بقلم: التجاني صلاح عبدالله المبارك
من أغرب الظواهر والعجائب التي تستحق أن تدرس في الجامعات والكليات المتخصصة في علم النفس والمنطق والجنون معا فيما اتصور، هي تلك القدرة الفذة والرهيبة لبعض البشر على إنكار الحقيقة والانكار المطلق، مثل إنكار الشمس وهي فوق رؤؤسنا جميعا! مع أن هذه الحالة في الحقيقة تدرس بكافة تفاصيلها وتعقيداتها في الكليات والمعاهد العلمية المتخصصة، لكن ربما كان وقعها ومعايشة هذا الانكار اليقيني القطعي والصارم على الواقع، هو ما دعاني لفرض هذا الاستحقاق والمقرر الصعب.
وهو إنكار (على الأقل الذي عايشت مرارته في الواقع) يمارس بثقةٍ مذهلة ومدهشة (وجه الادهاش والذهول هنا بالطبع بما يتركه الانكار والرفض المطلق للحقيقة في نفسي على الأقل أيضا، وربما على الكثيرين، هو الصدمة المرة والاحساس بخيبة الأمل).. يمارس بثقة يندر أن يمتلكها حتى العلماء عند اكتشافهم النظريات!.. لماذا؟ لأنه إنكار متأصل في النفس، ويجعلك تعيد حساباتك في الزمان والمكان والعقل.
حدث هذا في يومٍ بسيط من أيام العمل، فقد ساق الله لي مثالًا نابضا لهذه الفصيلة النادرة من البشر، فقد جاءنا زميلٌ من مدينة امدرمان، أنيق الهندام، أنيق الكلمات، قصيرا، ممتلئًا نوعا ما، فقلت في نفسي: ها هو ذا قد جاء أيضا من يخفّف عنا ملل الأيام، ويشاركنا هم المهنة، كان يحمل حقيبة صغيرة على كتفه ، وعلى عينيه ابتسامة تلمّع كما لو كان عائدًا من معركة فكرية عظيمة.
حيّيته باحترام يليق بمن نزل ضيفًا علينا في غربتنا ونزوحنا، وفتحتُ معه باب الحديث اللطيف، فسألته متوددا عن أماكن عمله السابقة، فقال بثقة من يملك سيرةً مهنية عظيمة:
_كنت أعمل في صيدلية الشهيد عبد المنعم في أم درمان.
فابتسمت، وقلت بعد ان غلبتني الحماسة:
_سبحان الله! أنا أيضًا عملت فيها من قبل.. كانت أيامًا لا تنسى.. وذكريات عطرة مع دكتور عبدالهادي ودكتورة عفراء .
ابتسم هو الآخر وقال مؤيدًا:
_بالفعل، كانت جميلة.
قلت في نفسي، الدنيا حقا صغيرة.. أخيرًا وجدتُ من يشاركني ذكرى تلك الأيام الهادئة التي تفوح برائحة البنزايل بنسلين والرضا والسعادة ، ثم أضفتُ ولم أكن أعلم ان اضافتي ستفتح علي أبواب الخيبة والعذاب الفكري :
_نعم لا زلت أذكر موقعها تمامًا، داخل مركز صحي الشهيد عبد المنعم.
هنا حدث التحوّل، فقد رفع محدثي الضيف البدين رأسه ، وحدجني بنظرة شزراء منكرة ، وقال بثقة اليقين الغيبي:
_لا، لا يا دكتور، الصيدلية كانت على طرف المركز، وتفتح على الشارع العام، ممكن تكون بتتلخبط، الإنسان من طبعه النسيان، ما في مشكلة !
ظننت للحظة أن ذاكرتي أصابها الوهن، ثم رجحت أنها مزحة، فقلت وأنا أبتسم:
_أظن سيادتك تقصد صيدلية تانية، لأن دي أنا كنت مشرفا عليها، داخل المركز تمامًا، ربما انت تخلط بينها وصيدلية أخرى.
ابتسم ابتسامة العارف وقال:
_ لا، لا، أنا متأكد، طرف المركز، تفتح على الشارع العام! يا دكتور يعني لو مررت بالعربية تشوفها قبل ما واحد يفتح خشمه ويخبرك.
سكتّ قليلا، ثم نظرت إليه مثلما ينظر الفيلسوف إلى معضلة الوجود نفسه، وتأملته قليلا ، فوجدت أن الحقيقة عند سيادته ليست شيئًا يُستدل عليه، بل إيمانٌ غيبي لا يجوز الحوار فيه.
هل تم تحويل الصيدلية من داخل المركز إلى طرفه بعد مغادرتي مباشرة؟ أم أن الرجل عاش تجربة أخرى وأصرّ على نسبتها إلى نفس الصيدلية؟ هل يعقل ان كل شيء بات “وجهة نظر”، حتى موقع الصيدلية!،.. كنت كل مرة أقول فيها “داخل المركز” يجيبني : “على الشارع العام!”، حتى كدت أصرخ بالصوت العالي: “يا أخي، والله كنت هناك.
هل يمكن أن أكون مخطئا؟ هل هُدمت الصيدلية وأعيد بناؤها على الشارع؟ أم أن هذا الرجل جاء من عالمٍ موازٍ فيه نسخة أخرى من الصيدلية؟، هل أغضبت هذا الرجل يومًا وأنا لا أدري، فقرر الانتقام بتدمير حقائقي؟ هل يُجري عليّ تجربة نفسية؟، هل هو مختبِر أرسلته جهةٌ سرية ما ليختبر مدى تحمّلي للعبث؟ هل يعقل أن نصوّت غدًا على اتجاه الشرق والغرب، فنقرّر أن الشمس تشرق من حيث نريد نحن؟
في تلك اللحظة، كنت بين خيارين:اما أن أستمر في الجدال العقيم إلى آخره حتى أفقد آخر ذرة من صوابي واتزاني، أو أن أبتسم وأقول لنفسي: خلاص يا صاحبي، مش مشكلة خلّيها تفتح على الشارع.
لكن الفضول عندي كان أقوى من الحكمة، فقلت له للمرة الأخيرة، محاولًا أن أستعيد زمام المنطق وادافع عن الحقائق والثوابت والوجود :
_يا أخي، هل يعقل؟ كنتُ اشرف عليها، وكنت أفتح بابها الداخلي بنفسي!
فأجابني بذات الثقة المتناهية:
_لا يا دكتور، يمكن كنت بتفتح باب تاني، بس هي كانت على الشارع.
توقفت عن الكلام، وأنا أسمع في رأسي صوتا خفيًا يقول:
لا شك ان لديه رسالة، ربما يريد أن يخبرني أن الحقيقة نسبية، أو أن الذاكرة خادعة، أو أنه هو وحده من يعرف الحقيقة المطلقة! هل هو مريض؟ هل هو مدرك لما يقول ؟
منذ ذلك اليوم، كلما رأيت وجهه، أشعر برغبةٍ في سؤاله مجددًا، فقط لأرى هل ما زال ثابتًا على رأيه وانكاره؟ ثم أقول في نفسي: لا، لا تفعل، دع الرجل يعيش سعيدًا بعالمه الموازي، ويفتح الصيدلية في هذا الوجود حيث يشاء، على الشارع العام، تحت الأرض، فوق السطح، في المريخ، المهم أن يكون سعيدًا بعالمه وهو يملك هذه القدرة الفذة والرهيبة على إنكار الحقيقة والانكار المطلق، مثل إنكار الشمس وهي فوق رؤؤسنا جميعا!





