د/عبدالوهاب القرش
السنن الإلهية لا تتجلى إلا في ميدان الحياة، وبين معسكر الكفر ومعسكر الإيمان، هنا فقط تتجسد السنن الإلهية وآثارها ومقتضاها على الواقع العملي، وتشخص لكل ذي عينين: يراها، ويتتبع آثارها، ويلحظ مقتضاها يعمل على الأرض عمله، ويفعل فعله؛ بناء على كسب البشر وفعل البشر.
والسنن القرآنية فيها العديد من بشارات النصر التي هي بمثابة المقويات للإيمان والمثبتات لليقين. وما كنا نظن أن نعيش لنرى تلك المبشرات والآيات تتحقق وتظهر أمام أعيننا وعبر ما تنقله الشاشات، وذلك في الطوفان الهادر الذي طاف المعمورة، فهو الطوفان الذي أخذ الألباب، وطارت بهديره العقول، وتعلقت به الأفئدة بما تراه من المعقول وغير المعقول. حتى رأينا تحقق العديد من آيات الله مع بداية هدير طوفان الأقصى وفي أثنائه،
وقد مثلت معركة طوفان الأقصى مسرحا كبيرا تجلت وتجسدت على خشبته السنن الإلهية: مثل: التدافع، الأخذ بالأسباب، النصر، التمكين، وفي السطور الآتية نتحدث عن بعض السنن على سبيل المثال من خلال مشهد معركة طوفان الأقصى.
سنة التدافع:
من هذه السنن الإلهية التي تجلت في مشهد طوفان الأقصى سنة التدافع؛ فلا يمكن أبدا أن يتجلى الحق ويبرز الباطل إلا بإعمال سنة التدافع، ولولا هذه السنة لاختلطت الأمور وفسدت الأرض، وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد، كما عبر القرآن الكريم في موضعين، الأول: {وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ}(البقرة:251). والثاني قوله تعالى {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}(الحج:40). وقد تجلت هذه السنة في معركة طوفان الأقصى ، فالاحتلال الصهيوني لن يرحل بالسلم ولا بالمفاوضات ولا بمجلس الأمن ولا بهيئة الأمم، وإنما بالانسلاك في التدافع الذي يقتضي المقاومة الجهادية بالسلاح الرادع لهذا العدو، والمضعف له، والدافع نحو إجلائه، وإلا فإن الأرض لا تتحرر بالسلام والوئام وتقسيم الأرض، وإنما بالجهاد، والجهاد وحده، فلا عز إلا بالجهاد، وما ترك المسلمون الجهاد إلا ضرب الله عليهم الذل حتى يرجعوا إلى دينهم.
سنة الأخذ بالأسباب
من السنن المهمة في القرآن الكريم سنة الأخذ بالأسباب، ولو تأملنا سير الأنبياء لوجدنا ذلك متجسدا في تاريخ دعوتهم لأقوامهم، ولا نجد أفضل من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فكل سيرته أخذ بالأسباب المادية والمعنوية، وحسبنا فقط التأمل في الحدث الذي غير مجرى التاريخ وهو الهجرة النبوية، فإن كل ما فيها أخذ شامل بالأسباب المادية والمعنوية بما يقوم نموذجا يحتذى وبه يقتدى.
وإن مقاومة المحتل لابد لها من الأخذ بالأسباب، وذلك يكون بإعداد القوة اللازمة لمقاومة هذا المحتل وتحرير الأرض والمقدسات، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡءࣲ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ}(الأنفال:60). وقد أعدت المقاومة لجيش الكيان الصهيوني ما أرهبه وأرعبه، وقذف الخوف في قلوب جنوده وقادته العسكريين والسياسيين، ودفع المستوطنين إلى الهروب. وقد رأينا ما حقق الله لهم بترهيب العدو ومن والاه وناصره وطبع معه، وذلك نتيجة ما ألتزم المجاهدون به من الإعداد المناط بهم وهو قدر استطاعتهم.
سنة النصر والتمكين:
لا يتحقق النصر إلا بالتدافع، ولا يكون التدافع إلا بالأخذ بالأسباب، وهذا يقتضي التغيير في القناعات والواقع، وتغيير ما بالأنفس، كما أنه يعني الاستعمال وليس الاستبدال، ومن هنا فإن السنن الإلهية في القرآن الكريم منظومة متكاملة يتحرك بعضها مع بعض، ويرتبط بعضها ببعض.
وعلى الرغم من تكدس الأسلحة كمًّا ونوعا، وحصول إسرائيل على الضمانات المتكررة والروتينية من الإدارات الأميركية المتعاقبة التي تؤكد بأقوى العبارات التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل وتفوقها على جميع أعدائها الفعليين والمحتملين؛ فإن كل ذلك لا يؤدي إلى تلاشي ظاهرة الخوف والقلق بين اليهود ، وتجلى ذلك في قوله تعالى:{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}(الحشر:14)، واليوم نرى جنود الاحتلال يتحصنون في المدرعات والدبابات وإلقاء القذائف من الطائرات ولا تكاد تراهم يمشون على الأرض إما مهرولين أو من وراء ساتر، كما ظهرت الاختلافات بينهم في مجلس الحرب والبرلمان، وخروج المظاهرات الشعبية المطالبة بتحرير الأسرى المحتجزين لدى المقاومة والمطالبة باستقالة الحكومة.
والله تعالى قد بين معالم النصر في القرآن الكريم، فقرر أن النصر من عند الله: {وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ العزِيز الحكيم}(آل عمران:126)، وبين أن الله لا ينصر قوما إلا إذا نصروه: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تَنصُرُوا۟ ٱللَّهَ یَنصُرۡكُمۡ وَیُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ}(محمد:7). ونصر الله يتجلى في طاعته والقيام بمقتضى منهجه ومتطلبات شرعه.
وتجلت سنة الله في قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}(يس:9)، وذلك عند عبور الجدار العازل رغم كل الاستعدادات المادية التي اتخذها دولة الاحتلال، لتحصين نفسها فوق الأرض وتحتها وعبر الكاميرات والأجهزة المستشعرة والحساسة، وعند إلصاق المجاهد العبوة اللاصقة على بدن الدبابة ليدمرها من المسافة صفر، وعند زرع لغم “شواظ” تحت جنزير الدبابة لتنسفها وتنسف المتحصنين فيها.
وتجلت:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}(الأنفال: 17). ونشهد مسلمون وغير مسلمين عرب وغير عرب بأن الله عز وجل سدد رمي المقاومين، وأن أسلحتهم بدائية الصنع قد دمرت آليات الكيان الصهيوني ودباباته المتطورة، وقنصت جنوده وقادته.
وتجلت:{ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ}(المائدة: 23). فكان دخول صباح السابع من أكتوبر 2023، دخولا جعل الداخلين هم الغالبون، وقد أسروا وغنموا وتحصلوا على معلومات استخباراتية مهمة، فتلك الغلبة جعلت العدو مشتت الفكر وفاقد للسيطرة، وأذاقوهم هزيمة سجلها التاريخ ولن تمح الأيام عارها.
وتجلت:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}(البقرة: 249). ويشهد الجميع بأن فئة قليلة من المجاهدين الصابرين في غزة غلبوا جيش الاحتلال الصهيوني في بضع ساعات، وغلبوا كل الداعمين له بالمال والسلاح منذ بدء العدوان على غزة وحتى الآن.
وتجلت: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} (آل عمران:151)، بما رأينا من رعب في عيون وتصريحات قادة جيش الاحتلال وجنوده، وشهادات الخارجين منهم من المعارك.
وتجلت: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40). ونحن نشهد بأن الله عز وجل نصرهم، في السابع من أكتوبر وبعده، ونتائج هذا النصر نجدها في آثار طوفان الأقصى العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإيمانية والتربوية.
وتجلت: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}(الحج: 38). ونشهد أن الله عز وجل يدافع عن المجاهدين ويدافع عن أهل غزة، فقد اجتمع عليهم الصهاينة ومعهم الغرب بقضه وقضيضه، وتواطأ معهم العرب والمسلمون، ومع ذلك لم ينالوا منهم ما سعوا وخططوا لنيله منذ السابع من أكتوبر وحتى الآن.
وتجلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}(الحج:39). وتشهد شعوب الأرض قاطبة بأن الفلسطينيين عامة والغزيين بصفة خاصة ظلموا ظلما شديدا على مدار 100 عام، وأخرجوا وهجروا من ديارهم بغير حق، وأن ما يجري في غزة وفي فلسطين هو سنة إلهية ماضية إلى يوم الدين، وأن النصر من عند الله عز وجل وأنه في نهاية المطاف للمؤمنين المجاهدين الصابرين.
وتجلت {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}(إبراهيم:27)، وذلك في ما رأينا من صبر وثبات عند أهل غزة رغم كل إصاباتهم من هدم لبيوتهم وقتل أحبابهم، وما أصابهم من الخسائر المادية والمعنوية، واستمرار الحصار ومنع وصول المساعدات الغذائية والطبية والاحتياجات الرئيسية لهم، فتسمع أحدهم يصبر أخيه ويواسيه بقوله: “راح عند ربنا اللي أرحم منا”، أو يصبر نفسه بقوله: “معلش”، أو “هاذي روح الروح”، أو يعلم غيره بقوله: “كلنا مشاريع شهادة”.
ونشهد أن الناس جمعوا للمقاومة الباسلة ولشعب غزة الأبي، وتكالب عليهم الغرب وتواطأ معه الشرق، ولم يزد ذلك المقاومة والشعب إلا صلابة وقوة وإيمانا، ونرجو من الله عز وجل أن ينقلبوا بنصر وعزة وتمكين.
وتجلت {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(آل عمران:169-170)، فقد رأينا الشهيد الساجد الحافظ لكتاب الله “تيسير أبو طعيمة” الذي صورته طائرة الاستطلاع الإسرائيلية ونشرت مقطع الفيديو بتاريخ 29/12/2023، بعد أن أصابته شظية في ظهره فجلس في زاوية رافعا سبابته وناظرا إلى السماء، ثم ألقى نفسه ساجدا ليستقبل الآخرة ويلقى ربه شهيدا ساجدا.
أما عن سنة التمكين فلها قوانينها ومعالمها، وبناء على ذلك فإن كل تمكين يعد نصرا؛ لأنه لا يكون إلا به أو بعده، وليس كل نصر تمكينا، فكم حدثت انتصارات شكلية، لكن لم يترتب عليها تمكين، ولا يتحقق التمكين إلا بعد النصر.
ونحن نرى بإذن الله تعالى أن معركة طوفان الأقصى قد تحقق فيها النصر للمسلمين بالفعل وذلك منذ يوم السابع من أكتوبر 2023م، وهم بهذه المعركة في طريق التحرير الذي بدأت تلوح بشائره في الأفق، فقد كنا نستبعد التحرير أو اقترابه، لكن معركة طوفان الأقصى جعلت النصر ممكنا، والتحرير في الأفق باديا.
سنة الابتلاء والتمحيص:
هذه السنة المطردة الثابتة تعمل الآن عملها بإذن ربها – سبحانه وتعالى – لتؤتي أُكُلَها الذي أراده الله عز وجل، ومنه اللطف والرحمة من الله – عز وجل – والمتمثل في تمحيص المؤمنين في فلسطين وخارجها، وتمييز الصفوف حتى تتنقَّى من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة وينكشف أمرهم للناس، وحتى يتعرف المؤمنون أنفسُهم على أنفسهم وما فيها من الثغرات والعوائق التي تحول بينهم وبين التمكين والنصر، فيتخلصوا منها ويغيروا ما بأنفسهم؛ فإذا ما تميّزت الصفوف وتساقط المتساقطون في أتون الابتلاء، وخرج المؤمنون الصابرون الموحدون الصادقون منها كالذهب الأحمر الذي تخلَّص من شوائبه بالحرق في النار؛ حينها تهب رياح النصر على عباد الله المصطفَيْن الذين يستحقون أن يمحق الله من أجلهم الكافرين، ويمكِّن لهم دينَهم الذي ارتضى لهم. وقبل هذا التمحيص والتمييز؛ فإن سنة محق الكافر وانتصار المسلمين التي وعدها الله – عز وجل – عباده المؤمنين؛ لن تتحقق. يقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْـمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}(محمد:13)، وقال الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}(آل عمران:179) ، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْـجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْـمُؤْمِنِينَ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا…}(آل عمران:166-167).
وتجلت: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}(النساء: 104). وبالفعل لم تهن المقاومة ولم تحزن على ما جرى في طوفان الأقصى، ويشهد العالم أجمع بأن الكيان الصهيوني قد مسه القرح، وأن الله عز وجل اصطفى من أهل غزة آلاف الشهداء، وشهد معنا العالم بأن طوفان الأقصى محص المؤمنين، وفضح المنافقين والصهاينة العرب على رؤوس الخلائق.
وتجلت: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ . أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.(آل عمران: 138-142). وتشهد معنا الناس بأن المقاومة لم تهن ولم تضعف في مقاومة الاحتلال، ويشهد العالم بأن ما يجرعه الاحتلال من آلام وهزائم وخسائر بشرية وسياسية وعسكرية واقتصادية، يفوق ما أصاب المقاومة والشعب الفلسطيني من جراح ومصائب، وأن الكيان الصهيوني وداعميه يرجون السلامة، وأن المقاومة في غزة تريد النصر والعزة أو الشهادة.
وتجلت: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ . إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(آل عمران: 173-175).والجميع يرى بأم عينه بأن المقاومة لم تهن ولم تحزن على ما جرى في طوفان الأقصى، وشهدوا بأن الكيان الصهيوني قد مسه القرح، وأن الله عز وجل اصطفى من أهل غزة آلاف الشهداء، ونشهد أن طوفان الأقصى محص المؤمنين، وفضح المنافقين والصهاينة العرب على رؤوس الخلائق.
الولاء والبراء:
والولاء والبراء حجر الأساس في قوة المسلمين، فعندما ترى المسلمين يتمسكون بهذه العقيدة فهم يترجمونها عملياً بشكل صحيح وسليم، يقول الإمام ابن تيمية:”لا يجتمع الإيمان واتخاذهم (الكفار) أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه”، ونحن عندما نرى بعض من يذهب إلى اليهود ويطبّع معهم فهو ابتعد عن هذه العقيدة؛ لأن اليهود الصهاينة معتدون ومغتصبون لأرض مقدسة لدى المسلمين، فكيف نطبِّع معهم، ونبرم معاهدات وهم قد خانوا الله ورسوله والمؤمنين، وليس لهم مواثيق ولا عهود، وإنما هم أهل غدر وخيانة؟!..وتجلت هذه القضية في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(المائدة:51). وقد رأينا الخذلان العربي والإسلامي لأهل فلسطين ولإخواننا في غزة، والذي يوصل إلى حد التواطؤ مع العدو الصهيوني على قتلهم بالحصار والجوع والمرض، ومنع وصول المساعدات الإنسانية، وتزويد العدو الصهيوني بالسلاح والطاقة والمواد الغذائية، بل إن هناك طائفة من العرب والمسلمين، اتخذوا اليهود والنصارى أولياء، وتآمروا على إخوانهم في غزة، وأسلموهم للعدو الصهيوني الذي يعيث في الأرض فسادًا ويستهدف البشر والحجر، ويهلك الحرث والنسل.
وتجلت {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}(الأنفال:73)، فقد رأينا الجسور الجوية والبحرية لمد دولة الاحتلال بالسلاح والتموين، كما تجلى ذلك في الزيارات العديدة لقادة دول الغرب لدولة الاحتلال، ومعارضتهم لأي مشروع أممي يسعى لإيقاف الحرب في غزة.
فهذه بعض آيات الله التي تتجلى في الطوفان الطواف على العالم كله، ولعل لهذا الطوفان ما بعده، وربما هي صفحة من صفحات التاريخ بدأت بالطي، وفتح صفحة جديدة ليكتب فيها تاريخ جديد، ولا شك أنه لن يكتب إلا بدماء كثيرة وتضحيات عظيمة ونيات صادقة ونفوس كبيرة، ولعل هذا الطوفان سيكون مغيرا لوجه الأرض ومخرجا لكل متخاذل وخائن ومتعاون مع المحتلين، كما غير طوفان سيدنا نوح عليه السلام وجه العالم وأخذ كل ظالم حتف أنفه، كما قال تعالى:{فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}(العنكبوت:14).
وهكذا فإن التأمل في مشهد طوفان الأقصى في ضوء السنن الإلهية أمر بالغ الأهمية والخطر، وهو ما يجعل المسلمين يعيدون النظر في واقعهم، وفي تصورهم، وفي ثقافتهم، ويجعلوا للسنن الإلهية منها مكانا عليا؛ فلا أمل في نهضة ولا نصر ولا رفع راية للإسلام، أو صناعة مشروع لنهضة المسلمين إلا والسنن الإلهية في القلب منه، تلك السنن التي أقام الله عليها الحياة والأحياء، والكون جميعا.
باحث في الفكر الإسلامي