د. السعيد بوطاجين*
بعد سنوات قليلة من الآن سنضطر إلى مسألة الرواية الجزائرية الحالية عما قدمته للسرديات العربية وللمكنات التعبيرية في ظل تواتر فادح للموضوعات و للصيغ الناقلة لها. وسنضطر حتما إلى مراجعة موقفنا مما سمي خطأ جيل السبعينات والجيل الذي تلاه، رغم عدم قناعتنا بوجود مجالية حقيقية لها مما يبرز تاريخيا وفلسفيا ومفهوميا بحكم امحاء، التحديات والفروقات المتداولة علميا.(1)
المؤكد أن المسألة لا تتعلق بمرافعة أو إدانة جهة بعينها، المجتمع العربي كله هو عبارة عن ضحايا مؤجلين أو احتياطيين، إلا أن هناك ضجة مشتركة امها الفن، الأمر الذي يستدعي إعادة التأسيس لكثير من الرهانات السردية، أو العودة، على الأقل، إلى الاعتلاء من الملكة التخيلية ومفعولها، على شاكلة ما فعله البلاغيون القدامى أثناء معالجة الثنائية الخالدة المتعلقة بالمبنى والمعنى.
الموضوع أو القول ليس جوهرا ثابتا ومشتركا إلا عينيا، على مستوى التجلي مثلا، وهذا أمر بديهي لا يحتاج إلى أي تعليل كلما نثبت التموجات الوظيفية التي تنقله من هيئة إلى هيئة نقيضة، خاصة عند تشغيل الرؤية الخاصة للموضوعات الخارجية المتوارثة بفعل النقل والهجرة المشابهة العفوية، وهذا يعني أنه من المتعذر علينا ضبط القول المؤسس لأنه يغدو، مع الوقت، ملكا مشاعل ومملا أحيانا ن لذا وجب إعادة بنيته وفق المقام، أو إعادة شحنه انطلاقا من قوة الذات المدركة، بحثا عن تأصيل جديد لأصل مشاع أفقده الاستعمال المتكرر قوته الجمالية والتأثيرية، مما أدى إلى تكريس يقينيات لم تكن بحاجة إليها، وعلينا أن نتصور غاليلي ينظر إلى الكرة الأرضية بعيون الآخرين المنهمكة في الحفظ دون أن تعطي الملاحظة فرصة للاشتغال من أجل تنحية الهالات الخادعة والاقتراب من شيء يمكن أن نسميه حداثة.(2)
تقودنا هذه المقدمة الاستهلالية إلى مساءلة موجة الروائيين الجدد عن مفهومهم للقول وسبل إدراك أشكال القول، أي عن الموضوعات من حيث أنها ملك مشاع وعن الأنماط الابلاغية لأنها المقومات الوحيدة المؤدية إلى الاستثناء وليست إلى القاعدة. أو بشكل آخر: ماذا يبقى من النص بعد تقادم الموضوعات ومعوداتها الخلية من الأبعاد المعرفية والفلسفية والانزياحية بشكل عام، ومن ثم وقوعها في سديمية المنظورات الاستهلاكية المتناغمة بفعل تحول مرجعيات الملفوظ إلى أصنام (3) وانتقال الذات الفاعلة سرديا ورؤيويا إلى ذات – ذيك ليست لها قوة البصيرة ولا كيانها الخاص بها، وهذه إحدى مشكليات النص.
إنه لأمر غاية في الانزعاج أن نحاول إيقاظ الرواية الجزائرية الحالية التي أصبحت مشتلة لموضوعات مرحلية جعلت القول الفظ (4) يتبوأ على حساب شاعريته وكيفيته/ كيفياته ، وأصبحت المنوالية الموضوعاتية مكدسة.
وإذا عرفنا أن \” العمل الحقيقي لا يحتويه شكله المحدد بل سلسلة تقريبات تصاغ للوصول إليه، هي الجهد الذي يذله في الكتابة كأدات معرفة \” أدركنا مدى أهمية الانسياق السردية في الاقتراب من الفكرة والمعنى، وفي تقريب اللغة من الإحساس والإحساس من اللغة السردية، لكن ذلك لن يتحقق إلا بمعرفة سر اللغة واللغة السرية المشفرة وفق جماليات دائمة الحركة. هكذا يمكن للسرد أن يحقق بعض ذاته، ولو أن تحقيق الذات سيبقى أمرا نسبيا وظرفيا لأن السرد العارف يشك في قدراته مهما كانت قوتها التعبيرية، وهكذا نصل إلى سؤال مهم طرحه ميخائيل عيد، بمعزل عن أي تقييم أو تقويم عقائدي: \” وهذا أنا أسأل مرتبكا: هل الذين ابتكروا كلمة – خيبة – هم من أولئك حلموا بالوصول إلى أماكن على الأرض ثم لم يرتووا بعد وصولهم ؟ وظل الشوق إلى الوصول متقدا في نفوسهم وظل القلق ؟ \” (5)
السرد الناقل والسرد المنقول :
استعرنا هذين المصطلحين من التشكيلة الروسية بتحوير طفيف، لأن هؤلاء ركزوا على الخطاب الناقل والخطاب المنقول. من ناحية تمثل \” المقولات السردية، يبدو لنا أنه من المهم وضع فاصل معتبر جدا بين السرد الناقل لأنه واقعي ومتعارف عليه، وبين السرد المنقول من حيث أنه لصيق المتخيل السردي الذي نعتبره جوهرا، إذ يغدو السرد المنقول موضوعا لنفسه أولا، وأداة لتمرير وهم واقعي، وواقع وهمي ثانيا. أي أننا من الناحية الفنية، سنكون مضطرين، إذا أردنا الإعلاء من شأن السرد، إلى تسريد السرد لذاته للتخلص من وهم الواقعية ومن الأشكال الظرفية المرتبطة أساسا بتوجهات غير أدبية لا تصمد أمام كرامة الفن في صورته النبيلة.
نشير في هذا المقام إلى الانهيار الواضح للغة الرواية الجديدة ومفرداتها التي بقيت سجينة لغة الآخر، ومن ثم التأثير على السرد الذي يتجه شيئا فشيئا نحو الانحسار. والظاهر أن هذا المنحى \” التجريبي \” المختبئ خلف الواقع وموضوعاته وشخصياته وأحداثه الظرفية، سوف يقدم خدمة كبيرة للأفراد والأحزاب، أما أكبر خدمة يقدمها للإبداع فتتمثل في تسطسحه والنزول به إلى مستوى الأشكال الخطابية السياسية المهيمنة، وهي أشكال رثة، ذات علاقة انفصالية مع أدنى متخيل ممكن لأنها فقيرة معرفيا وليست قادرة على منحه سوى أشكال صنمية ولكنها خطرة من حيث أنها تحمل مضامين ومدلولات كان على الكتاب الحذر منها بحثا عن خصوصية الرؤية السردية.
الرواية وشخصية السرد:
تبين لنا العودة السرعة إلى ما سمي بكتابة السبعينيات إلى طرح إشكالية بعض السرود النمطية التي أدينت لاحقا بسبب انتماءاتها إلى جهات معلومة، ومن ثم اختفاء أصالتها الذي يعتبر كموت معلن لذات المبدع ولدوره التنويري المركب: تنوير فكري، فلسفي، لغوي، فني…إلخ. ومن دون عقل مستقل عن جهاز الضغط لا يمكن لأي كان الحديث عن الخصوصية لأنها لا تنور في الخطاب التابع لأية مؤسسة مهما كانت طبيعتها. لا أحد يجهل الصدمات الكبرى التي حصلت في الجزائر فيما يتعلق بموضوعات السرد وتوجهاته: الثورة الزراعية، الثورة الصناعية، الثورة الثقافية، الامبريالية، الرجعية، الاشتراكية، الغد الفضل وأرمادة اليائيات الأخرى، وكانت اللغة حبيسة الوهم المرجعية المغلق التي كرسته السلطة القائمة وتبناه كتاب لأسباب تهمهم إيديولوجيا وإنسانيا… ومصلحيا. والحال أن القارئ المنبه سيكشف من دون أية صعوبة تذكر محدودية القاموس اللغوي وانحيازه وإسهامه في ردم النص، لقد بدا النص هشا وخرج عن إطاره الفني – الجمالي لينزل إلى مستوى سوقي: حزبي، قبلي، رعوي. لقد نسي الكاتب نفسه ونسي وظيفته الحقيقية و أصبح ناطقا رسميا، وبشكل مؤسف لجهات ليست بريئة وليست في مستواه ولا تخدم كيانه ككاتب وليس كحزب في فرد واحد له نوايا لا علاقة له بجوهر الإبداع . لا يمكن أبدا أن يكون هذا الموقف جامعا مانعا ، ثمة استثناءات رائعة أنقذت الرواية من مأزق حقيقي بفعل التبئير على جماليات جاهزة لم تدرك بنباهة الفنان المثقف الذي له عينه ومداركه المعرفية التي تؤهله لتحقيق استقلالية ولو نسبية تميزه عن الآخر وعن عن نفسه أيضا وقد كان للسرد المدرسي الناقل دور مهم في الإطاحة بالرواية وإفراغها من عمقها وكينونتها، ومن الرؤية الخاصة بمعزل عن لغة الأجهزة، وهذا يعني أن كثيرا من الكتاب ركنوا إلى الكسل مكتفين باستهلاك آراء الغير وطروحاتهم وأشكالهم التعبيرية التي ظلت عاجزة عن نقل \” الواقع \” أو الواقع الممكن، وهكذا انحط السرد إلى الدرك الأسفل، ولم تعد مجموعة السرود المتداولة سوى معاودات متآكلة من فرط الاستعمال.
أي سرد استثنائي قدمته الرواية الجزائرية الجديدة؟ نشير في هذا المقام لأن محاولة التفرد التي اتكأت على استيراد سرود الآخرين، باستخفاف شديد، ليست بالضرورة خطوة نحو الحداثة لأنها غير مقطرة كما ينبغي، وبإمكاننا وضعها في خانة السرقات لأنها تمثل حداثة الآخر جملة وتفصيلا.
إننا لا نتحدث عن التناص لأنه ضرورة، فالحياة كلها تناص مركب ومعقد بدءا بالجزئيات الذرية المكونة للوجود المادي مرورا إلى المجردات، إنما تؤسس لطرحنا انطلاقا من النقل الحرفي – الأفقي لمنواليات متجاوزة هناك وغير مستوعبة هنا. والظاهر للعيان أن هناك سوء تقدير للظروف التي أنتجتها، وهي ظروف خاصة لها مقوماتها وأسسها الفكرية والأخلاقية والحضارية والذاتية، وهذا مهم، لكن \” هذا المهم \” ظل عصي الإدراك. لقد استوردنا ماركس وفونكر وبروست وماركيز وشي غيفارا، واستوردنا الخميني جاهزا، وسنستورد طروحات العولمة المتوحشة أو ثورة أسامة بن لادن، وقد يكون هذا الأمر جيدا، لكننا سنقلدمهم بشكل فاسد لأننا لا نعي مرجعياتهم، وسيبقى هذا الشكل التقليدي فاسدا حتى إذا وعينا هذه المرجعيات، لذا حل الآخر محل الأنا، لقد ذابت الذات وانصهرت في أنظمة من العلامات ولم يكن بمقدورها الخروج من السجن الكبير الذي بنته لنفسها. ثمة محاكاة خرقاء ومداورات ناقلة. مع العلم \”أن الخبرة الفنية هي الأساس الذي يتجلى من خلاله اندماج الإنسان على نحو مباشر في العمل الفني\” (6)
يبدو لنا أن أزمة الجزائر عادت سلبا على الكتابة، وقد أثر موضوع الأزمة على الحداثة ذاتها، إذ أن تبعية الكاتب للآلة الجهنمية المنحطة التي برمجتها المرحلة أفقدته الإطاحة بالأسس – النويات لهذه الحداثة، أي الروح والإنسان والمادة واللغة، وإذ نؤكد على عنصر اللغة فلأنه الأداة الوحيدة التي مافتئت تجرب وتعيد التجربة من أجل الوصول إلى المعرفة المستحيلة، وهنا تكمن عبقريتها، لأن اللغة هي الدولة الوحيدة الخالدة رغم أنها دولة من العلامات المتحولة كان علينا تقديرها حق قدرها، المؤكد أن الرواية أخفقت حيث نجح الشعر، لقد أغفلت اللب واكتسحها الشارع ولغته، وأي شارع؟ بصرف النظر عن الأدلجة المملة التي احتوت الجملة، لغة وسردا فإن هذا الحيز الظرفي في أنتج خصوصياته، وهي خصوصيات قد لا تخدم العمل الفني لأنها منشغلة بخدمة أهداف أخرى لتمتين عوامل وجودها. نؤكد ثانية بأن هذه لأهداف متحولة وغالبا ما تكون في حالة انفصالية قصوى مع كل ما هو فكري أو أدبي، لأن بناء العلامة، في حالة كهذه، له مرجعية محدودة وعارية. إن الحديث عن الأزمة ليس مشكلة ، وتجليات الأزمة ليست الوضع – الغاية، وكل تركيز عليها يصبح خضوعا، أي إساءة للمتخيل، للتجاوز، لكرامة الفكر ولا مكانية انبثاق معنى آخر غير المعنى المكدس في الطرقات.
أصبحنا نعرف أن إساءة الفهم انتصار للغة أو كما يقول فانسان ليتشن: \” إن الأزمات اللغوية والفجوات البلاغية تنتشر في النص مستمدة قوتها من سطوة النحو. وحيث أن الإحالة نتاج النحو والبلاغة، وحيث يفعلان ما يحلو لهما بالمحال إليه، فإن إمكانية ظهور المعنى أو الحقيقة يتم تأجيلها بعبارة أكثر تحديدا، إن النصوص غير قابلة للقراء، والتفسير الحرفي حلم، وكل التفسيرات، في ظل بلاغية اللغة، خاطئة . (7)
ثمة ثلاثة عناصر مهمة في هذه المقولة: اللغة البلاغية، المرجع، سنعود إليها في دراسات لاحقة انطلاقا من الرواية الجزائرية \” الحديثة \”، وسندرك أن هناك أعمال روائية قليلة أدركت معنى الرواية، وليس الحقيقة. لأن الحقيقة هي الموت، من المنظور المادي المتداول، أما الحقائق الأخرى والمرجعيات فهي أوهام مضرة أحيانا، هناك حقيقة الواقع وحقيقة السرد وحقيقة الشخصية وحقيقة الكاتب والسياسي والفيزيائي والطبيب والمتشرد والفيلسوف والمجنون، وبالمقابل هناك الزمان والمكان وزاوية النظر إلى أية حقيقة خارجية، لذلك، قد تصبح العلوم الدقيقة وهما ما دامت هناك حركة، كل شيء قابل للانحراف ما دام الإنسان على قيد التفكير في الوجود. وليس من الصعب استنتاج مدى انغماسنا في قناعات خطرة قادرة ليس على اغتيال الرواية وحسب، وإنما على محو البصيرة والحياة.
نشير هنا إلى مستويات التعامل مع الإرث، أي إرث مهما كان: ثقافيا، اجتماعيا، دينيا. وإذا قلنا \” تعامل \” فمعنى ذلك أننا أدخلنا نصيب الذات في النظر إلى … لذا نصبح أمام مؤسسة تأويلية معقدة: هناك الواقع الفرضي، والاستقبال الفرضي ثم الكتابة فالقراءة الفرضية وهكذا. وهو ما فعله بازين خلافا لدارسي الواقعية الجديدة في إيطاليا، عندما أشار إلى ضرورة البحث عن شكل جديد للواقع \” يفترض أنه واقع مشتت، إضماري، مبهم أو مرتج، فاعل بوصفة كتلة، تسوده علاقات واهية عن عمد، وأحداث عائمة رجراجة. لم يعد الواقعي مصورا كما هو أو منسوخا، وإنما \”مستهدفا\”.
أما ما حدث للرواية \” الحداثية \” في الجزائر، التي انصهرت في \” الأزمة \” فغالبا ما اتكأت على النسخ، بمفهومها الآلي، الأمر الذي أبرز محدوديتها وانغلاقها على مستويات كثيرة: اللغة، الأساليب، القراءة، المتخيل، والحلل أن هناك سوء فهم للعلاقة بين الواقع والأدب، فالأزمة ليست أدبا، إنما موضوع له، وما يهمنا ليس أزمة المجتمع، إنما أزمة الأدب في كيفية تعامله مع أزمة المجتمع، وحتى كلمة أزمة لا تخلو من النسبية. لأن الحر بنعمة للآخر وليست أزمة، وعلينا أن نتصور وجهة نظر \” هذا الآخر \”، لنتفترض أن \” إرهابيا \” يكتب رواية، المؤكد أنه سينظر إلى \” الأزمة \” بمرجعيات مختلفة، متناقضة، مهووسة، وسنعتبرها نحن الأسوياء كتابة لا عقلية، سلفية، مرضية، عصابية، بمفهوم فرويد، وعلينا لأن نضعها تحت سلطة \” خطاب الأمراض العقلية \” كما يشير إلى ذلك ميشال فوكو، ببعض السخرية والجنون.
وخاتمة كل هذا الجدل أننا نكون قد أغفلنا القارئ ، أو احتقرناه، أو نصبنا أنفسنا معلميه الذين يملكون العلم كله. \” إن نصا في حال ظهوره من خلال سطحه ( تجليه ) اللساني، يمثل سلسلة من الحيل التعبيرية التي ينبغي أن يفعلها المرسل إليه.\” (9) أما خارج الحيل التعبيرية فهناك الموضوع والرائي، ومن العبث التأسيس لحداثة حقيقية بحيل غيرته، وبلغة لا تدرك قيمة فقه اللغة، أو بلغة لا تولي اهتماما خاصا لخطر اللغة الشمولية إن لم تستغل أنظمتها وفق إدراك حاد لتصنيفاتها التعسفية، إذ \” تشكل كلغة، بوصفها نظام قيم، إيديولوجية مهيمنة تؤدي بالإنسان إلى التبعية والانغلاق ضمنها\” (10)
عودة إلى السرد
نعتقد أن السرد وعي بالظاهرة البلاغية، ويشكل بمفرده القسم الأكبر من جماليات الخطاب لأنه ليس أداة ناقلة، طريقة تبسيطية لتشكيل الحكاية، وإنما إحدى غايات الكتابة في مواجهة ألم القول وللتصدي للرتابة والمعيار والذات.
وقد لاحظنا بكثير من الحذر انه، وباستثناء أعمال روائية معدودة، من غير اللائق التنظير لكتابة مختلفة ما لم تأخذ في الحسبان أولوية السرد على الموضوعات – الغابات، ولا يمكن الوصول إلى روح السرد إلا بروح شاعرة عارفة. وللتدليل على النزعة النقلية نسوق عينتين بسيطتين، وسنعود إلى الاستشهاد بنصوص جديدة قصد إبراز الفجوات الممكنة التي غالبا ما تطفو نتيجة التعال \” البري \” مع أشكال سردية لا تدخل في صميم تجربة الكاتب وقناعاته الحقيقية.
أ – المفارقات السردية :
إن هذه التقنية التي ذاع صيتها بعد الحرب العالمية الثانية، كممارسة نصية مفارقة، إن يستغلها المنظرون بطريقة غاية في الأناقة: جيرار جينيت، يول ريكو، جان ريكاردو، أربيريس وغيرهم، هي تقنية لم تولد قسرا، ولم تأتي أبدا بسبب ترف ذهني أو لغاية استعلائية، وإنما كانت وليدة علاقة سببية متشابكة بين \” الواقع \” والتاريخ والذات والنفس والروح والمادة، لذلك كونت نص عارفا كان حصيلة حضارات كاملة ظلت تجتهد، تكمل وتؤسس ثم تنفي بسبب المتغيرات الكثيرة، غير أنها لم تفرض صيغة إملائية منتهية. كان هناك تجاوز مستمر لأي شكل سردي يفقد وظيفته البنائية والدلالية.
لقد أثبت الواقع المتوتر أن السرد المدرسي لا يستطيع احتواءه، وأسهم تصدع القيم في تصدع قناعات الكتاب وعزوفهم عن بعد دور المتفرج، كما هو الحال بالنسبة للمنحى الكلاسيكي، وهكذا تزعزع النص دون أن يفقد شخصيته، بل كان في كل مرة يحقق ذاته الجديدة بكثير من الخبرة والوعي. لم يكن ذلك موضة، ولا رفضا ساذجا للكتابة السابقة كما نتوهم، إنما تولد هذا الاختلاف كحتمية، مثله مثل السرد المتوحش الذي زعزع هدوء السرد وانضباطه المبالغ فيه أحيانا، ومن ذلك طابعه الرسمي جدا وقفزه على الذات.
سندرك جيدا، عندما نفكك السرد الغربي، أنه ليس تقنية محض شكلية، إنما دلالة – موضوع حاملة لدلالة أخرى، بشكل آخر، فإن السرد في حد ذاته يصبح دالا ومدلولا في الوقت ذاته، إضافة إلى حفنة شحنات دلالية أخرى مرتبطة بالموضوع المبأر، وهنا تكمن العلاقة الجميلة بين السرد والمسرود، وهي علاقة احتوائية متبادلة، متكاملة، متناغمة وضرورية. ونحن نعتقد أن نماذج روائية كثيرة ظهرت في الستين الأخيرة مناسقة، تابعة، مفرطة، في التقليد السطحي لمنواليات سردية لم تتأصل بعد ن أما نتيجة الاستقبال السيئ، إما نتيجة التسرع، وإما لعدم إدراك الكاتب بأن أية تقنية لها جذورها وأبعادها وأيديولوجيتها في حالات أخر. إن انتقال هذه المفارقات إلى النص جاء مفرغا من مبررات وجوده، معزولا عن تربته، مفصولا عن الموضوعة وثقافة المؤلف لينمو مريضا قلقا في مناخ لم يوفر له أجواء الاستمرار. مع ذلك تؤكد على الطابع الاستثنائي لروايات عارفة أدركت جيدا ما تفعله، كما انتبهت لحذق ناذر إلى مسألة الكيفية واللمية، مما يجعلها تتبوأ لاحقا المسيرة المشرقة للراية الجزائرية.
السرد المكرر
أطلق أبو عثمان الجاحظ مصطلح المعاودة على هذا النوع، وهو أدق من صفة المكرر لما تحمله من سلبية. وقد عرف هذا السرد انتشارا بينا في العشريات الأخيرة لما له من أهمية من حيث: تقوية الدلالة، توجيه التبئير، إبراز الجمل – الأنوية، التأكيد على أهمية الموضوعية أو المقطوعة أو الجملة …إلخ، وقد وجد هذا السرد في أقدم الكتابات الحثية على وادي الرافدين بالعراق، كما يتضح في ملحمة جلجامش. وقد عالج د. قاسم المقداد هذه الظاهرة بعناية فائقة في كتابه: هندسة المعني في ملحمة جلجامش .(11) وإذا كان هناك من استغله بحكمة المبدع العارف فإن روايات كثيرة استولت عليه من دون غاية وظيفية منافية، والسبب أن موجة \” الموضة \” هي التي كانت تفكر وتكتب وتنظر، الشيء ذاته بالنسبة لهدم الخطة بحجة تحديث البناء وتطويره، من دون سابق معرفة بالعلاقة المركبة بين الذات والبناء، بين الوضع والمحتوى، بين الحركة والشكل المعبر عن هذه المنظومة العلامية المعقدة.
نعتقد بنية خالصة، إن السرديات الجزائرية الحالية المتمثلة \” بالجبل الجديد \” لها طاقة مهمة على إعادة النظر في كيفية التبليغ، وخاصة جزئيات الأشكال السردية المهيمنة: لغة السرد، موضوعه، متخيله، بنيته، وضعه، بعده، والسبب يعود إلى أن هذه الأشكال المتداولة فيها بعض افتعال، صنعة غير نابعة عن قناعة فنية أصيلة تدخل أساسا في ثقافة المبدع وممارسته اليومية رغم وجود نماذج روائية جيدة وأصيلة. ومع ذلك نشير إلى الخطر القادم المتمثل في تراكم بدائل صنمية بدليل تواتر الموضوعات نفسها وانحسار القاموس اللغوي الآيل إلى فرض سلطة زائفة وفقيرة، الأمر الذي جعل الإنزياح البديل معيارا به خواء جراء فقر المحرف اللغوي، بتعبير دوستويفسكي.
والأرجح أن هناك كتابا من الموجة الجديدة لم يستوعبوا أسباب تبوأ السرد الهزيل – التبعي في فترة سابقة لا يمكن إدانتها كتجربة لها فجواتها وإيجابياتها التي لا تعد. وقد أعطت هذه الفترة – الضحية سرودا لم يبلغها السرد الحالي رغم استفادته الكبيرة من التقنيات الغربية، غير أن مسألة \” معرفة السرد \” أو معرفة القول ما تزال مطروحة بشكل ستدعي فتح نقاش أكاديمي نزيه يتناول مستقبل الرواية الجزائرية انطلاقا من حاضرها، وهذا الأمر يتطلب شيئا من التواضع والنقد الذاتي وسحر القص وممكنات المتخيل حتى لا نسهم في خنق السرد وتسييسه، أو الخلط بينه وبين واقع فظ ن ومن ثم تضيق المنظور الفني إلى حده الأقصى بسبب التعامل مع مؤسسات ظرفية.
موت السرد
يقودنا هذا الطرح الحيادي لمشكلية السرد المنتشر حاليا إلى التفكير في إمكانية موت السرد الفني. إن روايات حالية، وسابقة أيضا، ليست سوى توأم لأغنية الراي، أو أغنية الراب، كما صرح بذلك الروائي طاهر وطار.
ليس من مصلحة السرد الوقوع في منحى سديمي لا يضمن له سوى تواجده الظرفي، كونه سردا استهلاكيا معبرا عن مرحلة انتقالية متحولة، وهذا ما يجعله خاضعا للعرض والطلب، خاصة عندما يضحي بمقوماته الجوهرية من أجل هدف سيعمل على تقويضه نهائيا، وذلك ما سيحدث لرواية كثيرة بعد سنوات قليلة. وإذا استمر السرد خادما طيعا للحظة والشعار سيشهد سقوطا أكيدا. وقد بدأت ملامح هذا السقوط تتجلى في بنياته المهزوزة وفي لغته الهشة ذات النزعة الواقعية الناقلة. ونحن نعرف أن الواقعية ليست أكثر من وهم، لأن الواقع والأدب يتجاوران ولا يتناغمان أبدا، أما إذا حدث العكس فإن ذلك يعني حلول الفن محل الواقع والتاريخ والصحافة . لقد قال سارتر : \” الواقع هو العين التي تراه.\” ولا يمكن، مهما كانت الحجج، الاختباء في متاريس الراهن لتبرير سقوط بعض السرود إلى مستوى سوقي لأن \” اللغة السردية \” التي ولجت العالم النصي لا يمكنها لأن تعالج الواقع العليل بعلة أخرى أكثر ضررا إن نحن نظرنا إليها من المستقبل وليس من الآن.
لا يحق للأدب الجيد أن يترك المرحلة تتحكم فيه عوض أن يتحكم فيها، وليس من صلاحياته القيام بوظيفة مدرسة متخصصة في محو الأمية، على السرد أن يوثث نفسه كما يقول إيطالو كالفينو في كتابه: ست وصايا للجيل القادم. أي عليه أن يفكر في الحمولة المعرفية لتجاوز مرحلة الخواء التي تلازمه.
إحالات :
(1) عولجت مسألة الجيل في الجزائر باستخفاف بين لا ضوابط له. والمعروف أن كبار الباحثين العالميين يركزون على المتغيرات والحدود العظمى التي تميز حقبة عن أخرى. ومن العبث حصر جيل كامل في مدة لا تتعدى عشر سنوات.
(2) لم نشر إلى الحداثة تفاديا للفهم السيئ المنتشر حاليا، لأن هذه الكلمة ليست لعبة أطفال، أنظر في هذا الموضوع كتاب: رايموند ويليامز، طرائف الحداثة ترجمة فاروق عبد القادر، عالم المعرفة، عدد 246، الكويت .1999
(3) أنظر: جان سيرفوني، الملفوظية، ترجمة د . قاسم مقداد، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1998 ، ص ن 27 ..35
(4) القول الفظ، من المنظور الأسلوبي، هو أي قول مستهلك يستعمله القاصي والداني.
(5) ميخائيل عيد: أسئلة الحداثة بين الواقع والسطح، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1998 ، ص ن 6
(6) د. شاكر عبد الحميد ن التفصيل الجمالي، دراسة في سايكولوجيا التذوق الفني، عالم المعرفة ن الكويت، عدد 267 ، 2001 ، ص 125
(7)عن د. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، إبريل 1998 ، ص ، 394
(8) جيل دولوز، الصورة-الزمن، ترجمة حسن عودة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق1999 ، ص ، 3
(9) أمبيرتو إيكو، القارئ في الحكاية ترجمة أنطوان أبو زيد المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء ، 1996 ، ص ن 61
(10)فرانك إيفراء ، أريك تينه ، رولان بارث ، مغامرة في مواجهة النص ، ترجمة د.وائل بركات- دار الينابيع، دمشق، 2000 ، ص ، 36
(11) راجع د. قاسم مقداد، هندسة المعنى في السرد الأسطوري الملحمي – جلجامش – دار السؤال للطباعة، دمشق، 1984 ، ص ، ص 147..165
*(عبد الحميد بن هدوقة)