أ.د. أبو المعاطي الرمادي
في المجموعة القصصية (محاولة أخيرة للظهور) للقاصة هبة بسيوني، يحضر خطاب العشق والحرمان تيمة أساسية بجوار تيمات أخرى في القسم الأول من نصوص المجموعة المقسمة إلى قسمين: قسم يطغى فيه الفنتازي بمكوناته العجائبية والغرائبية على الواقعي، وقسم يطغى فيه الواقعي بمكوناته على الفنتازي، فلا تخلو قصة من قصص القسم الأول من بحث عن الحب، وقلما انتهت قصة بتمام دورة الحب ووصولها إلى بر النهاية السعيد. فالعشق في القصص كافة _ باستثناءات محدودة _ عشق مبتور، يبدأ دافئًا، لكنه ينتهي بحرمان على غير ما يتوقع المتلقي، ولعل كسر أفق توقع المتلقي، وصناعته بحرفية عالية، هو أهم ما يميز هذه المجموعة.
في قصة (طعم العشق) يسقط الفتى الثري، حلم كل نساء القرية، الذي مرر جسده على ألف فتاة في بئر عشق الطبيبة الشعبية الساحرة التي ” نبتت من خيوط حرير أصلها يرقة لم تكتمل لفراشة”، مذ رآها تمشي في سوق القرية “بتؤدة كأن سحابة غير مرئية تحملها”، تودد إليها بشتى السبل، أغراها بالمال، والذهب، والبيت الكبير، والزواج، لكنها أعرضت عنه. عشقه لها جعل همه الأكبر أن تلمس بيدها جسده. فتمارض كي تفحصه ويحقق حلمه، لكنها ” رفضت أن تضع يدها عليه”، وأدركت بنظرة واحدة أنه كاذب، فأفرط ” في الطعام، وشرب الماء متعكرًا، وجرح نفسه”، لكنها كانت ترده في كل مرة بحسم شديد، فشق رأسه ليخرجها منه، حتى كاد أن يموت، فحملوه إليها، فخاطت جرحه بخيطها السحري، وقبل أن تنتهي غمست إصبعها في دمه وتذوقته، وقالت: ” دمك يحمل طعم العشق، فلا تعشق”، لكن السيف كان قد سبق العذل؛ فقد شم رائحتها، وشعر بلمسات أناملها، وأصبح أسير عشقها، لثم قدميها، وصنع الكثير من الخطوط الطولية في جسده، ليتمتع بلمسات أناملها، حتى أصبحت جراحه دواء عشقه، لكن هذا الدواء انقطع برحيلها المفاجئ عن القرية، بحث عنها في كل مكان، حتى وجدها ” تسير وحدها، ويبدو عليها الوهن”، ركع أمامها طالبًا رفقتها، ” أخبرته أن صحبتها ممكنة، لكن بشرط أن يضع شريطًا من لحاء الشجر في رقبته حتى تأمنه،” وافق دون تردد وأحنى عنقه لها لتضع حوله الطوق، وحملها أيامًا دون كلل وهما في الطريق إلى قريتها، غير عابئ بالشريط الذي أدمى عنقه، ولا بشح ابتسامتها، راضيًا بالوجود بجوارها وفي جوارها، بعد أن بلغ عشقه منتهاه. عندما وصلا إلى قريتها طلب إليها “تحرير عنقه، وعدته أنها ستفعل، ولكن لابد أن ينتظر قليلًا، أنزلها، فابتعدت عنه حتى ابتلعها السديم، نظر حوله لم يجد ظل امرأة، كل ما وجده المزيد من الرجال والأشرطة والرؤوس التي تحمل أثار خيطها السحري”، فكانت النهاية الحرمان الأبدي.
العشق هنا فكرة، يحركها في الظاهر نسق ثقافي فحولي ورغبة جسدية، وكيد أنثوي، فكرة يمكن تأويلها بعشرات التأويلات، ويمكن استيلاد عشرات الأفكار الجزئية منها، التي تجعل للقصة أبعادًا غير عشقية.
وفي رأيي العنوان (طعم العشق)، وحضور الشخصيات بلا معينات اسمية أيقونتان، برعت هبة بسيوني في استثمارهما للخروج بالقصة من حيز العشق الجسدي والروحي إلى حيز الفكرة، ويضاف إليهما المعالجة الفنتازية والمكان المضبب والزمان المفتوح أدوات تطل القصة من نافذتها على عوالم ألف ليلة وليلة التي لا يمكن تلقي القصة بعيدًا عن سطوة حضورها.
وفي قصة (عطر) يعشق الشاب ذو اللحية الكثيفة فتاة من نسل الساحرات اللاتي يُصبن المحبين باللعنة، رغم معارضة عمّاتها الساحرات اللاتي “أهدينها كرة بلورية لإلهائها” بها عنه، لكنها لم تفعل، وأمام إصراره طلبن مهرًا لها صندوقًا يستلزم إحضاره عبور البحر، عبر، وانقطعت أخباره، وراحت تبحث عنه في بلورتها دون جدوى. نصحتها الساحرات بالنسيان؛ فمن يعبر البحر لا يعود، لكنه عاد ومعه الصندوق، لكن يوم عودته بمهرها كان هناك من يضع في إصبعها خاتم الزواج. لينتهي العشق بالحرمان الذي ترتب عليه نزع العاشق لقلبه، وفقدان المعشوقة قدرتها على التحليق والطيران.
العشق هنا عشق أفلاطوني سام، بلا دوافع جسدية، تتساوى فيه تضحية العاشق والمعشوق، فكلاهما قاوم الآخر الرافض لمبدأ العشق (العمات الساحرات، ونساء القرية الحاقدات)، وقبل بالشروط التعجيزية لمنع تواصل القلوب، قبل العاشق بالمهر الغريب، وحافظت المعشوقة على العهد، حتى فقدت الأمل في عودة العاشق.
والعشق هنا يستحضر عشق عنترة لعبلة، الذي حدد أبوها مهرها بألف ناقة من النوق العصافير التي لا توجد إلا في بلاد النعمان بن المنذر، والتي يستدعي إحضارها قطع ألاف الكيلومترات داخل الصحراء. وهو استحضار _ في رأيي _ خططت له الكاتبة بوعي وقصد، حتى تنطلق قصتها نحو أبعاد ودلالات غير أبعاد إمكانية التعايش بين الإنسي والجني.
وفي قصة (بلا أجفان) تضحّي المعشوقة الساحرة بعينيها كي لا ترى أحدًا غير عاشقها الذي سيعبر البحر لإحضار مهرها، استعانت بطبيب نزع جفنيها، وعادت إليه عمياء، فطلب منها استخدام سحرها لإعادة عينيها، فكان ردها ما “يصنعه الأطباء لا يبطله السحرة”، طاف بها على الأطباء باحثًا عن علاج لها، فأجمعوا على أنه لا دواء لها، ذهب لأمهر العرافين، فوصف لها شرابًا من عصير “نصف برتقالة مشوية لمدة ثلاثة شهور قمرية”.
يوم سفره انخلع قلبها وسقط منها ” بحثت بأصابع جزعة عن الجزء الذي سقط منها ورحل معه، لم نجد أثرًا ظاهرًا لدماء، يومها عرفنا أن القلوب لا يلزم أن تطعن أو تشق، لكي تنزف، لا تحتاج سوى لفقد شخص تحبه”.
رغم هذا العشق، عندما طال غياب العاشق استسلمت للعرّاف ذي القبعة التي لا تفارق رأسه، الذي عرض عليها أن ينسيها حبيبها بتعويذة لرأب القلوب إن قبلت الزواج منه، فمن يبتلعه الموج لا يرده”، فقبلت العرض.
إن هبة بسيوني لا تكتب قصصًا قصيرة، بل تصنع أساطير للعشق، مستثمرة علاقتها بالموروث الحكائي العربي القديم، ومخزونها من حكايات الجدات، أساطير لا ينقصها سوى المعينات الاسمية لتجاور أساطير العشق القديمة كعشتار وأدونيس، وإيزيس وأوزوريس، وديانا وأنديمون، ولعل الفضاء الزمكاني الحافل بالفنتازي إضافة إلى براعتها في استثمار مكونات الفضاء لصناعة جو أسطوري هو دافعي لهذا الحكم على كتابتها.
“`
في قصص القسم الثاني من قصص المجموعة وهو القسم الذي يطغي فيه الواقعي على الفنتازي، يحضر الحب، حب كلارا لجدتها، وحب القس لكلارا الطيف، وحب سليم لنونا، وحب بائع السمك لكلارا، وحب الأم لابنها، وحب الشخصية لذاتها، ويختفي العشق الدافئ الذي يضحي فيه العاشق من أجل المعشوق، ويختفي العشق كثقافة.
هذا الاختفاء يطرح سؤالًا مهمًا عن العلاقة بين العشق والفضاء الزمكاني. وهو سؤال تتفرع منه أسئلة، مثل: هل انتهت قصص العشق التي تصلح أن تكون نموذجًا للحب الأبدي؟ هل المدنيّة الحديثة قاتلة لقصص العشق؟ هل اختلف مفهوم العشق عند إنسان العصر الحديث؟
في قصة (دانهيل ديساير) يتعلق بائع السمك طالب الهندسة بـجمال(كلارا) رغم الفارق الظاهر بين مستواه ومستواها، ويأملها زوجة المستقبل، دون أن يصرح لها بحبه. من أجلها بذل ما في وسعه، وتدرج في عمله، وامتلك المال، ولم يعد الفتى الذي تفوح منه رائحة (الزفارة)، وفاح من جسده وملابسه عطر دانهيل ديساير، لكنها كانت قد رحلت، بحث عنها في كل مكان، وراقب رجاله منزلها. يوم عادت كان لتلقي العزاء في جدتها التي رحلت، كان أول المعزين، وبعد حوار طويل وجميل، أظهر فيه براعته في التفاضل، والتكامل، والفيزياء، والفلسفة، عرض عليها الزواج في الزمان والمكان غير المناسبين، فوافقت.
المدقق في القصة كقصة عشق وفي قصص (طعم العشق _ عطر_ بلا أجفان)، يدرك بسهولة الفرق الشاسع بين تناول هبة بسيوني للعشق في قصص القرية وقصص المدينة، وكأن المكان انعكست أثاره على طرائق التناول، والزمان الآني أفقد القصة سحرها، والمدنية انتزعت من اللغة جمالها فأصبحت لغة نفعية ذات وظيفة تواصلية فقط، ويدرك كذلك اختلاف مفهوم العشق، ومفهوم التضحية من أجل المعشوق.
إن تقسيم هبة بسيوني مجموعتها إلى قسمين متضادين (البدائية والتحضر) أعطت المجموعة أبعادًا رمزية خرجت بها من حيز حكايات القرية والمدينة، والحب، والتعايش، لتحلق مضامينها مجتمعة في سماوات قضايا كبرى تمس واقعنا المعاصر، مثل: العلاقة بين المدنية ومشاعر الإنسان المعاصر.
“`
(محاولة أخيرة للظهور) نص كبير متداخل ومترابط بروابط غير مرئية، يدركها المتلقي عندما يتوقع الأسئلة التي تطرحها هبة بسيوني، وعندما يبحث عن إجاباتها بين أسطر قصصها؛ لذا فإن قراءة قصص المجموعة كل قصة على حدة يفقدها الكثير من جمالياتها الكامنة في المقارنة بين مكانين وزمانين، وبين ثقافتين وتناولين.