المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

القلد في شرق السودان: عبقرية العرف والسلم المجتمعي

د.صلاح التوم إبراهيم/ السودان

 

إن صدور كتاب “القلد في شرق السودان” عبقرية العرف والسلم المجتمعي: تأليف :

١. بروفيسور حاتم الصديق محمد احمد

٢. بروفيسور حاج حمد تاج السر البولادي

٣. الدكتور إدريس عبدالله محمد الشيخ

٤. الدكتور على حسين عبدالله

يعد إضافة لسلسلة الدراسات الاجتماعية التي أصدرها مركز بحوث ودراسات دول حوض البحر الأحمر في السودان . صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى ٢٠٢٣م عن دار آرثيريا للنشر والتوزيع ، السودان.

والقلد كما هو معروف لأهلنا في السودان، يعنى العهد ، أي العهد الذي يوقع ويتفق عليه بين طرفين متنازعين، بواسطة القيادات الأهلية من نظار وعمد مشايخ ، وهو يعد هدنة، لمعالجة أسباب النزاع وإعطاء كل ذي حق حقه عند قبائل شرق السودان، لضمان عدم تجدد النزاع والصراع ، ومن ثم التصالح التام وعودة الحياة إلى طبيعتها.. قال تعالى : “وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا” الأسراء : 34.

صدور هذه الدراسة العظيمة ضمن سلسلة الدراسات الاجتماعية التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، تنشط الذاكرة وتلفت الإنتباه لهذا النظام العرفي المهم جدا، ولاسيما لأهلنا في شرق السودان، وقدمت الدراسة أضواء مهمة للتعريف بهذا النظام المجتمعي الفريد كأحد منتجات الشخصية السودانية المتسامحة.

 وبلا شك أن الدراسة تعد كتابا مهما للغاية لعدة اعتبارات :

أولا_ لما تحمله بين طياتها من نظم وتقاليد مجتمعية ما زال لها القِدْحُ المُعَلَّى في رتق النسيج الإجتماعي والمصالحات بين قبائل شرق السودان.

ثانيا_ الدراسة رسالة مهداة إلى سكان شرق السودان عامة، ولا سيما قبائل البجة ذات التداخل القبلي الممتد ، حيث أن هذه المجموعات السكانية الأصيلة في شرق السودان تخضع عادة إلى نظام قبلي ملتزم في كثير من القضايا؛ وما يتبعه من مواثيق وعهود وعرف دائما أقوى من أي قانون وضعي آخر.

ثالثا_ اتبع فريق البحث لجمع البيانات والمعلومات عدة طرق منها: المقابلات والاستبانة واللقاءات مع المختصين والمعنيين بأمر عقد المصالحات “القلد” من عمد ومشايخ ونظار ، فالدراسة الميدانية دائما ما تمنح الموضوع متانة وقوة ، وأكاد أجزم أن أهداف الدراسة وغايتها تحققت قبل نشرها، وذلك من خلال أدوات البحث المتبعة ، والسمنارات التي عقدت والتي لامست الوجدان ولفتت الإنتباه لأهمية هذا النظام الإجتماعي الذي يحظى بالاحترام والالتزام من مكونات المجتمع.

رابعا: جاءت الدراسة في وقت نحن أحوج ما نكون إليها، خاصة في ظل ما يشهده الشرق من نعرات ومشاحنات من حين إلى آخر ، تكاد أن تعصف بالنسيج المجتمعي المتلاحم والمترابط طوال عهوده ، وبفضل قيادات الشرق وسكانه ظل وحدة مجتمعية فريدة، ومنصهرة في بوتفة واحدة ، لا تكسرها ايادى الغدر والخيانة مهما تكالبت عليها.

خامسا_ َأتت الدراسة بدوافع وطنية اجتماعية ، أهمها إبراز دور “القلد” كعنصر رئيس وأساسي في فض النزاعات القبلية، بالإضافة إلى المساعدة في تقوية أواصر التعايش السلمي بين مجتمعات المنطقة.

سادسا_ أثبتت الدراسة أن المجتمع السوداني مجتمع متسامح إلى أبعد حدود، ومجتمع يتحلى بروح الحب والإخاء والإنسانية في أسمى معانيها.

سابعا_ أثبتت الدراسة أن تجربة نظام “القلد” في حل المشكلات وفض النزاعات يمكن أن يكون قدوة أو أنموذجا ومثالا يحتذى به في كل مناطق السودان، لخلق مجتمعات متسامحة ومتعايشة في أمن وسلام .

إن نظام “القلد” في شرقنا الحبيب مفتاح الحل لكثير من القضايا المهمة خاصة تلك المتراكمة عبر الأزمان، مثل مشكلات التداخل اللغوي والنزاعات الحدودية والضبط الاجتماعي، إذا أخذنا في الاعتبار أن هذا النظام المجتمعي ملزم لكل أفراد القبيلة، ومكان احترام وتقدير من الجميع .

كما يعد نظام “القلد”عرفا مقدسا وملزما للجميع والخارج عليه يعد منبوذا معزولا مبغوضا يتبرأ منه الجميع في مجتمع شرق السودان ، وقد ساعد كثيرا في رتق النسيج الإجتماعي وفض النزاعات والحروب التي تستعر من وقت لآخر ، وفيه توجه النصائح وكل ما من شأنه ينفر من الحرب والخصومات، كما قال زهير بن أبي سلمي وهو يصور الحرب بأشنع الأوصاف ليتقى شرها من ألقى السمع :

وماالحرب الا ما علمتم وذقتموا ..وماهي الا كالحديث المرجم

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ..وتضرم اذا أضرمتموها فتضرم

فتعرككم عرك الرحى بثقالها ..وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم

فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ..كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

حقيقة إن الكتاب بذل فيه مؤلفوه الأفذاذ جهدا كبيرا ومقدرا ، وخرج بنتائج مهمة ، وتوصيات جديرة بالاهتمام، نأمل أن ترى النور ، خاصة فيما يتعلق بكتابة وتدوين القلد وتضمينه في القانون السوداني .

التحية والتقدير للمؤلفين الأوفياء المنحازين لقضايا أمتنا السودانية في الشرق وفي كل ربوع البلاد،

وترفع لهم القبعات لبذلهم نفيس وقتهم لإصدار هذه الدراسة القيمة والمهمة والممتعة، فإن الكاتب والمؤلف الذي يهتم بقضايا أمته لهو جدير بالاحترام والتجلة، فالدراسات التي تكرس جهدها لخدمة القضايا الأساسية في المجتمعات قليلة جدا، وكثيرا ما لا تحظى بالاهتمام الجاد.

____________

د. صلاح التوم إبراهيم

مركز بحوث ودراسات دول حوض البحر الأحمر _ السودان