المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

الصراع في رواية “كليوبترا الكنعانية” لصبحي فحماوي

رائد الحواري- نابلس- فلسطين

 

تناول التاريخ بصورة أدب روائي أمر صعب ويحتاج إلى تقنيات خاصة، كما يحتاج السارد إلى معرفة بأحداث التاريخ ليكون العمل الروائي منسجما مع (الحقائق)، وهذا ما جعل الروايات التاريخية محدودة في منطقتنا، إذا ما استثنينا كتابات جورجي زيدان.

صبحي فحماوي يخوض تجربة كتابة الرواية التاريخية، فبعد رواية “قصة عشق كنعانية”، ورواية “أخناتون ونفرتيتي الكنعانية”، ورواية “هاني بعل الكنعاني”، ورواية “خنجر سليمان”، تأتي هذه الرواية لتكون حلقة ضمن سلسلة تتناول التاريخ القديم والحديث.

السرد الرواية

للخروج من الجمود التاريخي أعطي السرد “للطبق الطائر” ليتحدث عن الماضي، وتحديدا عن كليوبترا والظروف التي مرت بها، ففي بداية كل ليلة من ليالي رمضان الثلاثين كان الطبق يكسر وتيرة السرد متحدثا للمستمعين/ المشاهدين بحديث (خارج نطاق التاريخ) وأحيانا أخرى كان يتم (خرق) وتيرة السرد أثناء (ذروة الأحداث) كما هو الحال في هذا المشهد: “ولكنك سبق وأن قلت لنا إن الوصيفة سيلين أخذت الأطفال إلى مكان غير معلوم، لتبعدهم عن الأحداث الدامية؟ فأجاب الطبق واثقا من سرديته بقوله:

” دائما عليك أن تعطي الرواية مجالا من الخيال، لتبقي القارئ في حالة تساؤل وتفكير وتأمل” ص175، في هذا المقطع يعرفنا السارد على الهدف/ الغاية من كسر وتيرة السرد الذي جاء من باب (التغريب) وحثّ القارئ على (الخروج) من التاريخ الجامد، وربط الرواية وأحداثها بما يجري الآن.

 وأحيانا أخرى كان يتم خرق السرد في نهاية الفصل/الليلة كما هو الحال في الثانية وعشرين: “وهنا سأل احد الحضور هذا الطبق الهابط من السماء” ص106، وبهذا يكون (المسؤول) عن السرد هو الطبق الطائر، وكل ما جاء في الرواية يقع على عاتقه، وبهذا يتحرر (الكاتب) من اللوم أو المديح على ما جاء في الرواية.

وقبل أن نغادر ننوه إلى أن الرواية بدأت في الليلة الأولى، ثم انتقل السارد مباشرة إلى الليلة السابعة، حيث كان الطبق الطائر خلالها الليالي الست يتنقّل ليستقر في مكان ليستقر فيه ويسرد سرديته، بعدها يتم تتابع الليالي بانتظام وانسجام، وهذا الأمر له علاقة بما جاء على لسان الطبق حول حث القارئ على التفكير والتأمل والتوقف عند أحداث الرواية وشخصياتها وما الهدف والغاية منها.

كليوبترا

يعرفنا السارد على تفاصيل كثيرة متعلقة “بكليوبترا” تعليمها، نباهتها، الظروف التي مرت بها، وكيف استطاعت أن تحكم مصر في ظروف وتقلبات (دولية) صعبة، وهذه المعرفة مهمة للقارئ، حيث يمكن إسقاطها على الواقع والاستفادة من حنكة “كليوبترا” لتجاوز حالة الضعف التي تمر بها مصر لآن، فالرومان يتماثلون مع الأمريكان، تخاطب والدها متحدثة عن تحالفه مع الرومان بقولها: “لكن هذه الصداقة تشبه صداقة النمر مع الغزال، فلا يمر وقت حتى يتعشى القوي بالضعيف” ص22، وهذا ما جعل فكرة الرواية معاصرة، فالطبق يخبرنا عن خطورة تحالف الضعيف مع القوي، وهذا يقودنا إلى ما قاله “ميكافيلي” للأمير عن التحالفات الخارجية: “إذا استعنت بدولة قوية ستبلع الأمارة، وإذا استعنت بمرتزقة سيخربون الأمارة” ونجد واقعية خطر هذا التحالف/الصداقة عندما تحالف العرب في بداية القرن العشرين مع الغرب، فتم تمزيق المنطقة العربية بين عشائر وعائلات لتحكم نيابة عن الغرب، وما نحن فيه الآن من انهزام وتخلف وانعدام الكرامة يرجع إلى (تحالفنا) مع الإنجليز والفرنسيين.

ويحدثنا عن تميز نباهة كليوبترا من خلال التعلم والدراسة، فقد كانت حريصة على العلم والمعرفة: “يقولون إنها تتحدث مع قباطنة سفن الميناء، كل بلغته المختلطة… وحتى لو وجدت راكبا أو قبطانا يحمل معه كتابا أو عدة كتب، فإن هذه الطفلة تطلب بجرأة من صاحبها أن يبقيها لديهم في ميناء الإسكندرية، لحين نسخها، أو ترجمتها” ص56، وكأن السارد يريد القول إن مكتبة الإسكندرية ـ وهي أهم المكتبات في التاريخ القديم ـ يرجع الفضل في إقامتها إلى “كليوبترا” التي كانت تهتم بالكتب والترجمة.

“أن تحدي الدولة الرومانية معناه الموت المحقق، أن لا بد من المراوغة والمداهنة، وأحيانا الكذب الصريح، بهدف الوصول إلى المبتغى” ص101و102، وهذا ما جعلها تحكم مصر من عام 40 إلى 30 ق.م، بعد أن استطاع أن تقيم علاقة مع “يوليوس قيصر” وبعد وفاته مع “أنطونيو” وبهذا تكون “كليوبترا” قد نجحت في قيام (تحالف) بين النمر والغزال”

كانت “كليوبترا” تريد أن تكون مصر قوية ومستقلة عن الرومان، وهي تعرف خطورة وحيثيات التغييرات التي تجري في المنطقة، وهذا جعلها تتعامل مع السياسة بحنكة وحكمة.

 الرمزية التاريخية والواقع

رغم أن الرواية تتناول أحداثا وشخصيات تاريخية، إلا أن هناك ما يشير إلى واقع مصر الآن، “وخلال هذه الفوضى الملكية، تمت محاولة لضم المملكة البطليمة إلى روما بعد ملزم، كضمانات للقروض التي أخذتها مصر من روما، إذ كان قادة روما يرون أن لديهم أسبابا قانونية كافية للسيطرة على مصر، لتجعلها دولة خانعة وعميلة” ص50، فالسارد من خلال هذا المشهد يؤكد خطورة الاقتراض من الأعداء، وحتى من الأصدقاء، فالدولة المدونة ستكون (رهينة) للدائن، وستخضع صاغرة لشروطه، وهذا ما نجده في كل دول العالم الثالث التي استدانت الأموال وأخذت القروض، وها هي تعيش في ضنك هي وشعوبها، وتخضع كالعبد لما يصدر لها من أوامر وتعليمات من السيد الدائن.

الغرب

الرواية تركز على خطورة التعامل مع الرومان/ الغرب الذي يطمع ويعمل ويفكر ليهيمن على المنطقة، فهو يعلم أننا أعداء ولا يمكننا التعايش، فإما نحن أو هم، من هنا كان حرق قرطاج وتدميرها وإزالتها من الوجود كليا، علما بأنها كانت أهم وأعظم حضارة في ذلك الزمن.

في رواية كليوبترا

نلاحظ أن فكرة الحرق، الإنهاء الكلي، والمحو وإلغاء الآخر هي الطريقة المثلى في تعاملهم معنا، وهذه العقدة ما زالت فاعلة حتى الآن، ما فعه الأمريكان في العراق عامة والفالوجة خاصة، وما يفعله الاحتلال الصهيوني في غزة من قتل وتدمير وتهجير وإبادة، وفي لبنان الآن، 81 طن من القذائف والصواريخ على منطقة محدودة (الضاحية الجنوبية) يبين ويؤكد أن الغرب على مر التاريخ يعمل ويفكر على إزالتنا من الوجود، أو تحويلنا إلى عبيد له، وهذا واقعنا الآن، وما نحن فيه يؤكد هذه العبودية والتبعية.

الصراع

اللافت في الرواية أنها تقدم حالة الصراع في المنطقة بأكثر من طريقة، أحداث الرواية، ومن خلال تدخل “الطبق” السارد مباشرة: “حيث أن الأيام دول، وأن مرحلة بومبي الكبير قد وصلت إلى حدها، فقد صار يوليوس قيصر مؤهلا لقيادة روما الساعية إلى تحقيق قوة الجمهورية، أو جمهورية القوة ..ولكن الكبير لا يتنازل عن أمجاده وبقائه فوق التاريخ، والصغير لا يتراجع في اندفاعه لتحقيق الذات” ص93، هذه فكرة الرواية المركزية، الصراع، القوي يهيمن ويقتل ويحرق، والضعيف يُحرق ويُقتل وينتهي من الوجود.

الرواية تركز على خطورة التعامل مع الرومان/الغرب الذي يطمع ويعمل ويفكر ليهيمن على المنطقة، فهو يعلم أننا أعداء ولا يمكننا التعايش، فإما نحن أو هم، من هنا كان حرق قرطاج وتدميرها وإزالتها من الوجود كليا، علما بأنها كانت أهم وأعظم حضارة في ذلك الزمن.

في رواية “كليوبترا الكنعانية” يعترف “أوكتافيوس” بحقيقة الصراع بقوله: “لم تذعن روما للخوف من أية أمة أو شعب في زمانها، إلا لاثنين، من البشر، أحدهما هاني بعل القرطاجي، والثانية هي كليوبترا الكنعانية…لا تحقق لإمبراطورية روما ولا بقاء لها، من دون التدمير النهائي للحضارتين الفرعونية والكنعانية معا” ص142، من هنا كل من يقول بتلاقي الحضارات كاذب، فهناك صراع تاريخي ووجودي بين الحضارات، فها هم الأعداء يستبيحون دمنا وأرضنا وينهبون ثرواتنا ونحن لهم خانعين ومستسلمين، فعن أي لقاء يتحدثون وطائراتهم تحصدنا وتقتل أطفالنا وتهدم بيوتنا!؟

الأديب صبحي فحماوي

الصراع

اللافت في الرواية أنها تقدم حالة الصراع في المنطقة بأكثر من طريقة، أحداث الرواية، ومن خلال تدخل “الطبق” السارد مباشرة: “حيث أن الأيام دول، وأن مرحلة بومبي الكبير قد وصلت إلى حدها، فقد صار يوليوس قيصر مؤهلا لقيادة روما الساعية إلى تحقيق قوة الجمهورية، أو جمهورية القوة ..ولكن الكبير لا يتنازل عن أمجاده وبقائه فوق التاريخ، والصغير لا يتراجع في اندفاعه لتحقيق الذات” ص93، هذه فكرة الرواية المركزية، الصراع، القوي يهيمن ويقتل ويحرق، والضعيف يُحرق ويُقتل وينتهي من الوجود.

العنوان “كليوبترا الكنعانية” والتضحية

العنوان يقودنا إلى أعمال الروائية التاريخية الأخرى لصبحي فلحماوي وهي؛ رواية “قصة عشق كنعانية، ورواية” اخناتون ونيفرتيتي الكنعانية” ورواية “هاني بعل الكنعاني”، ورواية “خنجر سليمان” التي تتحدث عن سليمان الحلبي الذي جاء من حلب ليقتل “كليبر” القائد الفرنسي في مصر، فمن خلال هذه الروايات يعمل السارد على إبراز تاريخ المنطقة وما فيه من أمجاد، وأيضا تأكيد انتمائه لمنطقة بلاد الشام التي ينظر إليها كوحدة جغرافية واحدة، وكذلك تأكيد وحدتها التاريخية والمصيرية مع مصر حيث يعمل السارد على ربط المصالح المصرية والسورية معا، فالتاريخ القديم والحديث يؤكد هذا التلاقي بينهما.

نعود إلى “كليوبترا الكنعانية” التي قدمها السارد متناولا جذورها وأساس تكوينها الفكري: “وأما عن كليوبترا الأولى فالكل يعرف أنها ولدت بصفتها أميرة سورية، وهي أبنه أنتيوخوس الثالث ملك سورية الذي تزوج من منال، ابنة عليان بعل ملك أوغاريت الكنعاني، فأنجبت طفلة سمتها كليوبترا” ص45، إن تعدد الشخصيات التي تحمل الاسم نفسه ظاهرة كانت متبعة في العهود القديمة، فمثلا في العراق نجد أكثر من شخصية تحمل اسم سرجون، فهناك سرجون الأكادي وسرجون الأشوري، وهناك العديد من الأمثلة على هذا الأمر.

لم يقتصر الأمر على الأصل والجذور، بل تعداه إلى السلوك وطريقة مواجهة الموت، فكل من “هاني بعل وكليوبترا” ماتا انتحارا وبالسم، وهذا يشير إلى أن السوري يفضل الموت على أن يُذل من قبل العدو، وما يردده أخوتنا الشيعة “هيهات منا الذلة” ما هي إلا امتداد لصرخة هاني بعل وكليوبترا أمام روما العدو اللدود لكل ما هوة سوري وشرقي.

فمسألة الإقدام على الموت بصدر مفتوح تشير إلى عقيدة (الخصب) السورية التي ترى في الموت حياة أخرى قادمة، لهذا أوجد الفلسطيني/السوري الحديث فكرة “الفدائي” الذي يقدم روحه وحياته فداءً لوطنه وشعبه، غير آبها بالموت ورهبته.

  الفروق الحضارية بين الغرب والشرق

إذا ما توقفنا عند شخصيات هذه الرواية سنجد أن قيصر كان شاذا جنسيا، ويطلب من الآخرين أن يفعلوا به: “يبحث عن شاب نكوج يباشره من الخلف” ص125، بينما نجد الشخصيات الشرقية متزنة تجاه شعبها وتجاه نفسها، ونجد القتل يتفشى بين القادة الغربيين، مقتل “يوليوس قيصر” على يد “بروتس” ابنه غير الشرعي، وهذا يشير إلى انحطاط الغرب حتى في تعامله مع بعضه، بينما نجد المؤازرة والتفاني في العلاقات الشرقية، إن كانت شخصية / داخلية، أم خارجية مع الأعداء.

من هنا نفهم أن من ينتصر هو من يمتلك الأخلاق، من يعفو عند المقدرة، ويقول لأعدائه: “أذهبوا فأنتم الطلقاء” وليس من يقتل ويهدم ويحرق ويشرد ويغتصب، فبالتأكيد سيهزم ويذهب إلى مزبلة التاريخ كما ذهبت روما والفرنجة والعثمانيون من قبل.