بقلم: صلاح معاطي
انجذب كالوتر، انحنى كالقوس، اندفع كالسهم، انطلق كشعاع ضوئي في فضاء شاسع، ضمن حزمة ضوئية خرجت إثر ارتطام بروتونين ببعضهما. تلامسا رغم أنفهما، تعانقا مجبرين، فمن يجبر كائنين متشابهين في كل شيء على التجاذب، والجاذبية لا تكون إلا بين مختلفين. تفجرا كالإعصار، ثارا كالبركان، تحللا بين “نيوترون” متعادل لا يعرف الاستقرار، وبوزيترون موجب اضمحل سريعا كأنه لم يكن، وبقي هذا الشعاع الغامض الماكر.
انكمش جسده داخل مقعده الأثير أمام المجهر الإلكتروني فائق السرعة، مقتحما الزمان والمكان، داخل مركز الأبحاث، الملحق بمصادم الجسيمات المنشأ حديثا في مكان ما داخل صحراء قفر، لا تعرف سوى تشقق الأرض والهجير نهارا، وزمجرة الرياح والزمهرير ليلا، أحيط بسرية تامة، فلا أحد يعلم مكان ذلك النفق المدفون في أعماقها بطول ما يقرب من خمسين كيلو مترا، حيث يتم دفع الجسيمات كالديوك المتصارعة من طرفي النفق بسرعة الضوء لتصطدم ببعضها بقوة في منتصفه، مخلفة انفجارا وانبعاثا للعديد من الجسيمات، ليبدأ البحث عن ذلك الجسيم الغامض، أول كائنات هذا الكوكب. والذي تكون في أعقاب الانفجار العظيم.
لمعت عيناه بانبهار وهو يشاهد حركة الجسيم على شاشة المجهر، كمن يشاهد فيلماً لبروتون يتم طيه أو نواة تتشكل، حيث يجري تتبع كل الكترون على حدة وبدقة كاملة في “الزمكان”. فالزمن أساسي في هذا المجهرِ الذي يُمْكِنهُ أَنْ يَتعقّبَ أي تغييرات تحدث بالمقياس الذرّي.
ياله من جسيم ضئيل ضئيل، بلا كتلة أو شحنة، ولتحري الدقة، كتلته متناهية في الصغر، لا تكاد تذكر، لكن طالما لها قيمة، فلابد أن تذكر.
منذ ظهر هذا الجسيم الغامض لم يخمد له بال، لم يغمض له جفن، أقض الملعون مضجعه، وحرمه النوم والراحة ليلا ونهارا، وإيغالا في تعذيبه راح يذيقه صنوف العذاب، بدا أولا كنقطة باهتة، أدام النظر إليها محاولا التعرف على كنهها، وكأن الجسيم شعر بأن عينا تراقبه، فتحول سريعا إلى موجة لعوب، تلاشت لبرهة، وعادت للظهور من جديد. ولكن هذه المرة كموجة لاهية، صانعة لنفسها مدارات هلالية وكأنها راقصة ديسكو جعلت من الفراغ الكوني حلبة للانطلاق بحرية.
أسئلة كثيرة تلاحقه لم يعثر لها عن إجابة.. ما كنه هذا الجسيم؟ ولماذا يسلك هذا السلوك الغريب المختلف عن كل الجسيمات الأولية، كالإليكترون أو البروتون أو النيوترون؟ هل يكون هو ذلك “البوزون” الذي تنبأ به آينشتين ليحل لغز الجاذبية؟ والذي يحمل بين طياته إحدى قوى الطبيعة، فيمنحها كتلتها واستمراريتها في الوجود؟ ومات قبل أن يحقق حلمه.. عاد يتابعه بنفاد صبر.
ها هو يهتز ويدور، ينثني ويتمدد، يتخذ شكل عقلة تدور حول محورها كالنحلة الدوارة، وفي نفس اللحظة تتحول إلى حلقة تلف حول نفسها لفات مغزلية، ثم فجأة يتألق كنجم متوهج يمرق في فضاء الشاشة، سرعان ما يخبو ويضمحل، ليعاود الظهور من جديد كوتر ذي ترددات غامضة.
ليت الأمر يقف عند هذا الحد.. تمدد الوتر فجأة على طول الشاشة بشكل مستعرض، وبدأ ينقسم إلى قطع ضئيلة من أوتار متباينة الأشكال والأطوال، فبدت أشبه بأوتار الكمان، راحت تهتز وترتعش بتواترات مختلفة، وكأن قوسا خفية تعزف عليها، كل قطعة وترية لها اهتزاز خاص بها. تحدد طبيعتها وخواصها. بعضها يهتز على شكل جديلة مفتوحة، والبعض على شكل عروة مغلقة. عند اهتزازها تتحول إلى نيوترينو محايد، وعند اهتزازها مرة ثانية تتحول إلى كوارك؛ من خيوط صغيرة تهتز في كل اتجاه، تتحد معا لتشكل جسيمات مركبة.. مع زيادة الاهتزاز تتحول الأوتار إلى جوقة تعزف لحنا واحدا، طرب له بالرغم أنه لم يسمعه، لكنه استشعره وتملك وجدانه. راح يدق بقدميه ويصفق بيديه، ويرقص ويهتز مع هزات الأوتار على شاشة المجهر الفائق. تناهى إلى سمعه همهمات، ما لبثت أن تحولت إلى هسيس، ثم أزيز، ما لبث أن تحول الأزيز إلى ضجيج أصم أذنيه.
شيئا فشيئا؛ بدأت الأوتار تومض ومضات فوسفورية، بألوان تنوعت بين الأحمر والأخضر والأصفر، تتكرر بمتواليات عديدة متباينة، وكأنها لغة خاصة، راح الوتر الأصلي يرسمها على شاشة المجهر. ما لبث أن تجمع الوتر مرة أخرى، اصطف مع زملائه الأوتار مكونا تشكيلات وترية منتظمة، ذات نكهات خاصة، لها رائحة مميزة، بدأت كرائحة زكية تضوع عبقها في المكان وانساب عبيرها الجذاب. لكن سرعان ما استحالت إلى رائحة كريهة زكمت أنفه.
يا لهذا الجسيم.. وتر ضئيل ضئيل، له صوت ولون ورائحة ولغة خاصة، بل وينقسم سريعا حتى بلغت الأوتار على شاشة المجهر عشرات الآلاف، مئات الآلاف، تتزايد بمتوالية هندسية.. حتى صارت تعد بالملايين.
لوهلة اختلط عليه الأمر، شعر أنه انتقل إلى بعد زمني أو كون مواز، أوعالم آخر غير عالمنا، ازدحمت الشاشة بزخم من الأوتار متناهية الصغر. الأوتار، ما هي إلا سكان هذا العالم الجديد.. سرعان ما تداخلت الألوان فيما بينها، لكل وتر طبقته اللونية الخاصة به، أصبح هناك طبقات لونية لا حصر لها.. الاختلافات اللونية بين الأوتار شاسعة وبدرجات متفاوتة، حتى يكاد ينعدم التطابق اللوني. صار لكل وتر لونه المميز وسمته الخاص ورائحته المختلفة وصوته المعبر. الأوتار تصطدم ببعضها البعض، تتحرك في كل اتجاه حتى ضاق عليها المكان..
راح يضغط على الأزرار لتكبير الصورة أكثر فأكثر، الأوتار تكبر شيئا فشيئا، صارت لها ملامح، تكونت لها أهداب وأطراف وأجساد، أصبح لها رؤوس وعيون وآذان وأنوف.. ما الأوتار سوى مخلوقات تشبهنا إلى حد كبير، بل نحن نشبهها، ظهرت للأوتار وجوه مألوفة، كأنه يعرفها. راحت يده تضغط على أزرار المجهر بشكل هستيري.. توقف السهم عند شخص بالتحديد، وجه يعرفه، راح يحدق له في الشاشة.. وجه يشبهه إلى حد كبير، بل هو نفسه.. كأنه ينظر في المرآة..
فجأة استرعى انتباهه عبارة كتبت أعلى الشاشة:
“تم تحديد الهدف بدقة، طوله، عرضه، ارتفاعه، زاوية ميله على سطح الأرض، نوع البوزون الحامل له، طبقة لونه، لغته، رائحته المميزة، شدة صوته، مقدار الشحنة، التركيب الجيني، البصمة الوراثية، نكهة الكوارك الخاص به، درجة اهتزاز الوتر. انتهى”.
حتى لحظة كتابة هذه السطور؛ لم يتم تحديد سبب مقتل عالم الفيزياء العربي “مكتشف الوتر”.
صلاح معاطي