ترجمة: الحسن علاج
سيوران: إذا كنت قد فهمتك جيدا، فأنت تسألني لماذا لا ألوذ بالصمت ، بدلا من الجولان حوله، كما عاتبتني على استغراقي في النواح حينما كان يستحسن لو أنني لزمت الصمت . بداية، لا يحالف الحظ كل شخص كي يموت في شبابه. في الواحد والعشرين من عمري كتبت كتابي الأول باللغة الرومانية، قاطعا عهدا على نفسي ألا أكتب شيئا فيما بعد . ثم كتبت كتابا آخر، متبوعا بنفس التعهد. تم تكرار الكوميديا منذ مايزيد عن أربعين عاما. لماذا؟ لأن الكتابة، مهما كانت ضئيلة، فقد ساعدتني على الانتقال من سنة لأخرى، لأن الهواجس المعبر عنها تظل ضعيفة ويتم تجاوزها جزئيا. وأنا على يقين تام لو لم أقم بتسويد الورق، لكنت قد قتلت نفسي منذ أمد بعيد. تعتبر الكتابة ارتياحا مذهلا. والنشر أيضا. سوف يبدو لك ذلك سخيفا، ومع ذلك فهو حقيقي تماما. لأن الكتاب هو حياتك، أو جزء من حياتك، يجعلك خارجيا . يتم فيه التخلي عما يحبه المرء، لاسيما كل ما يكره، في نفس الوقت. سوف أذهب إلى أبعد من ذلك فلو لم أكتب لكنت قد تحولت إلى قاتل. التعبير تَحرُّر. أنصحك بتجريب التمرين التالي: عندما تكره شخصا ما، وترغب في تصفيته، خذ قطعة ورق، واكتب أن س خنزير، قاطع طريق، وغد، وحش. سوف تدرك على الفور أنك كرهته بشكل أقل. وهذا بالتحديد مافعلته. أكتب من أجل شتم الحياة وشتم نفسي. النتيجة؟ لقد تحملت نفسي وتحملت الحياة بشكل أفضل.
فرناندو سفاتر: سيوران، ما الذي ستضيفه إلى هذا؟
سيوران: بكل صدق، لا أستطيع إضافة أي شيء… أو ربما قول شيء ما. فعلا، إنها مسألة حيوية. وحتى أكون واضحا أكثر، لابد من الحديث عن أصلي. إني أتصف بميزات ريفية كثيرة؛ كان والدي كاهنا أرثذوكسيا في البادية، نشأت بين الجبال، في سلسلة جبال الكاربات، في بيئة بدائية جدا. إنها قرية متوحشة حقا، حيث كان الفلاحون يعملون كثيرا طوال الأسبوع، من أجل تبذير أجرهم في ليلة واحدة، في الشرب مثل براميل. لقد كنت غلاما قويا جدا. كل ما بداخلي يعتبر في الوقت الحاضر مَرَضيا بينما كان في وقت من الأوقات شديدا للغاية ! لاشك أنك ستهتم بمعرفة أن طموحي الأكبر، في ذلك العهد، كان يكمن في أن أكون أفضل لاعب للبولينغ. فقد لعبت البولينغ وأنا في الثانية عشر أو الثالثة عشر من عمري، من أجل كسب المال أو الجعة، مع الفلاحين. كنت أمضي يوم الأحد في اللعب ضدهم، وغالبا ما كنت أهزمهم، حتى وإن كانوا أشد قوة مني، لأنني ـ وكما لو لم يكن لدي شيئا آخر لأفعله ـ كنت أقضي أسبوعا كاملا للتمرن…
رومانيا
فرناندو سفاتر: هل كانت طفولتك سعيدة؟
سيوران: إن هذا مهم للغاية: لم أعرف حالة طفولة أكثر سعادة من طفولتي. كنت أعيش بالقرب من سلسلة جبال الكاربات، ألهو بحرية في الحقول والجبال، من دون التزامات ولا واجبات. لقد كانت طفولة سعيدة بشكل استثنائي. فيما بعد لم أعثر على شيء مماثل وأنا أتحدث مع الناس. كنت أتمنى ألا أغادر أبدا هذه القرية؛ لن أنسى اليوم الذي جعلني فيه والديَّ أستقل سيارة إلى الثانوية، بالمدينة. تلك كانت نهاية حلمي، خراب عالمي.
فرناندو سفاتر: ماذا تتذكر عن رومانيا قبل كل شيء؟
سيوران: إن ما عشقته في المقام الأول في رومانيا هو جانبها البدائي جدا. كان هناك، بطبيعة الحال، ناس متحضرون، إلا أن ما كنت أفضله هو الأميين، الجاهلين بالقراءة والكتابة… إلى حدود العشرين من عمري، لم أكن أحب شيئا أكثر من مغادرة سيبيو إلى الجبال، والتحدث مع الرعاة، الفلاحين الأميين تماما. كنت أمضي وقتي في الثرثرة والشرب معهم. أعتقد أن إسبانيا يستطيع فهم هذا الجانب البدائي، غاية في البدائية. كنا نتحدث عن أي شيء، وتوصلت على التو إلى إقامة علاقة معهم.
فرناندو سفاتر: ماهي الذكرى التي تحتفظ بها عن الوضع التاريخي لبلدك خلال فترة شبابك؟
سيوران: حسنا. كانت أوروبا الغربية وقتئذ هي الإمبراطورية النمساوية الهنغارية. كانت سيبيو محاطة بإقليم ترانسلفانيا، منتمية إلى الإمبراطورية؛ وكانت عاصمة حلمنا هي فيينا. لطالما كان يغمرني الشعور بالارتباط، بطريقة أو بأخرى، بالإمبراطورية… حيث كنا نحن الرومانيين عبيدا بها مع ذلك ! أثناء الحرب العالمية الأولى، تم ترحيل والديّ بواسطة الهنغاريين… أشعر على المستوى النفسي، أقرب إلى الهنغاريين، إلى أذواقهم وتقاليدهم. تهز الموسيقى المجرية الغجرية مشاعري بعمق. أنا خليط هنغاري وروماني. قد يبدو غريبا أن الشعب الروماني هو الشعب الأكثر قدرية في العالم. لما كنت في ريعان شبابي، فإن ذلك كان يثير سخطي ـ إن اللجوء إلى استعمال مفاهيم ميتافيزيقية مشكوك في صحتها، مثل القدر، القدرية، من أجل فهم العالم. ومن ثم فكلما تقدمت في السن، كلما شعرت أنني أقرب إلى أصولي. كان ينبغي علي في الوقت الراهن الشعور بكوني أوروبيا، غربيا؛ لكن الأمر ليس كذلك على الإطلاق. بعد تجربة عرفت خلالها بلدانا عدة وقرأت الكثير من الكتب، توصلت إلى استنتاج أن الفلاح الروماني هو من كان على صواب. هذا الفلاح الذي لا يؤمن بشيء، الذي يعتقد أن الإنسان تائه، ليس لديه ما يفعله، يراوده الإحساس بأن التاريخ يسحقه. إن إيديولوجية الضحية تشكل تصوري الحالي أيضا، فلسفتي للتاريخ. في الواقع ، إن تكويني الفكري لم يسعفني في أي شيء !
الكتاب جرح
فرناندو سفاتر: لقد كتبتَ: “ينبغي على كتاب ما أن يتوغل في الجروح، ويضايقها حتّى. على كتاب ما أن يكون محفوفا بالخطر” بأي معنى تعتبر كتبك خطيرة؟
سيوران: طيب، أنصت: لقد قيل لي مرارا وتكرارا أن ما أكتبه لا يُقال. عندما ظهر كتاب رسالة في التحلل، تلقيت رسالة من ناقد جريدة لوموند كلها لوم: ألم تدرك أن هذا الكتاب كان يمكن أن يقع في أيادي يافعين ! ” ذلك شيء سخيف. أي فائدة ترجى من الكتب؟ في التعلم؟ فلا فائدة من ذلك، لأنه لهذا السبب توجب الذهاب إلى القسم. لا؛ أعتقد أنه ينبغي على كتاب ما، صراحة، أن يعتبر جرحا، عليه أن يغير حياة القارئ بطريقة أو بأخرى. تكمن فكرتي، عندما أكتب كتابا، في إيقاظ شخص ما، جلده. وبالنظر إلى أن الكتب التي كتبتها قد انبثقت عن انزعاجي، حتى لا أقول آلامي، فهذا هو ما ينبغي عليها أن تنقله بطريقة ما إلى القارئ. لا أحب الكتب التي تُقرأ مثلما تُقرأ صحيفة ما: على كتاب ما أن يبلبل كل شيء، أن يطعن في صحة كل شيء. لماذا؟ حسنا ، لا أهتم كثيرا بفائدة ما أكتب، لأنني لا أفكر حقا في القارئ أبدا: أكتب لنفسي، كي أخلص نفسي من الهواجس، التوترات، ليس إلا . كتبت سيدة بشأني، مؤخرا، في صحيفة باريس اليومية Le quotidien de Paris) (: “يكتب سيوران ما يردده كل واحد بصوت منخفض.” لا أكتب بهدف تأليف كتاب “كي يُقرأ. لا، أكتب لكي أتخلص من عبء ثقيل. لكن بعدها، متأملا وظيفة كتبي، قلت في نفسي كان ينبغي عليها أن تكون مثل جُرح. إن كتابا ما يترك القارئ مثلما كان قبل قراءته هو كتاب فاشل.
فرناندو سفاتر: في كل كتبك، إلى جانب المظهر الذي يمكننا نعته بالمتشائم، الأسود، تشع غبطة غريبة ، فرح يستعصي على الشرح لكنه محفز، ومنعش حتّى.
سيوران: غريب ما تقوله لي، العديد من الناس قالوه لي. ليس لدي قراء كثر، على أنه يمكنني أن أذكر لك عددا مهما من الأشخاص الذين سلّموا بإحدى معارفي: “كنت سأنتحر لو لم أقرأ سيوران.” لذلك أعتقد أنك على صواب تماما . أتصور أن ذلك يصدر عن الشغف: لست متشائما، بل عنيفا… وهو ما يجعل سلبي محفزا. في الواقع، عندما تحدثنا في وقت سابق عن الجرح، لن أعتبر هذا بطريقة سلبية: أن يُجرح أحد ما لا يعني بأي حال من الأحوال إصابته بالشلل ! ليست كتبي مكتئبة ولا محبطة. لقد كتبتها بسخط شديد وشغف. لو كان من الممكن كتابة كتبي من دون حيوية، لكان الأمر سيكون خطيرا. لكني لن أستطيع الكتابة بدون قوة، أنا مثل مريض يتغلب، في أي ظرف من الظروف، على عجزه. أول شخص قرأ كتاب رسالة في التحلل، والذي كان لا يزال عبارة عن مخطوط، هو الشاعر جيل سوبيرفيال (Jules Supervielle). إنه رجل طاعن في السن فعلا، ميال إلى الاكتئاب كثيرا، وقد قال لي: “هذا مذهل إلى أي درجة حفزني كتابك.” إنني بهذا المعنى، لو شئت، مماثل للشيطان الذي يعتبر فردا نشيطا، مُنكرا يعمل على تحريك الأشياء…
فرناندو سفاتر: على الرغم من أنك توليت مسؤولية تمييز عملك عن الفلسفة بحصر المعنى، فليس من الجور إدراجه في إطار تلك الأنشطة المختلفة، التي تمارس نقدا ذاتيا، والتي تحتل مكانا شاغرا للفلسفة، بعد اندحار الأنساق الكبرى للقرن التاسع عشر. ماهو المعنى الذي لا يزال في حوزة الفلسفة، سيوران؟
سيوران: أعتقد أن الفلسفة لم تعد ممكنة إلا باعتبارها شذرة. على شكل انفجار. فلم يعد من الممكن منذ الآن، الشروع في وضع فصل بعد آخر، على شكل أطروحة. وبهذا المعنى، فقد كان نيتشه منقذا بامتياز. فهو من قام بتفكيك أسلوب الفلسفة الأكاديمية، الذي هاجم فكرة النسق. لقد كان مخلصا ، لأن من بعده، أصبح من الممكن قول كل شيء… نحن في الوقت الراهن كلنا شذريون، حتى وإن كنا نكتب كتبا منسقة. وهو ما ينسجم مع نمط حضارتنا .
فرناندو سفاتر: ينسجم ذلك أيضا مع استقامتنا. لقد قال نيتشه في الطموح النسقي، ثمة نقص في الاستقامة…
سيوران: بخصوص الاستقامة سأقول لك شيئا. عندما يشرع شخص مافي كتابة دراسة من أربعين صفحة عن أي شيء، فإنه ينطلق من بعض الادعاءات المسبقة ثم يظل سجينا لها . ثمة فكرة معينة عن النزاهة تجبره على الذهاب إلى أقصى الحدود باحترامها، وكي لا يناقض نفسه؛ لكن، ففي الوقت الذي يتقدم فيه، فإن النص يمثل له إغراءات أخرى، التي ينبغي عليه رفضها، لأنها تحيد عن الطريق المرسوم. يكون المرء محبوسا في دائرة هو ذاته من قام برسمها. وهكذا فرغبة المرء في أن يكون صادقا تجعله يسقط في البطلان، وفي غياب المصداقية. فإذا كان هذا يحدث في دراسة من أربعين صفحة، ما لم يحدث في نسق ! تلك هي مأساة كل تفكير مبنين: عدم السماح بالتناقض. وهكذا يتم ارتكاب الخطأ، يكذب المرء من أجل الحفاظ على الانسجام. في حين أنه لو أنتج المرء شذرات، يمكنه، في يوم واحد، أن يقول الشيء ونقيضه. لماذا؟ لأن كل شذرة هي نتيجة لتجربة مختلفة، ثم إن تلك التجارب تكون حقيقية: إنها تشكل الجوهر. سيُقال أن المرء غير مسؤول، لكن إذا كان الأمر كذلك، سوف يكون نفس المعنى حيث تكون الحياة غير مسؤولة. يعكس الفكر الشذري كل مظاهر تجربتك؛ ولا يعكس الفكر النسقي إلا مظهرا واحدا، المظهر المُراقَب، ولهذا السبب يكون مظهرا مجدبا. كل الأنماط الإنسانية الممكنة تعبر عن نفسها في نيتشه، دوستويفسكي، كل التجارب. وفي النسق، وحده يتحدث المُراقب، القائد. يشكل النسق على الدوام صوت القائد: فلهذا السبب أن كل نسق يعتبر شموليا، في حين أن الفكر الشذري يظل حرا.
فرناندو سفاتر: كيف كان تكوينكم الفلسفي، من هم الفلاسفة الذين استرعوا انتباهكم أكثر؟
سيوران: حسنا، لقد قرأت ليف شيستوف Lev Chestov) (كثيرا في شبابي، والذي كان آنذاك ذائع الصيت في رومانيا. لكن ما أثار اهتمامي أكثر، الذي أحببته أكثر، هو العبارة، لقد كان جورج زيمل Georg Simmel) (.أعرف أن زيمل كان معروفا جدا بإسبانيا، في حين أنه كان مجهولا تماما بفرنسا. كان زيمل كاتبا مذهلا، فيلسوفا وكاتب مقالات رائعا. لقد كان صديقا حميما لجورج لوكاش وبلوخ Bloch) (، اللذين أثرا فيه، واللذين تنكر لهما فيما بعد، وهو ما أجده شيئا وضيعا تماما. يعتبر زيمل، في الوقت الراهن، منسيا تماما بألمانيا، ومُتجاهلا أيضا، لكنه كان محبوبا في زمنه من قبل شخصيات مثل طوماس مان، وريلكه. وكان زيمل هو الآخر مفكرا شذريا ذ. وأفضل ما في عمله، هي الشذرات. كنت أيضا متأثرا جدا بالمفكرين الألمان لما تم تسميته ب”فلسفة الحياة”، مثل ديلتيه Dilthey) (، إلخ . بطبيعة الحال، لقد قرأت كثيرا لكيركيغارد، في ذلك الوقت، عندما لم يكن قد أصبح رائجا بعد .بصفة عامة، إن ما أثار انتباهي أكثر هو فلسفة الاعتراف. سواء في الفلسفة أو في الأدب، إنها الحالات هي التي كانت تثير انتباهي، أولئك المؤلفون الذين بالإمكان القول أنهم يشكلون “حالة” بمعنى شبه إكلنيكي للكلمة . يثير انتباهي كل أولئك الذين يسعون إلى الكارثة، وأيضا أولئك الذين توصلوا إلى التموقع فيما وراء الكارثة. إن غاية إعجابي تذهب إلى من يجد نفسه على حافة الانهيار. لهذا السبب أحببت نيتشه أو أوتو فنينغر (Otto Weininger)؛ أو المؤلفين الروس مثل روزانوف Rozanov) (، وهو كاتب ديني يخدش الجرح باستمرار، نموذج دوستويفسكي. ولم يؤثر في المؤلفون الذين لم يشكلوا سوى تجربة فكرية، مثل هوسرل. يثير انتباهي الجانب الكيركيغاردي في هيديغر، وليس الجانب الهوسرلي. لكن قبل كل شيء، فإني أسعى وراء الحالة: ففي التفكير، الأدب، فإن اهتمامي يذهب إلى الهش، الزائل، إلى ما ينهار، وأيضا إلى ما يقاوم إغواء الانهيار لكن يحتفظ بالتهديد المستمر…
فرناندو سفاتر: ماذا تقولون عن “الفلسفة الجديدة” الفرنسية، حرب كلامية جنينية يومية؟
سيوران: حسنا، لا أستطيع القول إني أعرفهم جيدا، لكن عموما، أعتقد أن الأمر يتعلق بأشخاص يسعون إلى الخروج من حلمهم الدوغمائي…
فرناندو سفاتر: لقد كتبتم واحدا من أروع كتبكم حول موضوعة اليتوبيا.
سيوران: أتذكر جيدا كيف أثير اهتمامي أثناء نقاش بمقهى باريس بصحبة ماريا زامبرانو (Maria Zambrano)، في الخمسينات. قررت آنئذ كتابة شيء ما حول اليتوبيا. شرعت في قراءة اليتوبيين: طوماس مور، فورييه، كابي، كامبانيلا Campanella) (… بداية بغبطة مفتونة، وفيما بعد بضجر، وانتهاء بسأم قاتل. إن السحر الذي يمارسه اليتوبيون على العقول الكبيرة شيء لا يصدق: فقد قرأ دوستويفسكي، على سبيل المثال، كابي Cabet) (بإعجاب. كابي الذي كان غبيا تماما، مادون فورييه Fourier) (! كلهم كانوا يؤمنون بقدوم الألفية؛ بضع سنوات، عقد، كحد أقصى… كان تفاؤلهم مُحبطا، رؤيتهم الوردية المفرطة، نساء فورييه اللواتي كن يرقصن أثناء عملهن في ورشات العمل… لقد كان هذا التفاؤل اليتوبي بصريح العبارة قاسيا جدا . أتذكر، على سبيل المثال، لقاء جمعني بتيلار دو شاردان Teilhard de Chardin) (: كان الرجل يطيل الحديث بحرارة حول تطور الكون صوب المسيح، النقطة أوميغا، إلخ. آنئذ سألته كيف كان يرى الألم البشري. “يعتبر الألم والمعاناة، قائلا لي، حادثا بسيطا للتطور.” تركته مستاء، رافضا الحديث مع هذا المعتوه ذهنيا. أعتقد أن اليوتوبيا واليوتوبيين لديهم مظهر إيجابي، في القرن التاسع عشر، بتسليط الضوء على الفوارق الاجتماعية وعلاج ذلك بشكل مستعجل. لا ننسى أن الاشتراكية هي في آخر المطاف ابنة لليوتوبيين. إلا أنهم يستندون على فكرة مغلوطة، هي فكرة الكمال اللامحدود للإنسان . تبدو لي نظرية الخطيئة الأصلية أكثر ملاءمة، بمجرد تجريدها من إيحاءاتها الدينية، على المستوى الأنثربولوجي تماما. ثمة سقوط لا يمكن علاجه، فقدان ما من شيء يمكن تعويضه. وفي الواقع، فإني أعتقد أن ما جعلني أنأى بنفسي تماما عن الإغراء اليوتوبي، هو ميلي للتاريخ؛ إذ إن التاريخ هو ترياق اليوتوبيا. على الرغم من ممارسة التاريخ تعتبر قطعا مضادة، ومما لا شك فيه أن اليوتوبيا تعمل على السير قدما بالتاريخ، تحفزه. نحن لا نتصرف إلا من خلال افتتان المستحيل، مما يعني أن مجتمعا ما عاجز عن ابتكار يوتوبيا والتمسك بها، هو مجتمع مهدد بالتصلب والانهيار. إن اليوتوبيا، بناء الأنساق الاجتماعية المثالية، هو وهن فرنسي بامتياز؛ فما يعوز الفرنسي في الخيال الميتافيزيقي يتم تعويضه بالخيال السياسي. إنه يبتكر أنساقا اجتماعية مثالية، لكن من دون أن يأخذ في حسبانه الواقع. إنها نقيصة وطنية: لقد شكل ماي 68، على سبيل المثال، إنتاجا دائما لأنساق من كل الأصناف، أكثر ألمعية وغير قابلة للتحقيق بعضها بعضا .
السلطة هي الشر
فرناندو سفاتر: إن اليوتوبيا، إن جاز التعبير، هي قضية سلطة مجانية وليست متعالية عن المجتمع. ما هي السلطة، سيوران؟
سيوران: أعتقد أن على السلطة سيئة أكثر سوءا. إنني مستسلم وقدري أمام حقيقة وجودها، لكني أعتقد أنها مصيبة. اسمع، لقد تعرفت أشخاصا تمكنوا من السلطة، ثم إن ذلك شيء رهيب. شيء رهيب مثل كاتب يصبح شهيرا. أشبه بارتداء زي رسمي؛ فعندما يرتدي المرء لباسا رسميا، لم يعد هو نفسه: حسنا، إن بلوغ السلطة هو ارتداء زي رسمي غير مرئي، يكون على الدوام هو هو. أتساءل: لماذا يقبل شخص ما أو يبدو أنه كذلك السلطة، يقبل أن يعيش منشغلا من الصباح إلى المساء، إلخ؟ بالتأكيد لأن السلطة تعتبر رغبة، نقيصة. فلهذا السبب لا وجود بشكل عملي لأي حالة مستبد أو قائد شمولي يتخلى عن السلطة طواعية: وحدها حالة سولا Sylla) (هي التي أتذكرها. السلطة شيطانية: لم يكن الشيطان سوى ملك لديه طموح من أجل السلطة . إن الرغبة في السلطة هي أكبر لعنة للبشرية.
فرناندو سفاتر: كي نعود إلى اليوتوبيا…
سيوران: إن مطلب اليتوبيا هو مطلب ديني، رغبة في المطلق. اليتوبيا هي هشاشة التاريخ الكبرى، لكن أيضا قوته العظمى . إن اليوتوبيا هي التي تفتدي التاريخ بمعنى من المعاني. خذ في اعتبارك الجملة الانتخابية بفرنسا، مثلا: لولا عنصرها الطوباوي لكان شجار بين أصحاب المتاجر… اسمع، لا أريد أن أكون سياسيا لأني أومن بالكارثة. وبالنسبة لي، إني على يقين تام بأن التاريخ ليس هو السبيل إلى الفردوس. ومع ذلك، فإذا كنت شكوكيا حقيقيا، فإني لا أستطيع أن أكون على يقين من الكارثة حتَّى.. دعونا نقول إنني على يقين تام ! فلهذا السبب أجدني منفصلا عن كل بلد، كل جماعة. إني ميتافيزيقي عديم الجنسية، إلى حد ما مثل رواقيي نهاية الإمبراطورية الرومانية الذين كانوا يعتبرون أنفسهم من “مواطني العالم”، وهي طريقة في القول بأنهم لم يكونوا مواطنين في أي مكان .
فرناندو سفاتر: أنت لم تهجر وطنك فقط، لكن أيضا، والشيء الأكثر أهمية، فقد هجرت لغتك.
سيوران: إنه أكبر حادث يمكن أن يحل بكاتب ما، الأكثر مأسوية. إن الكوارث التاريخية لا تعتبر شيئا مقارنة بذلك. لقد كتبت باللغة الرومانية حتى سنة 1947؛ فهذه السنة بالذات، كنت مستقرا بمنزل بالقرب من مقاطعة دياب Dieppe) (،وقمت بترجمة ملارميه إلى الرومانية، وفجأة قلت في نفسي: “أي سخافة هذه! ما الفائدة من ترجمة ملارميه إلى لغة لا أحد كان يجيدها؟” لذلك تخليت عن لغتي، وشرعت في الكتابة بالفرنسية، وكان ذلك في غاية الصعوبة، لأن اللغة الفرنسية، مزاجيا، لا تناسبني : أنا في حاجة إلى لغة متوحشة، لغة سكير. لقد شكلت الفرنسية، بالنسبة لي، سترة مجانين. إن الكتابة في لغة مغايرة هي تجربة مرعبة. يتم التفكير في الكلمات، حول الكتابة. لما كنت أكتب بالرومانية فإني قمت بذلك دون إدراك مني، كنت أكتب بكل بساطة. لم تكن الكلمات مستقلة آنئذ عني. عندما شرعت في الكتابة بالفرنسية، فقد فرضت كافة الكلمات نفسها على وعيي؛ كانت ماثلة أمامي، خارجا عني، في خلاياها، ثم كنت أسعى في البحث عنها: “أنت، الآن، والآن، أنت.” إنها تجربة مماثلة لأخرى، عشتها لما حللت بباريس. نزلت بفندق صغير بالحي اللاتيني، وفي اليوم الأول حينما نزلت للمهاتفة في الاستقبال، وجدت موظف الفندق، زوجته وابنه، بصدد تحضير قائمة الوجبات: كانوا يهيئونها كما لو كان يتعلق الأمر بخطة معركة ! بقيت مندهشا: ففي رومانيا، كنت أتغذى مثل حيوان، أعني بالقول ، دون توخي الحذر، لاشعوريا، معنى ما أتناوله. وفي باريس، أدركت أن الأكل طقس، سلوك حضاري، أشبه باتخاذ موقف فلسفي… وعلى نحو مماثل، فقد توقفت الكتابة بالفرنسية عن أن تكون سلوكا غريزيا، كما كان الحال لما كنت أكتب باللغة الرومانية، ثم إنها اكتسبت بعدا متعمدا، تماما كما لو إني كففت عن تناول الطعام ببراءة… فبتغييري اللغة، تخلصت على الفور من الماضي: لقد غيرت حياتي تماما. وحتى في الوقت الراهن، يبدو لي إنني أكتب بلغة لا ترتبط بأي شيء، لا جذور لها، لغة مستنبت زجاجي.
فرناندو سفاتر: سيوران، لطالما تكلمت عن السأم. ما هو الدور الذي يلعبه السأم والاشمئزاز في حياتكم؟
سيوران: يمكنني القول بأن حياتي هيمنت عليها تجربة السأم. لقد عرفت هذا الإحساس منذ الطفولة. لا يتعلق الأمر بسأم يمكن للمرء محاربته عبر الترفيه، الحوار أو المتع، بل بسأم، يمكن القول أنه سأم جوهري؛ والذي يكمن في هذا: مفاجئ إلى حد ما لدى الذات أو لدى الآخرين، أو أمام منظر جميل جدا، كل شيء يُفرغ من مضمونه ومعناه. يوجد الخواء في الذات وخارج الذات. يظل الكون بكامله متأثرا بالتفاهة . ولاشيء يثير انتباهنا، لا شيء جدير باهتمامنا. يعتبر السأم دوارا، لكن دوارا هادئا، رتيبا؛ إنه الكشف عن التفاهة الكونية، إنه اليقين الذي يتم الدفع به إلى حدود الذهول أو حتى الاستبصار الأسمى، حيث ليس بإمكان المرء، لا ينبغي عليه فعل أي شيء في هذا العالم ولا في هذا العالم ولا في ذاك، إذ لاشيء موجود في العالم يمكنه أن يناسبنا أو يرضينا. بسبب تلك التجربة ـ التي ليست دائمة، بل متكررة، لأن السأم يحدث بشكل متقطع، لكنه يدوم كثيرا لفترة زمنية طويلة مثل حمى ـ لا قدرة لي على أن أكون جديا في حياتي.
حتى أقول الحقيقة، فقد عشت بشكل أكثر عمقا، لكن من دون الاندماج في الوجود. إن هامشيتي ليست عرضية، بل جوهرية. فإذا كان الإله مصابا بالملل، فلن يكون أقل من إله، بل إله هامشي. لنترك الإله وشأنه. لفترة طويلة كان حلمي عديم الجدوى، وغير قابل للاستعمال. فبفضل الملل، حققت هذا الحلم. ثمة تفصيل يفرض نفسه: ليست التجربة التي سأقوم بتوصيفها محبطة بالضرورة، لأنها تكون متبوعة أحيانا بغبطة تحول الفراغ إلى حريق، إلى جحيم مرغوب فيه…
وحينما كنت أهم بالخروج، ألح سيوران: “لا تنسى أن تقول لهم بأني لست هامشيا، الذي يكتب من أجل الإيقاظ. كرر قول ذلك: إن كتبي تطمح إلى الإيقاظ.”
حوار ظهر تحت عنوان (Escribir para despertar)، في الصحيفة الإسبانية اليومية الباييس (El Pais) 23 أكتوبر 1977.
نقله من اللغة الإسبانية غابريال لاكولي Gabriel Laculli) (
ــ
مصدر النص:
Cioran Entretiens , Gallimard,1995 .
فرناندو سفاتر Fernando Savater) ( (21 يونيو 1947ـ) ولد بسانت سيباستيان، فيلسوف، ناشط، كاتب مقالات، روائي، كاتب مسرحي، مترجم، صحافي وأستا إسباني .