حاورته مجلة \”بسيكولوجيا \”23 أوت 2010
ترجمة: عبد الوهاب البراهمي
\” أبدا لا شيء ماضي ولا مستقبل ، كل شيء حاضر\” (أ. ك. سبونفيل)
وإذا لم يكن الزمن هو الذي يمضي بل نحن من يرحل؟
في مؤلفه الجديد \” الكائن- الزمن, L’Etre-temps يمسح أندري كونت سبونفيل على \”طريقة الليزر\” الأفكار المسبقة عمّا يمثّل أساس حياتنا : الزمن .
الزّمــــــــــــن
مرّة أخرى، لا يتعلّق الأمر بما يجب \”صنعه\” بالزمن ( الاقتصاد فيه ، توفيره أكثر ، معرفة كيف نصرفه…) بل \”التفكير\” فيه بما يناسب (الماضي والمستقبل ، وطبيعة الحاضر، وواقع الزمن، الذي يرتاب فيه البعض). حذار، فذاك يعود إلى الميتافيزيقا. هل تذكرون، في الأقسام النهائية؟ نعتقد في العادة، أنه يمكن الاستغناء عنه؛ غير أنّ فكرتنا البسيطة عن وضعنا كفانين يجعل منه تماما جزءا لا يتجزّأ. ما الذي ينفلت كلية عن الرغبة في فهمٍ أفضلَ لما نفعله هنا ؟ نَزْرٌ قليل هم أولئك الذين لم يطرحوا على أنفسهم أسئلة عن الطبيعة الحقيقية للزمن. إنّ الفلسفة، بالنسبة إلى صديقنا كونت سبونفيل هي ما يساعد على حسن العيش. وإذا كان قد رغب في كتابة مؤلفٍ عميق وواضح عن الزمن، فذاك لأنّه قد لاحظ شُيُوعَ الخلطٍ في حياتنا، حول أدوار خاصّة للزمن والحاضر والمستقبل…
– مجلة بسيكولوجيا: نكرر عادة بأنّ مفارقة الزمن المُدرك هو أن الماضي لم يعد موجودا، وأن المستقبل لم يوجد بعدُ وان الحاضر يتعذّر الإمساك به. تقولون في كتابكم بأنّ ذلك خطأ، إذ أننّا نحيا فعلا باستمرار في الحاضر. هل بإمكانكم أن تفسّروا لنا هذا؟
– أ.ك. سبونفيل: ليس من الخطأ القول بأن الماضي قد انقضى ، والمستقبل لم يوجد بعدُ: بل على العكس هي الحقيقة الصارمة بل لعلّها حتى تعريفهما ( الماضي والمستقبل). يتعلّق المشكل الحقيقي بالحاضر. لدينا إحساس بأنّه يتعذّر الإمساك به، بمعنى غير موجود، لأنّه لا أحد بإمكانه إيقافه. وأن لا نقدر على إيقافه، هنا أيضا، هو حقيقيّ جدّا. لكن ذلك لا يعني أنّه غير موجود! لنأخذ اللحظة الحاضرة: بمجرد ما أثَرْتُها لم تعد موجودة. لِيَكُنْ. ولكن ما الذي عوّضها؟ لحظة حاضرة أخرى! إذا كنّا مع ذلك لا نفارق أبدا الحاضر: دوما هو اليوم، ودوما الآن، وإذا كنا لا نقدر على الإمساك بالحاضر، فليس ذلك لأنّه يفلت منّا : بل لأنّه يحوينا. كيف يمكن للمَوْجَة أن تمسك بالمحيط؟
م. بسيكولوجيا : نحن نخلط في نظرك بين الزمن والزمنية temporalité . ما هو الفرق بينهما؟
– سبونفيل: الزمنية هي الزمن كما يبدو للوعي : هو الزمن المعيش ، والزمن الذاتي ، و إن شئنا زمن النفس. هي مكوّنه خاصّة من ذكريات الماضي و توقّعات المستقبل: تشغلنا الذاكرة والخيال أكثر من الانتباه؛ والأمل أو الحنين أكثر من الفعل! ما أسمّيه زمن، هو على العكس، الديمومة على نحو ما توجد موضوعيا، في العالم أو الطبيعة. بيد أنّه لا شيء في الطبيعة ماضي ولا مستقبل ، كلّ شيء حاضر: الواقع، هذا ما يوجد حاليّا. من جهة إذن، زمنية هي دوما مُمَطَّطٌة في ذهننا، بين الماضي والمستقبل؛ ومن جهة أخرى ، زمن واقعي مركّز دوما في الحاضر.
– م. بسيكولوجيا: ما هو الأكثر أهمّية؟
– سبونفيل: الاثنان ضروريان بالنسبة إلينا. غير أنّ الزمن، من منظور فلسفي، هو أكثر جوهرية : لأنّه يتضمّن الزمنية، بينما لن تكون الزمنية حاوية لزمن في كليّته. إنّ وعينا في العالم ، أكثر بكثير من كون العالم في وعينا .
– بقسيكولوجيا: \” نستطيع أن نختار في المكان؛ أما في الزمن فلا.\” لماذا؟
– سبونفيل: لأنّ الفضاء يتضمن ثلاثة أبعاد تسمح بالتنقل فيه بحرية تقريبا. مثلا يمكنك الذهاب من باريس إلى مرسيليا ، ثم من مرسيليا إلى تولوز، قبل العودة إلى باريس. وفي كل من هذه المدن، يمكنك التنقّل في كلّ الاتجاهات، أن تتجوّل وتتقدم وتصعد وتنزل وتغيّر الاتجاه وأن ترتدّ على أعقابك…ولا شيء من هذا في الزمن. ذلك لأنّه يتضمّن بعدا واحدا ( لأجل ذلك نقارنه غالبا بخطّ مستقيم)، يفرض ذاته مطلقا. حاول قليلا أن تعود إلى الأمس أو القفز إلى بَعْدَ غَدٍ دون المرور بالغد: سترى أنّه مستحيل. نختار المكان أما الزمن فلا . أن نعيش في مرسيليا، في باريس أو في تولوز، فذاك يعود إلينا. لكن أن نحيا في الماضي أو في المستقبل، فلا: يجب عليك أن تعيش اليوم! يمكننا أن نتذكّر الماضي أو نحلم بالمستقبل؟ بالتأكيد! لكن هذا الحلم وهذه الذكرى لا توجدان بذاتهما إلاّ في الحاضر.إذن فالزمن يفرض ذاته علينا: لا يمكن أن نستخدمه أوّلا إلاّ بشرط الخضوع له.
بسيكولوجيا : \” نحن أبديين ولكن لسنا خالدين.\” ومع ذلك فقد عُلّمنا بأنّ الأبدية هي ما لا بداية له ولا نهاية…
– سبونفيل : هذا حقيقيّ. يا للقلق! نجد بعدُ صعوبة في تحمّل بعض عُطْلات الأحد تخيّلوا، إلى حدّ مائة ألف عام ، ونحن مع فكرة أنّه لابدّ من الاستمرار طيلة ملايين وملايين السنين، دون أن نشهد أبدا النهاية ؟ وإذا كانت هذه هي الجنّة، فماذا سيكون الجحيم! لكن أغلب كبار المفكّرين يتفقون على قول العكس: كون الأبدية ليست زمنا لانهائيّا ( ما سنسمّيه بشكل أدقّ السرمديةla sempiternité)، لكن الحاضر يظلّ حاضرا ، ما يسمّيه القديس أغسطينوس \” الحاضر الأبدي \”« l’éternel présent » \” أو \” اليوم الأبدي للإله\” perpétuel aujourd’hui. بيد أنّه منذ أن ولدنا لم نفارق أبدا الحاضر. فكلّ يوم عشناه كان دوما اليَوْمَ. وكلّ لحظة هي دائما الآن. فالماضي قد انقضى والمستقبل لم يوجد بعدُ: لا يوجد سوى الحاضر، الذي هو الزمن الواقعي الوحيد. وهو ما أسمّيه الحاضر الأبدي أو اليوم الأبدي للطبيعة. لابدّ من استخلاص أن الزمن والأبدية هما شيء واحد، وأنّ هذا \” الشيء\”، هو الحاضر. نحن في المملكة: الأبدية، الآن وفي ديمومة حياتنا.!
بسيكولوجيا: تعرّفون الكائن- الزمن، عنوان مؤلفّكم ، بوصفه \” الوحدة غير القابلة للانفصام، في الحاضر، للكائن ولديمومته\”. ماذا يغيّر هذا في حياتنا؟
-سبونفيل: إذا كان الزمن هو الحاضر، فالكائن هو أيضا : لاشيء يكون حاضرا سوى ما يوجد، لا شيء سوى ما هو حاضر. ماذا الذي يغيّره ؟ هذا: نحن في قلب الكائن، في قلب المطلق ، بما أنّنا في قلب الحاضر. من هنا نكون روحانية جدّ متفرّدة ، لأنّنا دون وَعْدٍ، ودون إيمانٍ ودون أملٍ. لا شيء نعتقد؛ كلّ شيء للمعرفة. لاشيء نأمل ؛ كلّ شيء للحبّ . لقد نجونا بعدُ : الخلاص، هنا والآن.
بسيكولوجيا: \” يتعلّق الأمر بالفعل، بالفعل أيضا، بالفعل دوما، لأجل ذلك لابدّ من الشجاعة، لا ضدّ الخوف فحسب، بل ضدّ الكسل\”. لماذا يفضي فَحِصُ الزمن بالنسبة إليك ، إلى أنشودة العمل؟
-سبونفيل: إذا كان كلّ شيء حاضرا، وكل شيء آنيّا ، فكلّ شيء بالفعل en acte.لا فائدة من انتظار المستقبل أو الندم على الماضي: وحده الحاضر واقعيّ ، ووحده الفعل نافع!
– بسيكولوجيا : لكن ألا يجب، حتى نفعل، أن نأخذ بعين الاعتبار الماضي والمستقبل؟
– سبونفيل: بالتأكيد نعم ! أن نحيا في الحاضر، ليس معناه أن نحيا في اللحظة. والفعل، هو دوما مواصلة ماضٍ ما، إعداد مستقبل ما… لكن أليس لهذه المواصلة وهذا الإعداد بذاته من واقعٍ إلاّ في الحاضر. لأجل ذلك كان الفعل والوفاء جدّ مهمّين: لأنّهما يقدران لوحدهما أن يُضْفِيَا على الماضي والمستقبل هذه الراهنية التي دونها لا يكونان شيئا… واجب الذاكرة، وواجب المسؤولية. لا يوجد الماضي ؛ ولكنه يُعرف ويورّث. و لا يوجد المستقبل ، ولكنّه مشروع فعل.
– بسيكولوجيا : ينتهي كتابك بهذا الّلغز:\” الكائن هو الجواب الوحيد عن السؤال الذي لا يُطْرح.\” كيف يجب أن نفهم هذا؟
– سبونفيل : لا يوجد جواب عقليّ عن سؤال :\” لماذا الكائن؟\” ، ولا يمكن أن يُوجد: بما أن كلّ جواب، وكلّ تفسير، وكلّ أصل يفترض بعدُ، الكائن. غير أن الواقع هو جوابٌ لوحده كافٍ. لماذا الكائن! لأنّ الكائن ! والسؤال هو مِنَ الإنسانٍ ؛ والجوابُ من العَالَمِ – الجواب، بالأحرى ، هو العَالَمُ ذاته.
العالم لا يتساءل \” لماذا العالم؟\” ؛ لكن عن السؤال الذي يطرحه الإنسان على العالم، فليس شيئا آخر غير جواب: العالم كما هو، في جماله، في تعقيده،وفي بداهته. تعرفون هذا القصيد لأنجولوس سيليسوس Angelus Silesius ، المتصوّف الألماني في القرن 17 م\” الوردة هي غير لماذا، تُزْهِرُ لأنّها تزهر، ليس لها انشغال بذاتها، ولا ترغب في أن تُرى.\” وأقول عن طيب خاطر:\” العالم دون لماذا، يوجد لأنّه يوجد، ليس له انشغال بذاته، ولا يرغب في أن يُرى…\”. لا تنشغل الطبيعة بنا: لنا إذن أن ننشغل ببعضنا بعضا، وأن ننشغل بالطبيعة! إنّه حيث تلتقي الأخلاق ، والسياسة ( وخاصّة الإيكولوجيا) والروحانية.\”
المصدر : https://www.psychologies.com/Culture/Savoirs/Philosophie/Interviews/Andre-Comte-Sponville-Rien-n-est-jamais-passe-ni-futur-tout-est-present