المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

بضعة أيام من الحنين في رحلة الحكلي

عبد المنعم همت*

إن الارتحال شغف يداعب أمواج التحدي التي بدواخلنا فتأخذنا الخطى إلى حيث البعيد ، فنحمل قارورة ماء على أكتاف الأمل فهي ليست للشرب فقط ولكنها عصارة الحياة ومكوننا الرئيس ليبقى الماء والطين أقرب إلى الروح في تحلياتها وتجلياتها لتصل إلى سفوح السمو الإنساني الذي يخلط الحق والخير والجمال على ذرات الحياة لمزيد من التفكر والتعقل ، هكذا بدأ الرحالة بخيت العمري الحكلي رحلته سيراً على الأقدام من مدينة وادعة محاطة بزخات الفرح وعطر الحياة هي صلالة مدينة الجمال والأصالة ..خرج سيراً على الاقدام من محافظة ظفار ذات البعد التاريخي المشحون بالشموخ والتميز ونشر ثقافة السلام والتسامح على مسام الأرض معطرةً الأفق ببخور اللبان وضحكات الأطفال وشموخ النساء وكبرياء الرجال.

يقطع العمري أكثر من 2500 كم من صلالة إلى مكة ليضيف اسهاماً باذخاً لأدب الرحلات وليقف على التراث والجغرافية والتاريخ الممتد في هذه المنطقة في محاولة لإحياء ثقافة التواصل الإنساني النبيل فجاءت كل خطوة دعوة للتلاقي. 

كان الناس قبل عقود يقطعون المسافات الطوال من ظفار إلى مكة المكرمة لأداء الحج والعمرة وقلوبهم معلقة بالأراضي المقدسة ولم تثنهم الصعاب فقدموا إليها راجلين يحملون الشوق والأمنيات وقصص يحكيها التاريخ أما الآن فالوصول إلى مكة يأتي دون مشقة.

شهد بخيت العمري في رحلته كثيراً من الأحداث ولامس نبض الرمال والصخور متزوداً بشوق دفين إلى اكتشاف الحنين! وصل ليلاً إلى مكان وقد نال منه التعب فلاحت له خيمتان ، توجه نحوهما فاستقبلوه بالندى وابتسامات تفوق حد النقاء فأكل وشرب محفوفاً بنكهة الاصالة ، تبادلوا معه أحاديث العرب الشجية ، أدخلوه إلى الخيمة التي أعطته الدفء من برد شهر يناير القارص حيث نام بعمق رغم صفير الرياح فلقد كان الجسد متعباً بينما الروح ترفرف على محيط التراث العربي الأصيل وفي الصباح وجد أن الأسرة التي استضافته تنام خارج الخيمة الأخرى رغم البرد الرهيب وعندها تحركت في دواخله نزعة المعرفة التي يحملها كرحالة يحاول اكتشاف العالم دون تطفل ، عرف حينها أن الخيمة الثانية تستخدم كمطبخ وبها كثير من أغراض الاسرة ولا تصلح للنوم ! هنا أدرك أن القصص التي تُروى عن الشهامة والكرم العربي ليست نسجاً من الخيالي بل هي غرس فخيم وفعل راسخ يأتي من قلب الصحراء فيحول الفراغ العريض إلى نشوة انتصار دون رياء، في الرحلة الممتدة من صلالة مرورا باليمن إلى المملكة العربية السعودية وقف على أكثر من (حاتم طائي). 

من خلال التجربة توصل الرحالة بخيت الحكلي بان هناك مفاتيح اجتماعية لها تأثيرها العالي في حياة الناس ومن هذه المفاتيح الاحترام لزعماء القبائل فلقد حمل معه رسالة من الشيخ سعيد بن تمان مبارك مغراب العمري إلى الشيخ على بن سالم الحريزي تضمنت بضع كلمات كانت بمثابة الجواز الدبلوماسي الذي مهد الطريق أمام الرحالة ولقد وقف على أن الترابط الاجتماعي الممتد منذ آلاف السنين كنسيج متماسك من احترام العهود والمواثيق ومن هنا فمن المهم دراسة تأثير العولمة حالياً ومستقبلاً على التراث العربي والإسلامي وعن قدرة التحولات العالمية الكبيرة في تغيير منظومة القيم وإعادة صياغتها بصورة تلبي طموحات الاستعمار الجديد.

*كاتب وباحث سوداني مقيم في الامارات