المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

السلطة والقيم الأخلاقية والمثقف: حوار مع ميشيل فوكو

بقلم حسام جاسم

مايكل بُيس: لقد كنت تقول منذ لحظة أنك فيلسوف أخلاقي….

ميشيل فوكو: بمعنى ما، أنا فيلسوف أخلاقي بقدر ما أعتقد أن إحدى معاني الوجود الإنساني – مصدر الحرية البشرية – من أهم المهام، ألا تقبل أبدًا أي شيء على أنه نهائي، أو لا يمكن المساس به أو واضح أو ثابت. لا ينبغي السماح لأي جانب من جوانب الواقع بأن يصبح قانونًا نهائيًا وغير إنساني بالنسبة إلينا.

علينا أن ننتفض ضد كل أشكال السلطة – ولكن ليس فقط السلطة بالمعنى الضيق للكلمة، حيث الإشارة إلى سلطة حكومة أو مجموعة اجتماعية على أخرى: هذه ليست سوى أمثلة قليلة معينة من السلطة.

السلطة هي أي شيء يميل إلى الثبات والاستقرار ولا يمكن المساس به، حيث تقدم لنا تلك الأشياء على أنها أشياء حقيقية وصحيحة وخيره.

مايكل بُيس: لكننا مع ذلك بحاجة إلى تحديد الأمور، حتى لو كان ذلك بشكل مؤقت.

ميشيل فوكو: بالتأكيد، بالتأكيد. هذا لا يعني أنه يجب على المرء أن يعيش في انقطاع إلى أجل غير مسمى. لكن ما أعنيه هو أنه يجب على المرء أن يأخذ في الاعتبار جميع نقاط التثبيت، وشل الحركة، كعناصر في التكتيكات، وفي الاستراتيجية – كجزء من محاولة لإعادة الأشياء إلى حركتها الأصلية، وانفتاحها على التغيير.

كنت أخبرك في وقت سابق عن العناصر الثلاثة في أخلاقي، هم:

١. رفض قبول الأشياء المقترحة التي تُعرض علينا على أنها بديهية؛

٢. الحاجة إلى التحليل والمعرفة؛ لأننا لا نستطيع تحقيق أي شيء دون تفكير وفهم – وبالتالي، هذا مبدأ الفضول؛

٣. مبدأ الابتكار: أن نبحث في تفكيرنا عن تلك الأشياء التي لم يتم التفكير فيها أو تخيلها من قبل. بالنتيجة إذن: الرفض، والفضول، والابتكار.

مايكل بُيس: يبدو لي أن المفهوم الفلسفي الحديث للذات (subject)(٤) ينطوي على هذه المبادئ الثلاثة. وهذا يعني أن الاختلاف بين الموضوع (object)(٥) والذات (subject) هو على وجه التحديد أن الموضوع قادر على الرفض وإحداث الابتكار. فهل عملك يهجم على الميل (النزعة) لتجميد فكرة الذات؟

ميشيل فوكو: ما كنت أوضحه هو مجال القيم الذي أضع فيه عملي. لقد سألتني من قبل إذا لم أكن عدميًا يرفض الأخلاق. أنا أقول: لا! وكنت تسألني أيضًا، في الواقع، “لماذا تقوم بالعمل الذي تقوم به؟”

فيما يلي القيم التي أقترحها. أعتقد أن النظرية الحديثة للذات، الفلسفة الحديثة للذات، قد تكون قادرة على منح الذات قدرة على الابتكار، إلخ.، ولكن في الحقيقة، الفلسفة الحديثة لا تفعل ذلك إلا على المستوى النظري. في الواقع، إنها غير قادرة على ترجمة هذه القيمة المختلفة إلى ممارسة، والتي أحاول تفصيلها في عملي الخاص.

مايكل بُيس: هل يمكن أن تكون السلطة شيئًا منفتحًا وسلسًا، أم إنها قمعية في جوهرها؟

ميشيل فوكو: لا ينبغي فهم السلطة على أنها نظام قمعي يضغط على الأفراد من فوق، ويضربهم بمنع وحظر هذا أو ذاك؛ السلطة هي مجموعة من العلاقات.

ماذا يعني ممارسة السلطة؟ لا يعني ذلك التقاط جهاز التسجيل هذا وإلقائه على الأرض. لدي القدرة على القيام بذلك – ماديًا وجسديًا ورياضيًا، لكنني لن أمارس السلطة إذا فعلت ذلك. ومع ذلك، إذا أخذت هذا الشريط المسجل ورميته على الأرض لإثارة غضبك، أو حتى لا يمكنك تكرار ما قلته، أو الضغط عليك حتى تتصرف بطريقة كذا وكذا، أو تخويفك – حسنًا، ما فعلته، عبر تشكيل سلوكك من خلال وسائل معينة، هذه هي السلطة.

وهذا يعني أن السلطة هي علاقة بين شخصين، وهي علاقة ليست بنفس ترتيب التواصل (حتى لو كنت مجبرًا على أن تكون أداة التواصل الخاصة بي). إنها ليست مماثلة لقولك “الطقس لطيف” أو “لقد ولدت في تاريخ كذا وكذا”.

حسنا. أنا أمارس السلطة عليك: أنا أؤثر في سلوكك، أو أحاول القيام بذلك. وأنا أحاول توجيه سلوكك، لقيادة سلوكك. من الواضح أن أبسط وسيلة للقيام بذلك هي أخذ يدك وإجبارك على الذهاب هنا أو هناك. هذه هي حالة النهاية، درجة الصفر من السلطة. وفي الواقع، في تلك اللحظة، تتوقف السلطة عن كونها سلطة وتصبح مجرد قوة جسدية.

من ناحية أخرى، إذا استخدمت عمري، وموقفي الاجتماعي، والمعرفة التي قد تكون لدي حول هذا أو ذاك، لأجعلك تتصرف بطريقة معينة – وهذا يعني، أنا لا أجبرك على الإطلاق وسأتركك حرّاً تمامًا – عندها أبدأ في ممارسة السلطة. من الواضح أنه لا ينبغي تعريف السلطة على أنها قانون عنف مقيد يقوم بقمع الأفراد، أو إجبارهم على فعل شيء ما أو منعهم من فعل شيء آخر. ولكنها تحدث عندما تكون هناك علاقة بين ذاتين حرتين، وهذه العلاقة غير متوازنة، حيث يمكن لأحدهما اتخاذ إجراء بشأن الآخر، والآخر يقوم بالتصرف بناءً عليه، أو يسمح لنفسة بالتصرف على أساسه.

لذلك، السلطة ليست قمعية دائمًا. يمكن أن تأخذ عددًا معينًا من الأشكال. ومن الممكن أن تكون هناك علاقات سلطة مفتوحة.

مايكل بُيس: علاقات متكافئة؟

ميشيل فوكو: غير متكافئة أبدًا؛ لأن علاقة السلطة هي عدم المساواة. لكن يمكن أن يكون لديك أنظمة سلطة قابلة للعكس.

الآن، خذ على سبيل المثال ما يحدث في العلاقة الإيروتيكية- أنا لا أتحدث حتى عن علاقة حب، مجرد علاقة إيروتيكية جنسية. أنت تعلم الآن جيّدًا أنها لعبة سلطة، وأن القوة البدنية ليست بالضرورة أهم عنصر فيها. كلاكما لديه طريقة معينة للتصرف على سلوك بعضكما البعض، وتشكيل وتحديد هذا السلوك. يمكن لأحدكما استخدام هذا الوضع بطريقة معينة، ثم إحداث معكوس دقيق مقابل الآخر.

حسنًا، لديك شكل محلي خالص من السلطة القابلة للعكس.

علاقات السلطة في حد ذاتها ليست أشكال من القمع. لكن ما يحدث هو أنه في المجتمع، في معظم المجتمعات، يتم إنشاء المنظمات لتجميد علاقات السلطة، وإبقاء تلك العلاقات في حالة من عدم التناسق، بحيث يحصل عدد معين من الأشخاص على المميزات، اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا ومؤسساتيًا، إلخ.

وهذا يؤدي إلى تجميد الوضع تمامًا. هذا ما يسميه المرء السلطة بالمعنى الدقيق للمصطلح: إنها نوع معين من علاقات السلطة التي تم إضفاء الطابع المؤسسي عليها، وتجميدها، وشل حركتها، لصالح البعض وعلى حساب الآخرين.

مايكل بُيس: لكن هل كلا الجانبين في العلاقة ضحية لها؟

ميشيل فوكو: أوه، لا على الإطلاق! سيكون من المبالغة بعض الشيء القول إن أولئك الذين يمارسون السلطة هم ضحايا. بمعنى ما، من الصحيح أنه يمكن أن يقعوا في الفخ، من خلال ممارستهم للسلطة – لكنهم ليسوا الضحايا مثل الآخرين. جرب بنفسك ….. سترى. [يضحك]

مايكل بُيس: إذن، هل تتماشى مع موقف الماركسيين؟

ميشيل فوكو: لا أعلم. كما ترى، لست متأكدًا من أنني أعرف ما هي الماركسية حقًا – ولا أعتقد أنها موجودة، كشيء مطلق. إن سوء حظ ماركس أو حظه الجيد هو أن مذهبه قد تم تبنيه بانتظام من قبل المنظمات السياسية، وهي في نهاية المطاف، النظرية الوحيدة التي ارتبط وجودها دائمًا بالمنظمات الاجتماعية السياسية التي كانت قوية للغاية، ومتقلبة للغاية – حتى لدرجة أن تصبح جهازًا للدولة -.

لذلك، عندما تذكر الماركسية، أسألك أيها تقصد – تلك التي يتم تدريسها في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الماركسية – اللينينية)(Marxism-Leninism)(٦)؛ أو مفاهيم المشعّثون الغامضة والمبهمة، والفاسدة التي يستخدمها شخص مثل جورج مارشيه Georges Marchais))(٧)؛ أو مجموعة جسد العقيدة (the body of doctrine) (٨) التي تعمل كنقطة مرجعية لبعض المؤرخين الإنجليز؟ بعبارة أخرى، لا أعرف ما هي الماركسية.

أحاول أن أتصارع مع موضوعات تحليلي الخاص، وعندما يحدث ذلك، أستخدم مفهومًا يستخدمه أيضًا ماركس، أو الماركسيون – مفهوم مفيد، مفهوم مقبول – حسنًا، حيث كله مثل بعضة بالنسبة إلي.

لطالما رفضت اعتبار التوافق المزعوم أو عدم التوافق مع الماركسية عاملاً حاسماً لقبول أو رفض ما أقوله. لم أكن أهتم كثيرا. [….]

مايكل بُيس: هل لديك أي أفكار حول نظام السلطة، لترتيب هذه الكتلة من البشر على هذا الكوكب – نظام حكم لن يصبح شكلاً من أشكال السلطة القمعية؟

ميشيل فوكو: يمكن أن يتخذ برنامج السلطة ثلاثة أشكال.

من ناحية: كيفية ممارسة السلطة بأكبر قدر ممكن من الفعالية (من حيث الجوهر، كيفية تعزيزها)؟ أو، من ناحية أخرى، الشكل العكسي: كيفية قلب السلطة، ما هي النقاط التي يجب الهجوم عليها لتقويض بلورة معينة للسلطة؟ وأخيرًا، الشكل الأوسط: كيف نحد من علاقات السلطة مثلما تتجسد وتتطور في مجتمع معين؟

حسنًا، الشكل الأول لا يهمني: صنع برنامج سلطة لممارسته بشكل أكبر. الشكل الثاني مثير للاهتمام، لكنه يلفت نظري أنه يجب النظر إليه بشكل أساسي مع مراعاة أهدافه الملموسة، الصراعات التي يرغب المرء في خوضها. وهذا يعني بالضبط أنه لا ينبغي للمرء أن يجعل منها نظرية مسبقة.

أما بالنسبة إلى الشكل الأوسط – ما هي شروط المقبولة للسلطة؟ – فأقول إن هذه الشروط المقبولة لممارسة السلطة لا يمكن تحديدها مسبقًا. إنها ليست أبدًا أي شيء سوى نتيجة لعلاقات السلطة داخل مجتمع معين.

في مثل هذه الحالة، يحدث أن بعض الاختلال في التوازن في علاقات السلطة يتم التسامح فيه فعليًا من قبل ضحاياها، أولئك الذين هم في وضع معارض لفترة من الزمن. هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن مثل هذا الوضع مقبول. إنهم يدركون ذلك على الفور، وهكذا – بعد بضعة أيام وسنوات وقرون – ينتهي الأمر بالناس دائمًا بالمقاومة، وهذه التسوية القديمة لم تعد تعمل. هذا كل شيء. لكن لا يمكنك تقديم صيغة نهائية للممارسة المثلى للسلطة.

مايكل بُيس: تقصد أن شيئًا ما يتجمد أو يتحجر في العلاقات بين الناس، وهذا يصبح، بعد وقت معين، لا يطاق؟

ميشيل فوكو: نعم، على الرغم من أنه يحدث أحيانًا على الفور. علاقات السلطة، كما هي موجودة في مجتمع معين، فهي ليست سوى تبلور لعلاقة قوة. ولا يوجد سبب يدعو إلى صياغة تبلور علاقات القوة كنظرية مثالية لعلاقات السلطة.

يعلم الله أنني لست بنيويًا أو لغويًا (أَلْسُنيّ) أو أيًا من ذلك، لكن كما ترى، يبدو الأمر كما لو أن النحوي أراد أن يقول: “حسنًا، إليك كيفية التحدث باللغة، وإليك الطريقة التي يجب أن تتحدث بها الإنجليزية أو الفرنسية”. لكن لا!، يمكن للمرء أن يصف كيف يتم التحدث بلغة ما في لحظة معينة، ويمكن للمرء أن يقول ما هو مفهوم وما هو غير مقبول وغير مفهوم. وهذا كل ما يمكن للمرء أن يقوله. لكن هذا لا يعني، من ناحية أخرى، أن هذا النوع من العمل على اللغة لن يسمح بالابتكارات والتجديد.

مايكل بُيس: إنه موقف يرفض التحدث بعبارات إيجابية، باستثناء اللحظة الحالية.

ميشيل فوكو: بدءًا من اللحظة التي يتصور فيها المرء السلطة كمجموعة من علاقات القوة، لا يمكن أن يكون هناك أي تعريف برمجي للحالة المثلى للقوى – ما لم ينحز المرء بالطبع إلى أحد الأطراف قائلاً: “أريد العرق الأبيض والآري (Aryan)(٩) النقي لتولي السلطة وممارستها”، أو خلاف ذلك، “أريد أن تمارس البروليتاريا (proletariat)(١٠) السلطة وأريدها أن تفعل ذلك بطريقة شاملة”. في تلك اللحظة، نعم، يتم تقديمة: كبرنامج لبناء السلطة.

مايكل بُيس: هل من الجوهري لوجود البشر أن ينتج عن تنظيمهم شكل قمعي من السلطة؟

ميشيل فوكو: أوه نعم. بالطبع. بمجرد أن يكون هناك أشخاص يجدون أنفسهم في وضع (داخل نظام علاقات السلطة)، حيث يمكنهم التصرف مع الآخرين، وتحديد حياة وسلوك الآخرين. حسنًا، لن تكون حياة هؤلاء الأشخاص الآخرين حرة جدًا. نتيجة لذلك، اعتمادًا على عتبة التسامح، اعتمادًا على الكثير من المتغيرات، سيكون الوضع مقبولًا إلى حد ما، لكنه لن يتم قبوله تمامًا أبدًا. سيكون هناك دائمًا من يتمرد ويقاوم.

مايكل بُيس: اسمح لي أن أعطي مثالاً مختلفًا. إذا أراد طفل الخربشة على جدران المنزل، فهل سيكون منعه من القيام بذلك قمعيًا؟ في أي نقطة يقول المرء، “هذا يكفي!”؟

ميشيل فوكو: […] إذا قبلت صورة السلطة التي يتم تبنيها بشكل متكرر – أي إنها شيء مروع وقمعي للفرد – فمن الواضح أن منع الطفل من الخربشة على الجدران سيكون استبدادًا لا يطاق. لكن هذا ليس كل شيء: أقول إن السلطة علاقة. علاقة يوجه فيها المرء سلوك الآخرين. وليس هناك سبب يجعل هذه الطريقة في توجيه سلوك الآخرين لا تؤدي في النهاية إلى نتائج إيجابية وقيمة ومثيرة للاهتمام وما إلى ذلك. إذا كان لدي طفل، أؤكد لك أنه لن يكتب على الجدران – أو إذا فعل ذلك، فسيكون ذلك ضد إرادتي. الفكرة ذاتها!

مايكل بُيس: إنها إشكالية… شيء يجب على المرء أن يتساءل عنها باستمرار.

ميشيل فوكو: نعم، نعم! هذا هو بالضبط! لا ينبغي أبدًا أن تكون ممارسة السلطة أمرًا بديهيًا. ليس لأنك أب فهذا يعني أن لديك الحق في صفع طفلك. في كثير من الأحيان حتى من خلال عدم معاقبته، فهذه أيضًا طريقة معينة لتشكيل سلوكه. هذا مجال للعلاقات المعقدة للغاية، والتي تتطلب تفكيرًا غير محدود. عندما يفكر المرء في الرعاية التي تم من خلالها تحليل النظم السيميائية في مجتمعنا، من أجل الكشف عن قيمتها الدالة، كان هناك إهمال نسبي لأنظمة ممارسة السلطة. لم يتم إيلاء اهتمام كاف لتلك المجموعة المعقدة من العلاقات.

مايكل بُيس: موقفك يفلت باستمرار من التنظير. إنه شيء يجب تجديده مرارًا وتكرارًا.

ميشيل فوكو: إنها ممارسة نظرية، إذا صح التعبير. إنها ليست نظرية، بل طريقة لتنظير الممارسة. […..] في بعض الأحيان، لأن موقفي لم يتم توضيحه بما فيه الكفاية، يعتقد الناس أنني من النوع الأناركي الراديكالي الذي لديه كراهية مطلقة للسلطة. لا! ما أحاول القيام به هو التعامل مع هذه الظاهرة البالغة الأهمية والمتشابكة في مجتمعنا، وممارسة السلطة، الأكثر انعكاسًا، وأود أن أقول موقفًا حكيمًا. حكيم في تحليلي، في المسلمات الأخلاقية والنظرية التي أستخدمها: أحاول معرفة ما هو على المحك. ولكن للتشكيك في علاقات السلطة بأكثر الطرق الممكنة دقة وانتباهًا، والنظر في جميع مجالات ممارستها، فهذا ليس نفس الشيء مثل بناء ميثولوجيا السلطة كوحش نهاية العالم (أبوكاليبس) (apocalypse)(١١).

مايكل بُيس: هل هناك مواضيع إيجابية في مفهومك لما هو خير؟ عمليًا، ما هي العناصر الأخلاقية التي تبني عليها أفعالك تجاه الآخرين؟

ميشيل فوكو: سبق وأخبرتك: الرفض، الفضول، الابتكار.

مايكل بُيس: لكن أليست هذه كلها سلبية في المحتوى؟

ميشيل فوكو: الأخلاق الوحيدة التي يمكنك امتلاكها، فيما يتعلق بممارسة السلطة، هي حرية الآخرين. أنا لا أقول للناس، “مارسوا الحب بهذه الطريقة، أنجبوا أطفالًا، اذهبوا إلى العمل.”

مايكل بُيس: يجب أن أعترف، أجد نفسي ضائعًا بعض الشيء، بدون نقاط توجيه، في عالمك – لأن هناك الكثير من الانفتاح -.

ميشيل فوكو: انصت، انصت….. ما مدى صعوبة ذلك! أنا لست نبيًا؛ أنا لست منظماً؛ لا أريد أن أخبر الناس بما يجب عليهم فعله. لن أخبرهم، «هذا خيرٌ لك، هذا شرٌ لك!».

أحاول تحليل موقف حقيقي بتعقيداته المختلفة، بهدف السماح بالرفض والفضول والابتكار.

مايكل بُيس: وفيما يتعلق بحياتك الشخصية، فهذا شيء مختلف…

ميشيل فوكو: لكن هذا ليس من شأن أحد!

أعتقد أنه في صميم كل هذا، هناك سوء فهم حول وظيفة الفلسفة، والمثقف، والمعرفة بشكل عام: وهو، أن الأمر متروك لهم لإخبارنا بما هو خير.

حسناً، لا! لا، لا، لا! هذا ليس دورهم. لديهم بالفعل ميل كبير لأداء هذا الدور، كما هو. منذ ألفي عام كانوا يخبروننا بما هو خير، مع العواقب الكارثية التي ينطوي عليها ذلك.

هناك لعبة رهيبة هنا، لعبة تخفي فخًا، حيث يميل المثقفون إلى قول ما هو الخير، ولا يطلب الناس شيئًا أفضل من إخبارهم بما هو خير – وسيكون من الأفضل أن يبدؤوا في الصياح، “كم هو سيء”!

جيد، حسنًا، لنغير اللعبة. لنفترض أن المثقفين لم يعد لهم دور في قول ما هو خير. عندئذٍ سيكون الأمر متروكًا للناس أنفسهم، استنادًا إلى حكمهم على التحليلات المختلفة للواقع التي يتم تقديمها لهم، للعمل أو التصرف بشكل عفوي، حتى يتمكنوا من تحديد ما هو خيرٌ لهم.

ما هو الخير، هو شيء يأتي من خلال الابتكار. الخير غير موجود، من هذا القبيل، في السماء اللازمانية، مع أشخاص مثل منجمي الخير، الذين تتمثل مهمتهم في تحديد الطبيعة المواتية للنجوم، حيث يتم تعريف الخير من قبلنا، وتتم ممارسته، ويتم اختراعه. وهذا عمل جماعي.

هل هو أوضح الآن؟

هوامش المترجم:

١. المصدر الأصلي للنص، والذي تمت الترجمة منه the journal History of the Present 4 (Spring 1988), 1-2, 11-13

تم إجراء هذا الحوار في 3 نوفمبر 1980 بواسطة مايكل بُيس، طالب دراسات عليا في قسم التاريخ بجامعة كاليفورنيا، بيركلي، حيث كان فوكو في بيركلي لإلقاء محاضرات هويسون (الذاتية والحقيقة) في 20-21 أكتوبر 1980. ظهرت مقتطفات من هذا الحوار في مقال كتبه بُيس، ونشر في 10 نوفمبر 1980 في صحيفة ديلي الكاليفورنية الطلابية في بيركلي.. أجري الحوار باللغة الفرنسية وترجمه مايكل بُيس إلى الإنجليزية.

٢. مايكل بُيس/ (مواليد 1955) هو أستاذ التاريخ، وكذلك أستاذ علوم الاتصالات والتكنولوجيا، وأستاذ الدراسات الأوروبية في جامعة فاندربيلت، حيث كان يدرس منذ عام 1989، وهو متخصص في التاريخ الأوروبي في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين. مع اهتمام خاص بالتفاعلات بين العمليات الاجتماعية والثقافية والتغير التكنولوجي. حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة كاليفورنيا، بيركلي عام 1989.

من مؤلفاته:

– الكوكب في خطر: أعظم أربعة تحديات للبشرية وكيف يمكننا التغلب عليها.

– إعادة تصميم أحفادنا: الحياة في مجتمع الهندسة الحيوية في المستقبل القريب.

– اختيارات تحت النار: الأبعاد الأخلاقية للحرب العالمية الثانية.

– جمعية الضوء الاخضر: الايكولوجيا والحداثة التكنولوجية فى فرنسا 1960-2000

– الواقعية واليوتوبيا وسحابة الفطر: أربعة مفكرين نشطاء واستراتيجياتهم من أجل السلام، 1945-1989

موقع الرسمي للدكتور مايكل بُيس: https://michaelbess.net

٣. لقد تم أخذ الإذن والموافقة الرسمية من الدكتور مايكل بُيس لترجمة الحوار إلى اللغة العربية بواسطة حسام جاسم حصرًا. ونشره مجانًا ليستفيد منه الطلبة والباحثون العرب، حيث تظهر هذه الترجمة لأول مرة باللغة العربية (يعتبر هذا العمل، الثاني لي في ترجمة أعمال ميشيل فوكو غير المترجمة إلى العربية، حيث سأحرص على نقل ما لم ينقل إلى الآن من أعمال فوكو إلى العربية).

٤. الذات (subject)/ مصطلح يمكن إرجاع أصوله إلى فلسفة ديكارت، حيث سعى جاهداً في دحض دعاوى فلسفة الشك التي كان يذهب إليها معاصروه زاعمين أنه لا يمكن أن يوجد أمر يقيني. ورداً على هذا التصور أطلق ديكارت قولة الشهير (أنا أفكر، إذن أنا موجود) كمثال على المعلومة الوحيدة المؤكدة التي يتحتم ان تكون لدى أي كائن مفكر. لذلك، فإن الذات هي التي تفكر وهي التي يكسبها هذا التفكير بعض الخصائص الجوهرية التي تساعد في التعريف بها.

كذلك استخدم كانط مصطلح (الذات المتعالية) في فلسفته للدلالة على الشرط البنائي السابق على كل تفكير.

وترتبط كلمة الذات بما طرحه لاكان من تصور خاص للتحليل النفسي (حيث توضع الذات مقابل الأنا).

يضاف إلى ذلك، أن فكرة الذات تعرضت لمناقشات وانتقادات من قبل أنصار البنيوية(امثال ألتوسير، الذي يرى الذات ثمرة من ثمار الإيديولوجيا) ومن قبل أصحاب نزعة ما بعد البنيوية (أمثال فوكو الذي يذهب إلى أن الذات إنما هي نتيجة لعلاقات القوة وهو تصور مستمد من أفكار نيتشه).

وتشترك هاتان النزعتان في التصور الذي يرى الذاتية (أي صفة الذات) إنما تتكون بفعل القوى والعلاقات الاجتماعية وبتعبير آخر، إن مفاهيم الخاصة بالذاتية تتوقف على العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية.

لمعرفة المزيد يرجى مراجعة:

(أندرو إدجار وبيتر سيدجويك. ٢٠١٤. موسوعة النظرية الثقافية. ترجمة هناء الجوهري. المركز القومي للترجمة. ص ٣١٧).

٥. الموضوع (object)/ إن الموضوع بكلام أدق هو محتوى فكرنا ويقابل الذات المفكرة. ويدل الموضوع (كما هي الحال عند ديكارت) على إحساس أو شعور أفكر فيه أو على صورة في ذهني ولا يدل بالضرورة على شيء فعلي أو واقعي قائم في العالم.

وهناك ترابط بين الذات والموضوع بمعنى أن ليس من موضوع لا تراه ذاتا أو تفكر فيه. ومن الناحية الماورائية، تندرج علة الموضوع أو أساسه، في إطار المشكلة اللاهوتية المتعلقة بأصل العالم، وتتعارض مشكلة علة الموضوع أو أساسه مع المشكلة النقدية (كانط) المتعلقة بأساس معرفتنا بالأشياء.

وقد انتقد بعض الفلاسفة مثل نيتشه مفهوم الموضوعية؛ إذ يرى نيتشه أنه لا وجود لمعرفة محايدة ليست مرتبطة بمصلحة معينة؛ بمعنى أنه لا توجد معرفة لا تنتفع بموضوع البحث الذي تدرسه، ومن ثم فإنه لا توجد معرفة مبرأة من موقف قيمي معين من موضوع بحثها. وبالمثل أتخذ فوكو خطًا فكريًا مشابهًا مضمونه أن التطلع إلى إعطاء الموضوعية الأهمية التي تفوق كل شيء في المعرفة هو في ذاته أمر نابع من الاعتبارات التاريخية والثقافية، ومن ثم فهو خاضع لها. (راجع، ديديه جوليا. ١٩٩٢. قاموس الفلسفة. ترجمة فرنسوا ايوب وآخرين. دار لاروس. ص ٥٤٠).

٦. الماركسية – اللينينية (Marxism-Leninism)/ منظومة متطورة من الآراء الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشكل رؤية العالم إلى الطبقة العاملة، حيث قام لينين بتطوير الماركسية. وفيما بعد تم إعداد مصطلح (الماركسية-اللينينية) من قبل ستالين- في كتابه (أسئلة حول اللينينة) واعتمدت كإيديولوجية رسمية للاتحاد السوفياتي أثناء فترة حكم ستالين. واتخذت كتيار إيديولوجي شيوعي برز كاتجاه سائد بين الأحزاب. بينت (الماركسية اللينينية) أن تطور المجتمع ليس رهن قوى غيبية سامية على البشر. فالناس هم الذين يصنعون تاريخهم، ولكن مجرى التطور الاجتماعي لا يتحدد بمحض إرادتهم ورغبتهم وإنما بظروف حياتهم المادية، حيث صار المجتمع يُفهم على أنه عضوية واحدة، يمكن التمييز فيها بين القوى المنتجة والعلاقات الإنتاجية وما يتولد عنها في ميادين الحياة الاجتماعية: الدولة والسياسة والحق والأخلاق والفلسفة والعلم والفن والدين. وقد اندرجت مبادئ وبرنامج المجتمع الجديد في الماركسية اللينينية بوصفها جزءا جوهريا منها وهو الشيوعية العملية. ففي ظل (الماركسية اللينينية)، سيقود الثورة حزب شيوعي واحد سيكون الطليعة السياسية في توفير التوجيه والحكم للطبقات العاملة من أجل تأسيس الركائز الأساسية للدولة الاجتماعية. هذه الركائز الأساسية هي سياسية واجتماعية واقتصادية. الهدف من (الماركسية اللينينية) هو تحرير الرجال والنساء من العمل اللاإنساني. يتم تجريد الإنسانية من العمل الشبيه بالميكانيك الذي يزيل التوازن بين العمل والحياة الشخصية في مقابل الحصول على أجور محدودة للحصول على الضروريات مثل الغذاء والمأوى. والفكرة هي تحرير الأشخاص من هذه البراثن، حيث يتوفر المزيد من الوقت الشخصي لمتابعة الأهداف والاهتمامات الشخصية. لتحقيق هذه الحرية الشخصية في ظل الدولة الاشتراكية، تتطلع الماركسية اللينينية إلى تكنولوجيا جديدة ومحسنة تقلل إلى حد كبير من الوقت الذي يحتاجه الناس للعمل. لتحقيق هذه التطورات التكنولوجية اللازمة للتحرر، تحتاج القوى العاملة إلى تعليم ممتاز من شأنه أن يساعد في إنشاء التكنولوجيا الجديدة.

فيما يتعلق بالاحتياجات المادية التي سيحتاجها الناس، فإن للماركسية اللينينية حل أيضًا. بموجب الإيديولوجية، سيكون الاقتصاد المخطط مسؤولاً عن إنتاج وتوزيع السلع والخدمات التي يحتاجها المجتمع والاقتصاد الوطني. سيتم استخدام مهارات ومساهمة الفرد في الاقتصاد الكلي كأساس لتحديد الأجور التي يجب أن يحصل عليها الشخص. بالإضافة إلى ذلك، ستكون قيمة استخدام السلع والخدمات مسؤولة عن تحديد القيمة الاقتصادية للسلع والخدمات، وليس أسعار الصرف أو تكلفة الإنتاج. لمعرفة المزيد (راجع، إ. ف. بلايبيرغا. ١٩٨٦. المعجم الفلسفي المختصر. ترجمة توفيق سلوم. دار التقدم. ص٤٢٠).

٧. جورج مارشيه (Georges Marchais)/ (1920 – 1997) رئيسًا للحزب الشيوعي الفرنسي (PCF) من 1972 إلى 1994، ومرشحًا في الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 1981. كان جورج شخصية بارزة بسبب سلوكياته الفظه، وغالبًا خلال عروضه التلفزيونية، التي بقيت في ذاكرة الجمهور الفرنسي، كانت لهجته مع الصحفيين والمعارضين عدوانية.

٨. جسد العقيدة (the body of doctrine)/ في اللاهوت البروتستانتي في القرنين السادس عشر والسابع عشر، هو مختارات من الكتابات الدينية أو العقائدية لمجموعة من المسيحيين مع اعتراف مشترك بالإيمان. كان مصطلحًا استخدمه لأول مرة فيليب ملانكتون، حيث نُشرت كتاباته الدينية باسم (Corpus Doctrinae Philippicum أو ((Corpus Doctrinae Misnicum).

كان ملانكتون قد تصور فكرة تجميع أهم كتاباته اللاهوتية، جنبًا إلى جنب مع المذاهب المسكونية، في كتاب واحد أطلق عليها تسمية (جسد العقيدة) نشرت في عام 1560. تم استخدام هذه الكتابات كإعلان معياري وتعليم لتلك المجموعة أو طائفة المسيحيين. بالنسبة إلى اللوثرية في منتصف القرن السادس عشر، تمت صياغة هذه المختارات لمختلف الدوقات والإمارات في الإمبراطورية الرومانية المقدسة. لقد كانوا النموذج الأولي لكتاب الوفاق، والذي يعتبره اللوثريون تاريخيًا هو مجموعتهم النهائية للعقيدة.

٩. الآري (Aryan)/ هي أيديولوجيا التفوق العرقي التي تنظر إلى العرق الآري المفترض باعتباره مجموعة إثنية متميزة ومتفوقة لها الحق في حكم بقية البشرية. ظهر في أواخر القرن التاسع عشر ورُوج لها في البداية من قبل المنظرين العنصريين مثل آرثر دو غوبينو، وهيوستن ستيوارت تشامبرلين، بلغت الآرية أوج نفوذها في ألمانيا النازية، إذ استخدِمت لتبرير التمييز ضد الأقليات، والذي بلغ ذروته في الهولوكوست. يستمد هذا المفهوم من الفكرة القائلة إن المتحدثين الأصليين للغة الهندية الأوروبية كانوا أسلافًا متميزين لعينة متفوقة من الجنس البشري، لا تدعم الأدلة الأنثروبولوجية والتاريخية والأثرية صحة هذا المفهوم.

١٠. البروليتاريا (proletariat)/ هو مصطلح ظهر في القرن التاسع عشر ضمن كتاب بيان الحزب الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك أنجلز يشير فيه إلى الطبقة التي ستتولد بعد تحول اقتصاد العالم من اقتصاد تنافسي إلى اقتصاد احتكاري، ويقصد كارل ماركس بالبروليتاريا الطبقة التي لا تملك أي وسائل إنتاج وتعيش من بيع مجهودها العضلي أو الفكري، ويرى ماركس أن الصراع التنافسي في ظل الرأسمالية، سيتولد عنه سقوط للعديد من الشركات واندماج شركات أخرى، حيث انها في النهاية تتحول إلى شركات كوسموبوليتية؛ أي لا قومية وتصبح شركات احتكارية، ويصبح نضال شعوب الأرض موحداً لعدو واحد وتسمى هذه الطبقة الناشئة عن الاحتكارات العالمية بطبقة البروليتاريا، وهي تبيع عملها الفكري والثقافي والعضلي ولا تملك أي وسائل إنتاج، ويعتبر ماركس البروليتاريا هي الطبقة التي ستحرر المجتمع وتبني الاشتراكية بشكل أممي.

١١. أبوكاليبس (apocalypse)/ هي عبارة تدل على إعطاء أشخاص مختارين أشياء خفية لمعظم البشر؛ المصطلح الدارج لها عند العرب هو (كشف الحجاب) تدل الكلمة اليوم عادة على نهاية العالم، وهي اختصار عبارة تعني كشف نهاية العصر.

*مؤمنون بلا حدود