المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

“تغيير الحياة”! أو نحو “فنّ للعيش” جديد 

محادثة مع ” إدغار موران            تدوين المحادثة: جان فرانسوا دورتييه                                  ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

 

“إنّ إصلاح الحياة هو في الآن نفسه مغامرة داخلية ومشروع حياة ومشروع جماعيّ.” (إ. موران)

“إنّ التطلّع إلى هذا الفنّ الجديد للعيش هو بصدد الظهور في المجتمع بموجب الشرور الناتجة بالذات عن أنماط حياتنا الراهنة. إنه انطلاقا من هذا الانتظار يمكننا رسم ما يمكن أن يكون إصلاحا للحياة.” إ. موران)

      ” المهم أكثر هو أن نعيش حياتنا لا أن نلهث وراءها” (موران).

   ”  يقوم ” العيش الكريم ” على بعض المبادئ :  أولوية الكيفية على الكميّة، والكائن على الملكية، ويجب  أن تكون الحاجة إلى الاستقلالية والحاجة إلى الجماعة مجتمعة ، وعلى شعرية الحياة وفي النهاية الحبّ الذي هو قيمتنا ولكنه أيضا حقيقتنا الأسمى.” (موران).

 

إدغار موران في مكتبه

******

    لا تمثل عبارة “تغيير الحياة”، شعار الشاعر أرتيير ريمبو، اليومَ، تطلّع فرد بل يجب أن يكون شعار عصرنا. تواجه الإنسانية تحدّ كبير: هي تدعو إلى سياسة حضارة تفترض أيضا إصلاحا للحياة.

   تخصّصُ جانبا كبيرا من مؤلفك “الطريق” لتعريف “إصلاح الحياة”  الذي يصاحب ويبرّر سياسة التحديّات الكبرى للإنسانية. ماذا تعني بذلك؟  

    إ.موران:

 فعلا،  يرسم “الطريق” الذي أقترحه أفقا آخر غير الأفق الذي يقودنا إليه التاريخ المعاصر. إنّ كوكب الأرض منخرط في مسار جهنمي يقود الإنسانية نحو كارثة متوقّعة. يمكن لتحوّل تاريخي وحده أن يسمح بحلّ الأزمات- الكبرى والمتعدّدة- الإيكولوجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تهدّد وجود حضاراتنا بالذات التي هي في طريق التوحيد.

  لا أرسم في كتاب ” الطريق” “برنامجا” سياسيا، بالمعنى الحرفي للكلمة، بل مسلكا، طريقا مصنوعا من ترابط عدّة طرق يجب علينا التوجّه نحوها من أجل مجابهة تحدّي أزمة الإنسانية. تمرّ “سياسة الإنسانية” هذه عبر إصلاحات اقتصادية وسياسيّة وتربويّة وإعادة تكوين الفكر السياسي وهو ما أحاول رسم حدوده. تعني هذه الإصلاحات للمجتمع أيضا “إصلاحا للحياة”. إنّ التطوّر مكنة فتاكة للإنتاج / الاستهلاك / التدمير تهرع بنا نحو أزمات إيكولوجية واقتصادية. يجد هذا المسار ما يوازيه على الصعيد الفردي: تطوّر الفرد المنظور إليه بوصفه بالأساس كمّيا وماديا، والذي يؤدّي لدى الميسورين إلى سباق محموم نحو “الأكثر دوما” وحتى إلى شعور بالضيق داخل رغد العيش، مقولة انحطت إلى الرفاهية فحسب. وأيضا، هل ينبغي أن نروّج للرفاه الذي يتضمّن في الآن نفسه الاستقلالية الذاتية والاندماج في إحدى المجموعات، والتحكّم في التوقيت الذي ينحطّ بزمننا الحيّ، ويختزل تلوّثنا الحضاري الذي يجعلنا مرتهنين للتفاهات والمنافع الوهميّة.لقد اعتبرت المجتمعات الغربية لوقت طويل  مجتمعات “متحضّرة” بالنسبة إلى مجتمعات أخرى، ينظر إليها بما هي بربرية. وبالفعل، فإنّ الحداثة الغربية أنتجت هيمنة بربرية جليدية، مجهولة، بربرية الحساب والمصلحة والتقنية ولم تقدر على إخماد بربرية داخلية إلاّ قليلا، بربرية هي صنيعة عدم فهم الآخر، والكراهية واللامبالاة.

  إنّ المجتمعات الراهنة قد حققت ما كان يعتبر حلما بالنسبة إلى أجدادنا: الرفاه المادّي ورغد العيش. وقد اكتشفنا في نفس الوقت بأنّ الرفاه المادّي لا يجلب السعادة. بل الأسوأ !  فقد اتضح أنّ الثمن الذي يجب أن ندفعه مقابل الوفرة المادّية تكلفته البشرية هائلة: توتّر وسباق مع الزمن  وإدمان وإحساس بالفراغ الداخلي…

   لقد ظللنا، إلى جانب ذلك، وعلى الصعيد الإنساني في بربريّة:  يعبّر العمى عن الذات وعدم فهم الآخر عن نفسه، على صعيد المجتمعات والشعوب مثلما يعبّر عن نفسه على صعيد العلاقات الشخصية، بما في ذلك صلب الأسر والأزواج. كثير من الأزواج ينفصلون وتتمزّق علاقاتهم؛ وتشبه هذه النزاعات، النزاعات الحربية القائمة على الكراهية، ورفض فهم الآخر. بينما لا يفعل أزواج آخرون سوى التواجد.

    يهيمن في المؤسسات والتنظيمات كتل ومجموعات منظّمة بموجب الحسد والضغينة وأحيانا الكراهية. تسمّم هذه الدوافع والأحقاد في الآن نفسه حياة أولئك المحقود عليهم أو المكروهين، ولكن أيضا حياة الحاقدين والكارهين. وبرغم العديد من وسائل الاتصال، فإنّ عدم الفهم تجاه الشعوب الأخرى يتنامى. 

  إنّ النزعة اللاإنسانية والبربرية في كلّ إنسان متحضّر، هي على أهبة الظهور. ورسائل المواساة والأخوّة والصفح الذي أورثتها التوجهات الروحانية الكبرى والأديان والفلسفات الإنْسِية  لا تلامس سوى درع البربرية الداخلية.

  إنّ التطلّع إلى هذا الفنّ الجديد للعيش هو بصدد الظهور في المجتمع بموجب الشرور الناتجة بالذات عن أنماط حياتنا الراهنة. إنه انطلاقا من هذا الانتظار يمكننا رسم ما يمكن أن يكون إصلاحا للحياة.

  أيّ مبادئ يرتكز عليها هذا “الفنّ للعيش” الجديد ؟

    إ.موران :

إنّ فكرة فن للعيش قديمة. فقد انشغل بهذا البحث فلاسفة الهند والصين والعصر الإغريقي القديم.  وهي فكرة تقدّم نفسها اليوم بصورة جديدة في حضاراتنا المتميّزة بالتصنيع والعمران والتطوّر والتفوق الكمّي. إنّ التطلّع راهنا إلى فنّ للعيش هو أولا ردّ فعل للخلاص من شرورنا الحضارية من مَكْنَنَة حياتنا، والتخصّص المفرط والإيقاع الزمني. يُحدث تعميم الشعور بالضيق، بما في ذلك داخل الرفاه المادّي، كردّ فعل، حاجةً إلى السلام الداخلي، واكتمال الرضا أي التطلّع إلى “الحياة الحقيقيّة”.

     يقوم “العيش الكريم” على بعض المبادئ:  أولوية الكيفية على الكميّة، والكائن على الملكية، ويجب  أن تكون الحاجة إلى الاستقلالية والحاجة إلى الجماعة مجتمعة، وعلى شعرية الحياة وفي النهاية الحبّ الذي هو قيمتنا ولكنه أيضا حقيقتنا الأسمى. يقودنا هذا الإصلاح للحياة أيضا إلى التعبير عن إمكانات الفعل الكامنة في كلّ كائن بشريّ.

     كيف يمكن تطبيق ذلك عمليا؟

    إ.موران: 

تتمثّل المهمة الأولى في التحرّر من الاستبداد. يقوم إيقاع حياتنا اليوم على سباق مستمرّ. السرعة والعجلة والتقليب الذهني تجعلنا نعيس على إيقاع جامح. يجب أن نجعل من أنفسنا أسيادا على الزمن، هذا الخير الأثمن من المال كما قال سينيكا بعدٌ. وبمثل ما توجد حركة الغذاء البطيئة  slow food، فلابد من تطوير الزمن البطيء والسفر البطيء والعمل البطيء أو المدينة البطيئة. فالمهم أكثر هو أن نعيش حياتنا لا أن نجري وراءها.   تتطلّب إعادة تملّك الزمن، في الآن نفسه، تنظيما جديا للعمل، والنقل وإيقاع للحياة المدرسية وإيقاع للحياة. يفترض هذا أيضا إعادة اكتشاف معنى :تعلّم العيش”الآن وهنا”، مثلما توصي به الحكمة القديمة.

   يستدعي إصلاح الحياة بطئا معمّما، مدحا للبطء. التوقف عن الجري طريقة في إعادة اكتشاف زمننا الداخلي.

   يجب الاستعاضة عن المراوحة الضارة اكتئاب / إثارة التي تميّز حياتنا الراهنة بزوج يجمع بين السكينة والحدّة.

 بمعنى ؟

    إ.موران: 

     إنّ وجودا ممتلئا إنسانية لا يمكن أن يرتكز على انسجام عفوي بين ميولنا المتناقضة. فالحياة الناجحة تتطلّب حوارا مستمرّا بين متطلبات العقل والأهواء: لا يمكننا أن ننظم حياتنا لا على الحساب والمعقولية الباردة ولا على الأهواء وحدها التي، ومن دون مراقبة ذاتية، تقود إلى الجنون. يجب تعلّم أنسنة دوافعنا وانفعالاتنا بمراقبة فكرية: يعني هذا أنه يجب تطوير قدرتنا على كضم الغيظ والضغينة والشعور والغضب الخ. لا يعني هذا التحكّم في الذات في شيء، كبت دوافعنا. فالنوع الإنساني هو في الآن نفسه إنسان عاقل وإنسان مجنون: والمشكل هو في التمفصل بين هذين البعدين الأسايين لوجودنا. يمكن أن يحدث هذا دون معرفة بالذات، متخلفة في حضارتنا. لقد فضّل الغرب  المعرفة والتحكّم في الطبيعة بدل المعرفة والتحكّم في الذات.

    فلكي نعرف ذواتنا، يجب تنمية النزعة التأمليّة  والنقد الذاتي وفحص الذات. هو تمرين صعب إذ يتعلّق الأمر بأن نطرد من الذات الأفكار الجاهزة والعادات الذهنية وأن نخضع اعتقاداتنا الخاصّة ويقيننا للنقد وهو ما ليس سهلا مادمنا ميالين إلى نقد الآخرين والتقليل من شأن الخصم.  يفترض النقد الذاتي جانبا من السخرية من الذات وعدم التمركز عليها. يفترض إصلاح حياتنا أيضا تطهيرنا من كلّ إدمان على الاستهلاك . وهذا لا يعني وجوب التخلّي عن لذّات الاستهلاك من أجل العيش في الزهد والتوفير والتقليص المستمر، والصرامة والحرمان. إنّ حسن الاستهلاك، هو على العكس تعلّم إعادة اكتشاف طعم الأشياء. إنّ حياة غنية ومشبعة بمراوحات بين فترات تقشّف وفترات احتفال. يجب أن تعقب فترات المراقبة للذّات لحظات ضرورية للإفراط ، والاحتفال، ما يسميّه جورج باتاي “الاستغراق في الاستهلاك” . يجب على المجتمع اليوم أن يُشفى من “حمّى الشراء”، من الاستهلاك المفرط. وهذا لا ينفي شراءات الرغبة والبهجة.

   ليس إصلاح الحياة إذن تمرينَ بساطة إرادي فحسب.إنه دعوة أيضا إلى إعادة اكتشاف  وجوه الفتنة  في وجودنا ؟

    إ.موران: 

نعم، ولكن مع الوعي باستحالة العيش باستمرار في الغبطة. يفترض وضعنا الإنساني المراوحة بين “حالات نثرية” و”حالات شعرية”، وهما قطبي حياتنا. توافق الحالة “النثرية” النشاطات والإكراهات الضرورية التي تفرض علينا. أما الحالة “النثرية” فتوافق لحظات الإبداع والاحتفال والحوار والمشاركة والحبّ. يلحق الاثنان بعضهما بعضا ويتداخلان في الحياة اليومية: فمن دون نثر لا وجود لشعر. ومن العبث أن نأمل في حياة مبهجة حيث تكون الحالة الشعرية دائمة. إنّ مثل هذه الحياة تنتهي إلى الاضمحلال بذاتها. نحن مدعوون إلى التكامل والتراوح شعر/نثر.

يدعو الكثير اليوم ، في مواجهة خراب الفردانية والإفراط في الاستقلالية ، إلى

الرجوع إلى التضامن والتعاطف والإيثار. فما هو رأيك في ذلك؟

        إ.موران: 

   يجب على إصلاح الحياة أن يتضمن بالتزامن تطلّعين اثنين هما الأكثر عمقا ، تطلعين متكاملين إنسانيا: التطلع إلى الإثبات، ” للأنا” في حرية ومسؤولية ، والتطلع إلى الاندماج ، لـ”النحن” الذي يقيم ” الصلة” بالغير في علاقة تعاطف وصداقة وحبّ. يحثّنا إصلاح الحياة على الانخراط في مجموعات دون أن نفقد استقلاليتنا. وتتعلق إحدى أولويات إصلاح الحياة بتعلّم أشكال قابلية اجتماع جديدة .

  إنّ ما نسمّيه سياسة صحية والاهتمام بالغير يدخل ضمن ورشات كبرى لإصلاح الحياة. فالرعاية والتضامن يجب أن يتحققا في ” دون التضامن” ، متضمّنة مساعدات عاجلة على كلّ أزمة وخدمة مدنية للتضامن من أجل الشباب.وهذا ما يبيّن أن إصلاحات الحياة تقوم لا على وعي ذاتي فحسب ، بل على مجموع من الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. إنّ التعاطف والرعاية واللطف والإيثار والانشغال بالآخر توجد لدى كلّ إنسان كاستعداد أساسيّ: نراه خاصّة عند الكوارث الكبرى حيث ينشط تلقائيا المدّ التضامني ، حتى بالنسبة إلى شعوب بعيدة. إنّ هذا الاستعداد يتطلّب أن يهذّب ويثار ويشجّع عليه ويفعّل.

    لكن ، بالتحديد، كيف نتوصّل إلى مثل هذا الإصلاح للحياة؟  أي إصلاح مؤسّساتي يوافقه؟

        إ.موران: 

   يقتضي إصلاح الحياة في الآن نفسه تعلّما وإصلاحا شخصيا. وهو يدعو بالتزامن إلى إصلاح التربية وكذلك إلى إصلاحات كبرى اقتصادية واجتماعية ، وإلى وعي استهلاكي جديد ، إلى إعادة انسنة المدن ، وإلى إعادة إحياء الأرياف. أعدّد في كتابي كلّ حقول الإصلاح الضرورية. ولا يمكن للالتزام بمسلك جديد  أن يحدث فحسب على صعيد شخصيّ ولا على صعيد جماعي. يتطلّب هذا تعدّد الإصلاحات التي ، تتطوّر وتصبح متاضمنة فيما بينها. لقد ذكرت اندريه جيد الذي يتساءل لمعرفة هل يجب أن نبدأ بتغيير المجتمع أو بتغيير شخصي. يجب أن نبدأ في الآن نفسه من الجهتين. يقول غاندي :” يجب أن نحمل فينا العالم الذي نريد”. غير أن هذا لا يكفي مثلما لا يكفي إلغاء نظام الاستغلال، الذي سرعان ما يستبدل بنظام استغلالي آخر كما بين ذلك المثال الاتحاد السوفييتي الذي فشل في النهاية. لست مثاليا ساذجا؛ فالمثاليون السذّج يعتقدون أن نمط إصلاح واحد يمكن أن يحسّن الحياة الإنسانية والمجتمع. وذلك لأنّي أرى أنّ كلّ شيء متّصل- وهذا هو الفكر المركّب- واستخلص منه بأنّ الطريق الوحيدة هي طريق تكافل الإصلاحات.  

      يظلّ هذا بالتأكيد لايقينيّا. ينكشف في كل مكان من العالم حشدا من المبادرات الخلاقة التي تظهر لنا إرادة العيش المشترك تجهلها اليبيروقراطيات والأحزاب. لا شيء يصل هذه المبادرات ببعضها بعضا؛ وفي معنى ما ، نحن بالكاد في بداية البداية. إنّ كل تحوّل كبير، في التاريخ ،- دينيّ وإيتيقي وسياسيّ وعلميّ – قد بدأ بطريقة مجانبة بالنسبة إلى المسار الرئيسيّ ، وبطريقة متواضعة بالنسبة إلى وضعية الأشياء. يسمح لنا هذا بالأمل الذي ليس بيقين. إنّ إصلاح الحياة هو في الآن نفسه مغامرة داخلية ومشروع حياة ومشروع جماعيّ. “

                مقتطف من محادثة مع إ. موران نشرت بمجلة ” العلوم افنسانية ” عدد خاص 13 ماي ، جوان 2011.