المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

الشاعرة الكردية العراقية فينوس فائق للمجلة الثقافية الجزائرية: الأدب الكردي دخل مرحلة مشرقة وصار جزءاً من الإبداع العالمي

فينوس فائق مبدعة كردية من إقليم كردستان العراق.. تكتب باللغتين العربية والكردية وتجيد أكثر من لغة عالمية.. ضيفتنا امرأة مثقفة نشيطة عاشت تجربة السفر والغربة منذ الطفولة إلى أن استقرّ بها المقام في هولندا.. وبين ثقافة الشرق والغرب صنعت بصمتها الأدبية المميزة لافتةً أنظار النقاد إلى كتاباتها كشاعرة وروائية وإعلامية ومترجمة.. من أعمالها الشعرية باللغة العربية: (طلاء الأظافر) (اتجاهات العشق الأربعة) (سأرزق برجل من ضلعي الأيمن)، ومن أعمالها باللغة الكردية ديوان (امرأة بداخلي) وكتاب (مفهوم الإصلاح في كوردستان وإصلاح جناح الإصلاح) وغيرها..المجلة الثقافية الجزائرية تحاور فينوس فائق في هذه المساحة من السؤال والجواب:

حاورتها: باسمة حامد

لا الشعر ولا الرواية هما اختصاص بقدر ما هما موهبة

المجلة الثقافية الجزائرية: لنبدأ منك.. من الإنسانة والمبدعة، كيف تفسرين هذا التداخل بين الشعر والترجمة والرواية والإعلام ضمن مشروعك الإبداعي والإنساني؟
فينوس فائق: في الحقيقة هو تداخل ممتع كتجربة حياتية، وجاء على مراحل. رغم أن البعض يعتقد أن الروائي يجب فقط أن يكون روائياً والشاعر فقط شاعراً، في حين أن لا الشعر ولا الرواية هما اختصاص بقدر ما هما موهبة وقدرة على التعبير بأكثر من لغة ادبية إن صحت التسمية، فأحياناً ما يستعصي علينا التعبير عنه في نص شعري، قد توفر لنا الرواية مساحة أوسع وأخصب للتعبير عنه، بتقديري الإبداع الأدبي لايمكن حصره في مجال واحد، فانتقال الشاعر إلى كتابة الرواية لا يعني بأي حال من الأحوال انسحاب الشعر مثلاً، بعبارة أدق هو تمكّن الأديب من أكثر من أداة للكتابة. أعي تماماً أن الشعر هو حالة تعبير فردية، ويتناول تجربة شعرية واحدة، وأن الرواية أوسع من الشعر قد تصل إلى كونها إنتاج أدبي رباعي بل سداسي الأبعاد وتشمل تجارب حياتية بأدق تفاصيلها تتحرك وفق خط روائي شامل.. لكن في النهاية أرى أن كل هذه المجالات تكمل بعضها البعض والمحرك الرئيسي لهم هو اللغة، وإن ارتأينا تسمية الحالة \”تداخل\” فنقول تداخل ممتع وبالنسبة لي استفدت من كل هذه المجالات التي مارستها ومازلت.
فمثلاً الإعلام خدمني في كتابة الروايتين، لأنك كصحفي وإعلامي ومن خلال مشروعك الصحفي أو حتى كمهنة تعتاش منها، تكون على تماس مع مختلف شرائح المجتمع من جميع المستويات التي قد تفيدك في بناء تفاصيل شخصياتك في الرواية، وبالتالي تتعرف على حيوات الآخرين التي قد تستعين بها في مشروعك الروائي. بالنسبة لي أعتقد أنني قبل كل شيء ولدت لأكون شاعرة وبعد ذلك كوني درست الفلسفة لم أحظ بفرصة لكي أعمل في أي مجال آخر سوى الصحافة، المكتوبة منها والمسموعة والمرئية. والترجمة بالنسبة لي أيضا هواية فرضت نفسها كوني أتقن أكثر من لغة، ولحد الآن لم أتخذها كاختصاص، أترجم حين يناديني نص يكون قابل للترجمة ولأن الترجمة عدا عن كونها مسؤلية كبيرة، فهي تحتاج إلى اتقان ودراية جيدة بأكثر من لغة وأن تكون لديك القدرة على التوغل في أعماق اللغة الأخرى، وهذه موجودة عندي، وهذا المجال يفيدني سواء كشاعرة أو كروائية.
بالنهاية ما يجمع كل هذه المجالات كما قلت هي اللغة. الإعلامي والشاعر والمترجم والروائي ليبني، ويكمل بها مشروعه الثقافي والأدبي.

أكتب الشعر وكأنني أنجب طفلاً، كأنني حملته في رحمي وغذيته من روحي

 

المجلة الثقافية الجزائرية: كيف تعيش الشاعرة فينوس فائق مخاض القصيدة؟
فينوس فائق: في أبسط تعريف لمخاض القصيدة، وكغيري من الشعراء أكاد أقول أنني أكتب الشعر وكأنني أنجب طفلاً، كأنني حملته في رحمي وغذيته من روحي. علماً أني لا أكتب القصيدة بشكل فجائي، بل على مراحل. وليس عندي وقت محدد لكتابة القصيدة، كأن أكتب وأنا في القطار، أو في المطبخ وأنا أقلي الباذنجان على النار..إلخ تختمر في رأسي فكرة قصيدة كاملة، وحين أمسك القلم، لا أكتب منها سوى سطراً أو مقطعاً. وأحياناً تتكون فكرة صغيرة فتتحول بشكل تدريجي إلى قصيدة. كتابة القصيدة هي حياتي الأخرى، هي ذلك العالم التخيلي الذي أستلقي فيه بأريحية، أكون أنا بدون رتوش، أخرج من الواقع العادي، بل أنقطع، كأنني في بيتي الآخر في عالم آخر، فأكتب بعيداً عن أي شيء آخر سوى النص. ممارسة طقوس كتابة الشعر تمر من خلال الروح ذهاباً وإياباً. الفكرة تولد في الروح، وتتغذى باللغة. أتأنى في كتابة القصيدة، أحيانا تمر فترة سنة لم أكتب فيها قصيدة كاملة، وإنما رؤوس أقلام أو تسجيل تجليات، لست ممن يكتبون أي شيء ويسمونه قصيدة، بعبارة أخرى: من غير الممكن أن أكتب نص فقط بهدف أن أبقى حاضرة في ذهن القارئ، ومن أجل أن لا ينسى المتلقي ملامحي، لأن بإمكان القارئ أن يميز بين الرصين والسيء، بالعكس تماماً مازلت أكتب نصوصي كأنني تلك الطفلة التي دفعت بي حاجتي للتعبير حين كنت صغيرة لكتابة نصوصي الأولى، إلى أن اكتشفت لغة الشعر، فلم يتغير شيء، مازلت أكتب حين أكون بحاجة لأن أكتب، كأنه العطش أو الجوع، لكن عطش الروح و حاجتها للارتواء من نبع اللغة. أكتب الشعر أولاً لنفسي، ثانياً للقارئ، لدي العشرات من النصوص التي مازلت أحتفظ بها لنفسي ولم أتقاسمها بعد مع القارئ. بالنهاية كتابة الشعر هي ممارسة حياة أخرى من خلال هواية ممتعة ليس الهدف منها كسب الشهرة وجمع أعداد الجمهور، إنما الهدف هو تفريغ الروح من شيء يصيبنا بالوجع إن لم نعبر عنه، هو عملية التخلص من ثقل لابد أن نرميه، فنرميه على شكل كلمات.

الشعراء حينما يصيبهم الوجع أو يتعذبون، ينشط هرمون الشعر في أجسادهم

المجلة الثقافية الجزائرية: وأيهما يعذّبك أكثر: كتابة القصيدة أم الشعور بها؟
فينوس فائق: طبعاً هي مراحل، أولاً الشعور بما يوجعنا أو يبهجنا، هذا الشعور يساعد على إفراز هرمون الشعر. فلدي تصور، أو أتخيل أن الشعراء دوناً عن باقي البشر لديهم هرمون يسمى هرمون الشعر، الذي يحفز دماغه على كتابة النص، تماماً مثل هرمون الخوف و هرمون السعادة و الدهشة و ..ألخ وهو بالمناسبة هرمون ليس سام، وعندما ينشط يمنح الجسد والعقل والروح راحة مدهشة.
في كل الأحوال يولد الشعر من رحم الشعور. وعلى عكس الأناس العاديين، الشعراء حينما يصيبهم الوجع أو يتعذبون، ينشط هرمون الشعر في أجسادهم. فنكتب حين نكون قد تعذبنا، كأنك تخاطب حبيبك الذي خانك، تكون تعذبت ثم تبحث عن مخرج يليق بوجعك وهو الشعر، كأنك تناجي وطناً خيّب ظنك فيرتفع إفراز هرمون الشعر و كتب نصاً يليق بوجعك. للشعر علاقة وثيقة بالوجع، بدءاً من فكرة أو تجربة تركت في أرواحنا أثراً إلى أن نبلغ ذلك التحول العسير، حين تتحول التجربة الحياتية إلى مخاض قصيدة أو تجربة أدبية.

النص هو الذي يختار اللغة

المجلة الثقافية الجزائرية: يقول يحيي حقي: \”لا يوجد أدب من دون عشق اللغة\”.. دعيني أسألك كمبدعة تكتبين بالعربية والكردية كيف تفرض اللغة نفسها في نصّك الأدبي لتؤدي دورها الجميل ضمن نسيج متمكن؟
فينوس فائق: أكيد بدون اللغة لا يوجد أدب، لأنه بالنسبة للأديب هو سلاحه الأوحد، فأنت قبل أن تكتب القصيدة تبحث عن لغة أخرى تكون وعاءاً لما تريد أن تعبر عنه، وبما أن الشعر تعبير راقي، فأنت تلجأ بطبيعة الحال إلى اللغة التي تعشقها، تلك التي تريحك حين تعبر بها، وتمكنك من تطريز نقوش الصورة الشعرية.
بالنسبة لي عندما يأتيني الإلهام وأحتاج لأن أفرغ ما في نفسي، النص هو الذي يختار اللغة، والذي يحكم هنا هو الصور الشعرية، لتكون بمثابة الفرشاة التي ترسم تلك الصور بأناقة. فهناك صور شعرية تقال في لغة ويصعب التعبير عنها بلغة أخرى. هنا أجد نفسي محظوظة، لدي خيارين، مساحتين للتعبير لتسجيل أحاسيسي و تجلياتي. فعندما تتقن أكثر من لغة، النص هو من يختار اللغة التي ستؤدي دورها ضمن ذلك النسيج. هنا يجب القول أن ليس كل من يتقن اللغة بإمكانه أن ينتج نصّاً أدبياً، لأن هناك من يكتب كماكينة إنتاج النصوص كتلك الماكينة التي تنتج مثلاً مئة فستان من باترون واحد، فنحن هنا نتحدث عن اللغة التي نبتكرها \”الأدب\” من اللغة التي نعشقها \”العربية مثلا\”، فنمتلك لغة خاصة بنا ولن نبلغ هذا الرقي الأدبي اللغوي بدون عشق اللغة.
بالنهاية وظيفة اللغة في مجال الأدب تتعدى أن يكون مجرد وسيلة للتعبير، يجب عليك كشاعر أن تستخدم اللغة بمسؤلية كبيرة بحيث يتعدى كونها أداة لوصف مدينة،إمرأة أو منطقة خلابة..ألخ بل لتصل إلى أبعد وأعمق من ذلك، تصف المدينة من خلال إنسان على سبيل المثال، أو أن تسعى بواسطة اللغة ابتكار جوانب جمالية لأشياء قد تبدو للمشاهد العادي قبيحة، أو أن تحفر في عمق قبح الأشياء، تكتشف فيه جمالاً من خلال اللغة، لكي تمنح المتلقي نصاً يصيبه بالدهشة.. وهكذا..

الإنسان ليس بريء من كل هذا القبح الذي تكبر مساحته من حولنا

المجلة الثقافية الجزائرية: من يقرأ قصائدك في (أبعاد اللا مسافة) يشعر أنك تبحثين عن مفقود ما ضمن انشغالك بواقع إنساني مضطرب ومثقل بالهموم والقضايا.. ما الذي تبحث عنه فينوس فائق في عالمنا المعاصر الذي فقد الكثير من قيمه الإنسانية والأخلاقية العليا؟!
فينوس فائق: أتفق معك تماماً أننا نعيش في عالم فقد الكثير من قيمه الإنسانية والأخلاقية العليا، وعندما نفتقد هذه القيم، نفقد معها الكثير من آدميتنا، والشاعر هو أكثر المخلوقات سعياً بعناد للتمسك بآدميته وقيمه، وهذا ما يصيبه بصراع داخلي، وصراع مع ما يحيط به من قيم هو يرفضها. عندما نصل هذه المرحلة ينشط فينا هرمون الحنين، الحنين لكل ما مضى ولم يعد موجوداً من قيم وأخلاق..الخ.. فتبدأ عملية التنقيب عن الأشياء الجميلة التي تركناها في الماضي وإخراجها من بين ركام الإنسانية المدمرة، ودمار الأخلاقيات القبيحة والممارسات اللاإنسانية التي نصطدم بها في واقع بتنا نرفضه وبات يرفضنا، أو صار غريباً علينا أو يمنحنا شعوراً قاتلاً بالاغتراب. فنبدأ برحلة البحث عن التفاؤل بين كم اليأس الذي يحيط بنا، وغالباً ما نفشل بسبب سرعة تغيير نمط الحياة من حولنا نحو الأسوأ، والذي يترك تأثيره بالسلب على ممارستنا لحياتنا اليومية بالشكل الذي نتمكن به من الاحتفاظ بقدر من التفاؤل يساعدنا في الوقوف على أقدامنا بثبات بوجه كل التغييرات المرعبة التي تطرأ على الكوكب. أنظر إلى النصوص التي كتبت في السنتين الأخيرتين في ظل جائحة كورونا، الفيروس غير المرئي الذي غير الخارطة الإجتماعية والأخلاقية حتى السياسية والإقتصادية وكافة المجالات الأخرى، كيف غيرت نمط الحياة، فقدنا معها ذائقتنا الأدبية والفنية والإنسانية. قلبت معظم القيم، أخذت الإنسانية إلى مكان موحش يكاد يكون مستحيلاً العودة منه. وسط كل هذا أبحث عن التفاؤل، الأمان، والطمأنينة والأصالة والقيم الإنسانية، أبحث عن الجمال بتعريفنا لأشياء تبدو للعين المجردة باهتة وتكاد تختفي، إلا أنها تنطوي على قبح إن تعثرنا به يصيبنا بوجع كبير، و كثيراً ما أفشل، أبحث عن الجمال الذي نفتقده في الكثير من الأمور التي تغيرت ملامحها بقسوة. أبحث عن ملاذ، عن مأوى لكل ما هو جميل حتى لا يتشوه، لكن للأسف الكوكب صار أكثر الأماكن رعباً و خطورة للعيش فيه بسلام، الإنسان ليس بريء من كل هذا القبح الذي تكبر مساحته من حولنا، هو نفسه صار مخلوقاً شريراً وأينما مرَّ يترك وراءه الخراب!

المجلة الثقافية الجزائرية: قصائدك في ديوان (طلاء الأظافر) تبدو وكأنها تسعى لتمرير رسالة ما تحت وطأة الشعور بالمسؤولية الإنسانية للشاعرة..؟
فينوس فائق: نصوص ديوان (طلاء الأظافر) تشمل تجربتي الأدبية من منتصف التسعينيات إلى منتصف سنوات الألفين، المرحلة التي سبقت التعمق في الهم الإنساني في سياقه الفكري والفلسفي. أقصد لابدّ لكل شاعر أن يكون قد مرَّ في مرحلة ما من مراحله الأدبية بنوع من التفاؤل \”الساذج\” إن صح التعبير، بمعنى أنه كان لايزال يحتفظ بالقليل من الشعور الإيجابي، الذي من خلاله يسعى لتمرير خياله و نظرته لواقع يحاول اكتشافه من خلال اللغة والعثور على ذرات الجمال التي بالكاد يشعر بها ويلملمها ليكمل لوحة الحياة الجميلة وكأنه يحل أحجية الكلمات المتقاطعة. من هنا يأتي الشعور بالمسؤولية، فأنت أي نص تكتبه في أي مرحلة من مراحل تجربتك الأدبية هو تسجيل لفكر ونظرة لك تجاه كل ما يحيط بك من تفاصيل ضمن نظام جتماعي، وسياسي، وإنساني و أخلاقي.

الإبداع الغني غالباً ما يولد من رحم القسوة والظلم والوجع

 

 

المجلة الثقافية الجزائرية: كتاباتك فيها الكثير من الهوامش المتداخلة ما بين الذاتي الواقعي والمتخيل الإبداعي.. كيف حققتِ المعادلة الصعبة ضمن هذا التوازن بين الشروط الإبداعية وبين رغبتك الإنسانية في تأريخ الظلم والاضطهاد والتهميش وكل ما عاناه أبناء شعبك في الوطن والمنافي؟
فينوس فائق: طبيعي أن يمتزج الذاتي الواقعي مع المتخيل في الإبداع الأدبي، لتكتمل الشروط الإبداعية ونتمكن من التعبيرعن تأريخ الظلم والاضطهاد ومحاولات الإبادة الجسدية والثقافية والسياسية وكل أنواع المعاناة الأخرى التي شكّلت تأريخنا. فهذا من ناحية يعكس جوانب مهمة من شخصية الكاتب وتَعَرفه بشكل غير مباشر للقارئ، ومن ناحية تعرف المتلقي بمعاناة شعبه، بالاستناد إلى التأريخ وتجاربه الحياتية الشخصية في عمق الظلم والاضطهاد ومزج كل هذا بمادة تخيلية ثرة ليكون النص. في كل الأحوال يجب أن يكون المثقف على تماس مباشر مع هموم مجتمعه، إذ من غير الممكن أن ينتج الأديب نصاً إنسانياً صادقاً إذا عزل نفسه عن واقع مجتمعه، بل عليه أن يكتب نصوصه على أرض الواقع في عمق ما يعيشه مجتمعه حتى يحقق ذلك التوازن السحري بين الواقعي والمتخيل في إنتاجه. ووسط كل هذا فإن تطوير الذات من الناحية الثقافية مهمة متشعبة الجوانب، يحتاج إلى جهد متواصل لفهم التأريخ وما عاشه من ظلم وما لم يعشه حتى، وبالتوازي مع هذا يحتاج إلى أن يرفع الأديب سقف تفكيره ويوسع فضاء التخيل، ومهم جداً أن يكون الأديب قادراً على الاستفادة من تجاربه الحياتية والمحطات التي مرّ بها وترك فيها ذاكرته. بالنهاية الإبداع الغني غالباً ما يولد من رحم القسوة والظلم والوجع ونتيجة معاناة يكون عاشها الأديب، بعكس الرفاهية التي يصاب فيها الإبداع بالركاكة في بعض الأحيان. لم أكن يوماً بعيدة عن معاناة أبناء شعبي، في ظل الحكومات الظالمة التي كرست جهدها لمحو سمات قوميتنا وتشويه ثقافتنا، وأيضا في ظل سياسات الدول التي تتقاسم أرضه، خصوصا كوني من الجيل الذي أمضى أغلب سنوات حياته في ظل حروب متتالية بكل تفاصيلها القاسية. والأديب الذي عاش أوجاع الحروب والحصارات الثقافية والاقتصادية وقدم التضحيات، يختلف عن الأديب الذي لم يعش كل هذا إنما سمع عنه من آباءه أو قرأ عنه في الكتب أو شاهده في الأعمال الدرامية. فأن تعيش الوجع شيء و أن تسمع عنه شيء آخر، وباعتبار أن الأديب جزء حيوي من واقع يتحرك حوله، هو أيضاً يتحرك داخله بفكره وأحاسيسه، فالجانب التخيلي يكمِل العملية الإبداعية حين يمتزج مع ماهو واقعي في عمق النص.

أظن أنني أخلد في كتاباتي عامة عالماً يصعب تحقيقه

المجلة الثقافية الجزائرية: المبدع دائم البحث والتجريب كي تصل تجربته إلى المتلقي وتؤثر به، أي عالم تريد فينوس فائق تخليده في كتاباتها؟
فينوس فائق: أبحث عن عالم ربما يصعب تحقيقه، عالم يكون الإنسان فيه هو نفسه بدون رتوش و لا أقنعة، يكون الإنسان فيه بحق خليفة الله على الأرض. يكون الإنسان كائناً لطيفاً في أبسط تعريف له و ليس شريراً ويسخر جهده في ابتكار أدواة وأساليب جديدة للقتل ويمارس الاستبداد وينشر الظلم بدلاً من الطمأنينة. أظن أن هذا العالم نادى به الكثير من الأدباء و المبدعين من قلبنا وسنظل ننادي به. أبحث عن عالم بتفاصيل إنسانية بحتة. أحلم بالتساوي بين البشر بغض النظر عن الجنس واللون والعقيدة أو أي شيء آخر، عالم يخلو من الحروب. أظن أن من الناحية النظرية يبدو لنا هذا العالم ليس صعباً، لكن واقعياً وفي خضم تنامي وتيرة العنف على الكوكب، وتنامي ظاهرة الشر بين بني البشر وتغيير فهمنا وتصورنا للكثير من الأمور وحتى عجزنا عن تعريف أو تفسير ما يحدث حولنا، بتنا نحلم أكثر مما نعيش واقعاً نحبه. صرنا نتعامل مع مخلوقات تنتج الشر أكثر من التفكير في نشر الفضيلة. لذلك أظن أنني أخلد في كتاباتي عامة عالماً يصعب تحقيقه. هذا لا يعني أنني كائن متشائم، بالعكس، فكمية التفاؤل التي مازلت أحتفظ بها هي التي تحفزني للمضي قدماً والتحمل ومواصلة الحياة بالشكل الذي يمنحني بعض الأمل في غد أفضل.

المجلة الثقافية الجزائرية: ما لاحظناه مؤخراً أن العديد من النقاد والشعراء أشادوا بتجربتك الإبداعية.. كيف تنظرين إلى هذا الاحتفاء والتقييم؟
فينوس فائق: أعتبر إشادات أسماء كبيرة وقامات أدبية كبيرة بتجربتي الأدبية أثمن وأبهى من أي جائزة أدبية أخرى، أشعر بالفخر أن يكتب اسم كبير في عالم الرواية العالمية هو واسيني الأعرج شهادة عن تجربتي الأدبية، هذا يحفزني ويدفع بي بجدية أكثر باتجاه السعي من أجل الحفاظ على مستوى إنتاجي الأدبي وتطويره بشكل مستمر. كما أن أساتذة آخرين أشادوا بتجربتي الأدبية قبل الآن وهو الذي جعلني أشعر بمسؤولية كبيرة وأن أستمر بتطوير نفسي أكثر وأكثر. هذه الإشادة تزيد المسؤولية على عاتقي، بعكس الجوائز الأدبية التي تنتهي متعتها بمجرد انتهاء مراسيم التكريم، عدا عن أنها تصيب بعض الأدباء بنوع من الغرور. في حين أن الإشادة من قبل أساتذة الأدب بتجربتك الأدبية ترفع من معنوياتك وتحمسك لأن تستمر في تطوير نفسك.

الغربة منحتني مساحة أوسع للتفكير

المجلة الثقافية الجزائرية: ماذا أضافت سنوات الغربة إلى فينوس فائق وجدانياً وإبداعياً؟ هل اختلفت رؤيتك للكتابة وللحياة بعد تجربة السفر والاغتراب؟
فينوس فائق: بكل تأكيد تترك تجربة السفر والغربة والابتعاد عن الوطن تأثيرها الكبير من الناحية الوجداية والإبداعية على حد سواء، التنقل بين الأمكنة والتعرف على الثقافات الجديدة تساعد على اكتشاف عوالم جديدة، واكتساب قيم ومفاهيم جديدة والتنقل إلى آفاق أوسع للتفكير والتعبير، تنتقل من المساحة الضيقة إلى مساحة أوسع في نظرتك للحياة والكثير من الأمور، تتغير مبادئك باتجاه إنساني أوسع وأعمق، تتعلم أكثر. فأنت عندما تترك دائرتك الضيقة في عائلة، في مدينة، في بلد واحد، وتتنقل بين الأمكنة المختلفة، أول شيء تفعله تقارن بين هنا و هناك، سيكون همك الأكبر هو التعرف على الثقافة الجديدة التي تحتك بها، بطبيعة الحال ستتغير أفاقك الفكرية ونظرتك للحياة بشكل عام، وستتسع نظرتك الإنسانية لتشمل جوانب كنت محروماً منها أو تمنيت أن تصلها.
الغربة منحتني مساحة أوسع للتفكير، ورؤية أخرى للكثير من الأمور التي كنا تعلمناها بشكل وعندما خرجنا وسافرنا وتعرفنا على شعوب وثقافات أخرى اكتشفنا جوانب أخرى لها ومعان وتفسيرات مختلفة تماماً عما تربينا عليها.

تغيرت معالم الأدب الكردي وتطورت وتخطت حاجز القومية والأدب المحلي ليدخل المحافل الأدبية في العالم

المجلة الثقافية الجزائرية: الإبداع الكردي ظل مهمّشاً لعقود طويلة.. لكن إلى أي حد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي هذا الواقع؟ وبرأيك هل أصبح المبدع الكردي اليوم متحرراً من شروط السياسة بدرجة ما؟
فينوس فائق: بعد اندلاع الانتفاضة في كردستان عام 1991 وحتى قبل تطور وسائل التواصل الاجتماعي بشكله الواسع الآن، وبفضل إمكانية السفر إلى الخارج والانفتاح الثقافي على الشعوب المجاورة، إضافة إلى وجود جالية كردية كبيرة التي يشكلها اللاجئون الكرد في مختلف بلدان العالم والذين يسعون جاهدين للتعريف بالثقافة الكردية بالبلدان التي يقيمون فيها، ناهيك عن ازدهار الترجمة من اللغات العالمية إلى الكردية وبالعكس، فتغيرت معالم الأدب الكردي وتطورت وتخطت حاجز القومية والأدب المحلي ليدخل المحافل الأدبية في العالم، إذ تجد اليوم الكثير من الأدباء الكرد يشاركون في الأنشطة الأدبية ومهرجانات الشعر في الوطن العربي وحتى في الدول الأوروبية. فلو تحدثنا عن المبدع الكردي، في مجال الأدب، فأدب كردستان العراق على سبيل المثال خرج من تحت تأثير الأدب الفارسي وانفتح على الأدب العالمي، الأوروبي منه على وجه الخصوص، فتطورت أدواته وتوسعت آفاقه بعد أن عانى لسنوات طوال من العزلة عن العالم الخارجي بحيث أن الدارس للأدب الكردي من خارج كردستان العراق كان يحسب الأدب الكردي جزء من الأدب العراقي/العربي مثلاً، هذا يشمل الأجزاء الأربعة لكردستان المنقسمة بين أربعة دول، حيث كان يحسب إبداعهم الأدبي والفني جزءاً من الدول التي ألحقوا بها. وحتى أن الكثير من الأدباء من غير الكرد لم يكن يعرف أن اللغة الكردية لغة مستقلة ولها خصائصها ومميزاتها، بل الثقافة الكردية شأنها شأن كل ثقافة أخرى في العالم لها خصائصها التي تميزها عن غيرها من الثقافات الأخرى. للأدب الكردي خصائصه التي تميزه ويستحق دراسته كأدب مستقل كونه يكتب بلغة خاصة بشعب له ثقافة وتراث غنيان. وبالتأكيد ساعدت وسائل التواصل الإجتماعي على إيصال النصوص الكردية عن طريق الترجمات إلى المتلقي غير الكردي، العربي والغربي بشكل عام، على منصات مثل فيسبوك و تويتر وفي محرك غوغل بإمكانك الآن بسهولة أن تطلع على تجارب كافة شعوب الأرض سواء الأدبية أو الفنية أو في مجالات أخرى كثيرة، هذه المنصات ربطت بين شعوب الكوكب في كافة المجالات الثقافية والفكرية .ألخ. حتى أنك لو تبحث في محرك غوغل تجد معلومات كثيرة عن الأدب الكردي، وحتى أن اللغة الكردية سواء ما يكتب بالحروف اللاتينية أو بالحروف العربية معترف بها وتستخدم في منصات التواصل الاجتماعي وتندرج في قائمة اللغات في الجزأ الخاص بالترجمة في غوغل. بواسطة كل هذا الانفتاح يدخل الأدب الكردي مرحلة مشرقة وصار جزءاً من الإبداع العالمي.