بل صرنا جزءا منها، حتى شكواها المتكررة التي تبثها إلينا من خلال ترانيمها وأغنياتها الحزينة، كنا نلتف حولها ونستمع إليها في شغف وإعجاب، فتارة الصداع اللعين الذي لا يفارقها، وأخرى بذوراتها “أبناؤها” الذين تزوجوا وفارقوها، وثالثة تنعي الزمن الذي ولى ومر من أمامها دون أن تدري به، تاركا آثاره القاسية على شعرها الذي خطه الشيب ولم تفلح الحناء في إعادته كما كان، وجهها الذي أصابه التجاعيد أسنانها التي سقطت قبل الأوان كأوراق الخريف الذابلة، وتحايلت عليها بأسنان ذهبية كانت تشاركها الابتسام إذا ابتسمت، فتلقي بأشعة ذهبية على وجهها النحيل فتحيل وجهها الشاحب إلى لون النهار تحت أشعة الشمس.
– ماذا بك يا خالة ريحانة؟
سألتها ذات يوم عندما وجدتها تجلس في حجرتها الصغيرة بالمستشفى مكفهرة على غير عادتها، واضعة إحدى يديها على خدها، والأخرى تمسك بزهور الريحان، كأنها تبثها شكواها هزت رأسها في أسى وقالت بصوت حزين:
– أصعب شيء على الإنسان يا ابنتي عندما يجد المياه تهرب من بين يديه قطرة قطرة دون أن يكون له أي إرادة للاحتفاظ ولو بقطرة.
– كل إنسان لابد وأن يأخذ نصيبه غير منقوص يا خالة.
– أجل.. لكن ماذا تقولين في حصان عجوز، يريدون أن يضربوه بالرصاص، لا لشيء إلا أنه شاخ وكبر وأصابه العجز.
تسكت قليلا لتقول بعين دامعة:
– عندما تشعر الأفيال بدنو أجلها فإنها تذهب إلى المقبرة بأقدامها.
– أول مرة أراك تتحدثين بهذه الطريقة، لا تكوني متشائمة يا خالة، هيا فضفضي، قولي ما الذي يحزنك.
– لا داع لأن أنبش الجراح فتزداد اتساعا، دعيها مغلقة على أصحابها.
رحت أواسيها:
– نحن الذين بأيدينا أن نذيب الأحزان ونخفف الجراح عن المرضى، ألا نستطيع أن نعالج أنفسنا.
– كيف يا ابنتي ومرضنا فينا إنه الزمن.
– إذن فلنصادق الزمن بدلا من أن نحاربه، نتصالح معه ونصالحه خيرا من أن نسبح ضده ، فليس بأيدينا العودة إلى الوراء، كذلك لا نستطيع أن نوقف عجلة الزمن.
– وهل أحد يا عواطف يستطيع أن يوقف سريان الزمن، إنه يجري مسرعا كالقطار الجامح ونحن وراءه لا نستطيع أن نوقف سريانه ولا يمكننا اللحاق به.
ضممتها إلى وأنا أقول:
– خالة ريحانة، لقد تعودنا على ابتسامتك الجميلة وصوتك الشجي، أرجوك لا تحرمينا منهما.
هزت رأسها وعادت تترنم بأغنياتها الحزينة ونحن نردد وراءها.
شيء مزعج للغاية أن يأتي يوم بدون الخالة ريحانة، فقد تغيبت في اليوم التالي وأدركنا جميعا أن السبب حالة الاكتئاب التي انتابتها بالأمس، ولكن أن يمر أسبوع كامل دون أن تحضر أو حتى تبلغنا، فبالتأكيد في الأمر شيء.
لا أدري ما الذي دفعني إلى الذهاب إليها، ولم أجد تفسيرا لهذا الهاجس الذي راح يلح على طول الطريق للبحث عن بيتها، لعلها زهور الريحان التي كنت أشمها طول الطريق إلى بيتها، وكأن الطريق يقودني إليها.
لم أتعب في البحث عن بيت الخالة ريحانة، فقد اكتشفت أنها أكثر شهرة من الطريق ومن الجبال ومن زهور الريحان، وكنت طول الوقت أبعد عن مخيلتي مشهدا أخشى أن أراه، وحمدت الله أن خيب ظنوني إذ فوجئت بالأنوار تملأ المكان كأنه عرس، وأصوات غناء من الداخل تبينت منه صوت الخالة ريحانة تصيح في سعادة بصوتها المميز وبحتها الرخيمة، كانت تعطي أوامرها لبعض الفتيات:
– هيا أسرعن.. ركبا الستائر وافرشا السجاد.. فقد أوشكا على الحضور.
عندما التفتت ورأتني لم تصدق نفسها، وضمتني إليها في ود، فشعرت كأنني غرقت في بحر من الريحان، ثم نزلت بي إلى الطابق الأرضي، وفتحت إحدى الغرف وتقدمتني وهي تقول بفرح:
– تفضلي يا عواطف.. هذه غرفتي.
دخلت خلفها وأنا أتأمل حجرة نومها في دهشة وإعجاب معا ورحت أقول:
– لو لم تقولي لي إنها حجرتك لقلت إنها حجرة عروس في شهر العسل.
ضحكت في مرح وقالت:
– هي فعلا حجرة عروس. فلم يمسها أحد حتى الآن.
ثم أخرجت من دولابها علبة مجوهرات فتحتها أمام عيني وقالت:
– اشتراها لي زوجي بالأمس.
– رائعة..
ثم أخذتني سريعا إلى حجرة بالطابق العلوي، ونحن نصعد الدرج إليها سألتها:
– إنني أتعجب لك يا خالة ريحانة، فامرأة مثلك رزقها الله بزوج له مثل هذا الذوق العالي وهذه الرقة الشديدة وتمر باكتئاب!
كنا قد وصلنا إلى الحجرة العلوية وفتحت لي الباب لأشاهد حجرة نوم تشبه تلك التي في الطابق السفلي تماما وسألتني:
– ما رأيك يا عواطف؟
– إنها مثل السفلية تماما
ضحكت ثانية وهي تعقب:
– أنا التي اخترت الاثنتين فكل شيء في البيت من ترتيبي أنا ومن صنعي أنا، هذا المفرش الذي على السرير من عمل يدي، فهو يحب اللون الوردي، وأنا التي رتبت له حاجياته في الدولاب بهذا الشكل، حتى العروس أنا التي اخترتها شابة حسناء مهذبة وبنت ناس.
– مبروك يا خالة ريحانة.. ربنا يتمم بخير .
رحت أجول ببصري في الغرفة لأجد زهور الريحان تملأ المكان. ولاحظت أنني أنظر إلى زهور الريحان فضحكت قائلة:
– إنه يهوى الريحان أيضا.
شاركتها الضحك وأنا أقول:
– من الطبيعي أن يهوى الريحان .. أليس ابنك؟
انفجرت ضاحكة وهي تصيح:
– بل زوجي.
رحت أحملق فيها غير مصدقة، بينما راحت تقول:
– سواء أردت أو لم أرد سيتزوج، فليتزوج إذن بإرادتي أنا وبرغبتي أنا، واشترطت عليه أن يحضر لي مثلما سيحضر لها وأنا الرابحة في النهاية.
ثم صاحت ناهرة الفتيات:
– هيا يا بنات علقن الستائر وافرشن السجاد فقد أوشك العروسان أن يحضرا
وراحت ترقص وتغني وتزغرد بانفعال.. ثم مدت لي صينية الشربات:
– تفضلي شربات الفرح.
نظرت في عينيها فلمحت دموعا انسابت رغما عنها وسقطت على صينية الشربات .