المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

رينيه ديكارت: حديث الطريقة

أجرى الحوار: سعيد بوخليط*

توطئة: عن المنظمة العربية للترجمة، التي يشرف على أجهزتها الباحث الطاهر لبيب انطلاقا من العاصمة اللبنانية بيروت، صدرت للأكاديمي والجامعي التونسي عمر الشارني نسخة ثانية (مزيدة ومنقحة) من ترجمته الشهيرة لإحدى مرجعيات الفكر الإنساني الصميمية مفهوما ومنهجا، أقصد بذلك عمل ديكارت :[ Discours de la méthode] للإشارة، فقد سبق للشارني أن أخرج الصيغة الأولى لهذه  القراءة العربية لديكارت، بتونس أواخر الثمانينيات. تابع عمر الشارني دراسته العليا بجامعة تونس والسوربون وكذا المدرسة العليا \”Saint-claud\” المتواجدة بباريس. عاد إلى تونس مدرسا للفلسفة بمجموعة من مؤسساتها، بين سنوات 1972/1974. وهي، نفس الفترة التي اعتقل فيها وتقديمه إلى محكمة أمن الدولة بعد اتهامه بالانتماء إلى تنظيم غير شرعي. حُكم عليه بسنة ونصف غير نافذة مع طرده من سلك الوظيفة العمومية. بالتالي، جرد من منصبه كأستاذ للفلسفة. بعدها، شغل وظائف مؤقتة باعتباره  مختصا نفسيا واجتماعيا إلى غاية سنة 1981. ثم، عاد مرة أخرى لتلقين الفلسفة بالثانويات التونسية، حتى انتقاله إلى مدينة نواكشوط الموريتانية عام 1982 ومكوثه فيها ثلاث سنوات كمؤطر فلسفي بالمدرسة العليا. سيدافع في بداية التسعينات وبالضبط 1993 عن أطروحته لنيل الدكتوراه بمدرجات جامعة باريس الأولى وحصل على أهلية الإشراف بها. شغل الشارني، رئيسا لقسم الفلسفة بالجامعة التونسية بين سنوات 1985 و 1998. لأسباب موضوعية، مرتبطة أساسا  بانتفاء كلي لمعطيات جيدة وسليمة، قد تمثل تربة خصبة ومولدة لجينات مناخ علمي ينتقل بالمنظومة المعرفية  العربية إلى عصر العلم والحرية بكل ما يحمله المفهومين من دلالات قصوى، ويخرجها من الرداءة والبدائية. قلت لتلك الأسباب، شد صاحبنا الرحيل ثانية إلى فرنسا،  ليعيش بعاصمة الأنوار ملقنا لمبادئ الفلسفة ب جامعتها \”Clermont-Frrand\”.

كتب الشارني مؤلفات عديدة بالفرنسية والعربية. توزعت بين الإبستمولوجيا، تاريخ الفلسفة، والأدب.فكك نصوص : ديكارت، جورج بوليتزر، كلودبرنار، بوفون، ديدرو، روسو، … الفارابي، الطيب صالح، توفيق الحكيم، العروي، أحلام مستغانمي… .

بمناسبة إذن، قراءته الجديدة لديكارت. سعيت إلى مجالسة الرجل قصد استكشاف ملامح أخرى من هذا المشروع العلمي الرصين واستحضار بعض مساعيه الحثيثة.

1) هل نبدأ من النهاية : لماذا ديكارت اليوم ؟

في الواقع، ليس ديكارت اليوم ولا البارحة. إنه، لكل الأزمنة. ليس للفكر من حدود، سواء جغرافية أو تاريخية. إنه خاصية إنسانية، تستخدمه باعتباره ضرورة لها، والبشرية في حاجة دائمة للتفكير. الإنسان كائن مفكر، يتميز عن الحيوان اللامُفكر (تقول العرب غير ناطق). نشير إلى هذا، ونحن نستحضر وضعية شعوبنا العربية. أعتقد، بأن الجميع متفق على حاجتنا اليوم للتفكير أكـثر من أي وقت مضى. بالتأكيد، نفتقد جوهريا للفكر. والحال، إن ديكارت لا يعتبر فقط مجرد مفكر كبير، بل أحد أعتى المؤسسين للحداثة، إن لم يكن وحده. ما يميز شعوبنا العربية، عجزها عن الولوج إلى الحداثة. تحكمنا دائما معايير الفكر القروسطي. لازلنا، نحيا في القرن الوسيط. نواصل الإيمان مثل أرسطو والفارابي أو ابن رشد بأن \”الطبيعة لا تصنع الأشياء عبثا\”. تخضع لإرشاد وتوجيه مجموعة عقول، يتواجد الله على رأسها. حيث، انبعث المجتمع كما هو من أيادي الخالق، وكل ما يحدث لنا يأتي من السماء، فقوى خفية تمارس تأثيرها على حركاتنا، إلخ. إلا، أن ديكارت تمكن بالميتافيزيقا والعلم من وضع حد لعدد كبير من هاته المعتقدات، إن لم يكن أغلبها. قلص، من سلطة الله، ووضع الإنسان في مواجهة مسؤولياته. رسم بفكره وسلوكه خطاطة عقلانية للطبيعة مبينا كيفيات السيطرة عليها. إجمالا، لقد أسس فلسفة جديدة تعطي الإنسان إمكانية السيادة على نفسه والعالم. فلسفة ديكارت، هي إذن فلسفة لحرية الإنسان، توخت تخليص العقل من الظنون والأوهام وكذا الأساطير التي تستعبده. بذلك، استطاع الإنسان  \”الغربي\” حينما استوعبه، تكسير سطوة القوى التي كانت تستحوذ عليه، والاندفاع أيضا نحو اكتشاف العالم. تمثل شعوبنا العربية ضحية لغزواته. حتما، لو توفرنا في القرن 17 على مفكرين من طينة ديكارت، غاليلي، ليبنيتز، سبينوزا، نيوتن، أو هوبس وكذا معاصريهم ومن تبعهم. لكان، العرب اليوم من بين أسياد الأرض. مع ذلك، من المحتمل دائما استيعاب هذه الثقافة التي تبقى خاصية إنسانية وليست ملكا لأي شخص. طبعا، إذا تأتى لنا يوما ما ذلك بالترجمة والتعليم وكذا مجموعة أعمال تبث مثل هذه الأفكار، فسنحقق خطوة مصيرية في طريق حريتنا. باختصار، مثل هذا المشروع شكل خلفية للمبدإ الذي حكم تشييد جامعاتنا غداة استقلال بلداننا.

2) نلتمس منكم إحاطتنا بمختلف السياقات التاريخية لترجمتكم . الأسباب ؟ الغايات ؟

في الواقع، ترجمتي الحالية التأويلية والتفسيرية لكتاب ديكارت : (Discours de la méthode) (حديث الطريقة)، الصادرة ببيروت، هي الطبعة الثانية، بعد إضافة مجموعة من التصحيحات والتعديلات والتنقيحات، للترجمة الأولى التي ظهرت بتونس سنة 1987. اشتغال، أنجزت أهم مراحله الأساسية، بين فضاءات هذه الساحرة \”نواكشوط\” (عاصمة موريطانيا) والتي ألقبها ب \”وردة الصحراء\”. مدينة، قريبة جدا من قلبي. هناك، حصلت لأول مرة على منصب للتدريس الجامعي بعد سنوات طويلة من العطالة، والمحن جراء اعتقالي واقتيادي إلى محكمة أمن الدولة بتونس، ثم فصلي من التدريس صحبة زوجتي ورفاق آخرين. يجب التأكيد، بأن محاكمتنا لم تكن الأولى ولا الأخيرة  ضد حركة اليسار. لقد استمر القمع على الأقل عشرين سنة. لكن، حينما أدركت السلطة قصورها عن تحقيق أهدافها بالردع البوليسي فقط، حتى ولو دفعت به إلى أقصى مداه، التجأت إلى التضليل الإيديولوجي. أقدمت، على تعريب المواد المُصنفة بكونها مُهدّمة حيث نجد الفلسفة في مقدمتها. من هنا رأيت الخطر الكبير الذي يترصد بلدي وكذا باقي البلدان العربية، وخاصة المغاربية منها. أدركت بسرعة أن المعركة التي نقودها ضد القوى الرجعية وقد غيرت من تاكتيكاتها، هي طويلة وصعبة جدا. نعرف الآن، تلقي أغلب الحكومات العربية، إن لم يكن جلها، للأوامر الأمريكية كي ينبتوا في أوطاننا مجموعات إسلامية ومساعدتهم على التجذر سعيا للقضاء على الماركسية الصاعدة. إذن، من أجل مقاومة هذا الوباء، وأقدم في نفس الآن لرفاقي بعض أدوات العمل، انكببت على الترجمة، ولو كنت وقتها بدون وظيفة تخول لي دخلا قارا. أمر، انطبق كذلك على زوجتي، خاصة مع المطاردة الدائمة للبوليس السياسي أينما ارتحلنا وعثرنا على شغل.

في إطار هذا السيـاق، تتموقع ترجمـاتـي ولا سيمـا : (Discours de la méthode). الذي استغرق تقريبا مدة زمانية بلغت خمس سنوات. فقد، أجبرت غير ما مرة على وقف مسار الترجمة، تحت وطأة البحث في كل مكان عن مورد اقتصادي يوفر لي ولأسرتي أسباب البقاء. لكن ديكارت، عاش معي أيضا، آخر سنوات بطالتي بعد التحاقي بأقسام التعليم العالي، أستاذا مساعدا بين مدرجات المدرسة العليا لنواكشوط.

3) بحسب معرفتكم، هل توجد ترجمات عربية أخرى لكتاب ديكارت ؟

نعم ! أشير إلى اثنتين مشهورتين. الحديثة أكثر، هي التي اشتغلت عليها شارحا ومعلقا. بمعنى، تعقبتها خطوة خطوة، محاورا ودارسا. كما أنني\”أنقح\” كلما فرض المقام ذلك. أستحضر، ترجمة اللبناني \”جميل صليبا\” الصادرة نهاية سنوات الخمسينات من القرن الماضي ببيروت تحت إشراف اليونسكو. أذكر كذلك، ترجمة أكثر قدما، ظهرت أواخر سنوات الثلاثينات في القاهرة من قبل أحد المصريين كان تلميذا ل أندري لالاند  André lalande. للأسف، لم أعلم بهذه الحقيقة إلا إبان المراحل الأخيرة لعملي. لذا، أتأسف نظرا لعدم تمكني من استثمار مضامينها فيما يهم الطبعة الجديدة. توجد نسخة وحيدة فوق رفوف المكتبة الوطنية بتونس، بينما كنت أهيئ هذا العمل بباريس.

4) من وجهة نظر إبستمولوجية، وبالقياس إلى مشروعكم العلمي، أين تضعون عملكم الحالي ؟ وكذا ترجماتكم بصفة عامة ؟

إنه سؤال مهم ! والجواب عليه ليس هينا ! يتمثل أولا مشروعي الكبير، المستأثر بكل مجهوداتي في فهم الحداثة، أي ما نسميه \”العصر الكلاسيكي\” للقرنين 17 و 18، وهي التي صنعت كما تعرفون أوروبا والعالم الحالي. هنا، يتمركز لب أعمالي (مؤلفات ومقالات) الصادرة ب : تونس، بيروت، باريس، ثم نيويورك، باللغتين العربية والفرنسية أو مُترجمة إلى الإنجليزية. ستقول  لي: لماذا ؟ سأجيبك : أولا،  بالنسبة إلي وكذا شعبي. فالقضية الكبرى لشعوبنا العربية، كما قلت لك منذ قليل، كوننا أضعنا الحداثة، بالتالي أصبحنا عرضة لكل المصائب. تتفاعل مجهوداتي وفق مسارين متكاملين : تقريب الحداثة منا، ثم تقريبنا من الحداثة. تطمح ترجماتي إلى جعل الكتاب المعاصرين يتكلمون العربية، وحينما يهاجرون يفعلون ذلك جيدا ! يتعلق الأمر إذن، بوضع هذه الثقافة في متناول طلبتنا وكل من بإمكانه الإطلاع على لغتنا.

بمعنى مغاير، فعلى الرغم من توجه أبحاثي الأكاديمية  إلى متخصصين في كل العالم، ابتغيت أن أظهر لزملائي قدرتنا نحن العرب على \”إضافة شيء ما\” لهذا التراث، الذي يمكننا استيعابه تماما مثل الأوروبيين، وأحيانا أفضل من بعضهم أيضا. منجزات بينت، بأن كونك تونسي، ولدت وتربيت وسط أفراد أسرة من الفلاحين على تخوم الحدود بين تونس والجزائر، فذلك لا يحول دون فهم ديكارت، ديدرو Diderot، هالير Haller، بوفون Buffon، شارل بوني Bonnet، أو روسو Rousseau…، أفضل من الذين فتحوا أعينهم وترعرعوا في جنيف ثم باريس أو برلين. أريد، أن أظهر قيمة انتفاء كل الحدود أمام الفكر، وبأن الفكر إما إنساني أم لا ! أمثل بهاته المشاريع التي أتبناها إلى جانب زملاء عرب آخرين، محور طليعة شعوبنا العربية نحو الثقافة الحديثة والمعاصرة. نريد، بإنتاجنا وهجرتنا، إعطاء الدليل على كونية الفكر الإنساني. هل سننجح ؟ هل سنخفق ؟ المستقبل وحده يحدد الأمر. لكن في جميع الأحوال، سنحاول … .

لكن مؤخرا، اكتشفت جانبا آخر، انكب عليه حاليا : عولمة الثقافة العربية الكلاسيكية، وبشكل خاص، الفلسفة. فهذا المكون من تراثنا عليه أيضا تعضيد وتقوية مشروعنا. حتى وقتنا الحاضر، أشرف على هذا الميدان مجموعة من المستشرقين ظلت معرفتهم باللغة العربية قاصرة  وغير كافية. أو بعض الباحثين العرب المفتقدين للتكوين الفلسفي. بالتالي، لم يروا فيه إلا صدى للفلسفة اليونانية : أنا الآن بصدد كتابة مؤلف عن الفارابي، حيث وقفت حقا على إمكانية مقاربته مثل المفكرين المعاصرين الذين أشتغل عليهم. طور الفارابي، منظومة فكرية أصيلة ومنسجمة، يمكنني عبرها وضعه بسهولة ضمن تاريخ الأفكار، وأبرز ليس فقط أنه \”ذهب أبعد\” من أفلاطون، أرسطو، وأفلوطين، بل أيضا مهد السبيل ل ديكارت، ثم ليبنيتز أو سبينوزا. معضلة أغلب الذين قاربوا هذه الفلسفة، افتقادهم لثقافة مؤهلة. بالتالي، لم يتمثلوا غير جهلهم، من تم بدت عقيمة وغير ذات فائدة.

5) ألا ترون معي بأن الفكر العربي يزداد كل يوم ابتعادا عن أسس الحداثة ؟

ربما ! لكن كل شيء يرتبط بما نصطلح عليه \”فكرا عربيا\”. بل، إنني لا أقتنع بوجود فكر عربي وحيد. تمثلت قضية العرب الكبرى، منذ \”الاستقلالات\” في تضارب \”أفكارهم\”. كان لهم، أساسا نمطين من التفكير يعارض كليا أحدهما الآخر. أقصد ب \”فكر\”، مفهوم متماسك اتجاه العالم. كيفية إدراك الأشياء، تفسيرها، والتصرف على ضوئها في الحياة اليومية. إذا طرحت عل شخص ما، السؤال التالي في يوم ممطر: لماذا يهطل المطر؟ فالجواب الذي سيقدمه إليك، لن يؤسس فكرا، لكنه ينهض حتما على \”فكر\”. للتبسيط إلى أقصى حد، نقول هذا التأويل يقوم على جدولين : يتضمن الأول، الله والأرواح. في حين، ينطوي الثاني على الطبيعة وقواها، بمعنى علاقات الفعل والتفاعل بين الظواهر. وضع، يشير إلى وجود \”فكر\” أي منظومة نسقية تفسر زُمرة (نوعا ما كبيرة) وقائع وظواهر. إذا أخذت ثانية مثال المطر، فقد نتبنى اتجاهين تفسيريين : أحدهما طبيعي (من خلال المعطيات المناخية). والآخر فوق طبيعي (نتيجة تدخل الأرواح وكذا القوة الإلهية). عاشت أوروبا، صراعا تاريخيا بين النسقين، طيلة الفترة الممتدة من القرن 16 إلى 18. ميزته سمة اضطهاد العلماء والفلاسفة من طرف الكنيسة المسيحية والنظم الملكية التي كانت تحت الهيمنة الإيديولوجية للكنيسة. يكفي، تذكر العلماء والفلاسفة الذين تعرضوا للمضايقات بدرجات مخالفة، بلغت حد إحراقهم أحياء. عشرات أمهات الكتب منعت وسحبت من التداول، بل وحتى إشعال النار فيها وسط الساحات العمومية. أخيرا، مع الثورة الفرنسية انتصر التفكير العلمي والعقلاني على الفكر اللاهوتي. ثم، اكتمل انتصاره النهائي مع توالي القرون سواء داخل الدوائر العلمية أو الحياة العمومية. بينما، الأمر عندنا مختلف، فقد استمر تآلف هذين \”الفكرين\” يتقاسمان عقولنا جنبا إلى جنب. يسود أحدهما الجامعات، في حين نعثر على الثاني في المقاهي (أحيل على أمثلة مجازية أو \”رمزية\”). ذاك هو حال الفكر العربي ؟ الذي ابتعد عن الحداثة ؟ \”فكر المقهى\”، بمعنى ثان، لم تكن له أية صلة بالحداثة. الشيء، الذي يصعب معه أصلا قياس درجات تحوله. أما فكر الجامعة، فقد ولد ونشأ بين سياقات الحداثة. لذا، توجد إمكانية لتلمس الإنزياح والوقوف على تحققاته. لكن، من الضروري الإشارة إلى أن بلداننا خاصة المغاربية

قد أدت ثمنا غاليا في أفق إقامة نظام تعليمي حديث ، سعيا نحو \”جلب\” ومراكمة الفكر المعاصر. لقد أرسلوا الطلبة إلى أوروبا، كما استدعوا مجموعة من الأوروبيين للتدريس عندهم. كانت هناك تبادلات في إطار ما نسميه ب \”التبادل التقني والثقافي\”. كل هاته المجهودات، توخت تعويض \”فكر المقهى\” ب \”فكر الجامعة\”. يجب الاعتراف، بأن ذلك أثمر بعض النجاح إلى غاية سنوات السبعينات. لكننا سنلاحظ تدهور التعليم منذ الثمانيات. النتيجة، نكتشف اليوم، تخلي فئات متعلمة واسعة من تلاميذ وطلبة وكذا مدرسين عن الفكر الحديث\” أي فكر \”الجامعة\”، والاستسلام ل \”فكر المقاهي\”.

6) هل جعل ديكارت يتكلم العربية، مجرد عمل بسيط للترجمة أم أن الأمر يحتم مشروعا اجتماعيا وثقافيا ؟

لا تعارض بين المسارين. يمكننا دائما البدء بعمل بسيط : عمل الترجمة، لكن السياقات التاريخية قد تحول هذا العمل إلى مشروع كبير بأبعاد أكثر أهمية. من الواجب على المفكر إنجاز عمله وتفعيل روافد نتاجه، بعده يصنع التاريخ من ذلك ما يريد ! هل ظن أرسطو، بأنه سيهيمن على الفكر الإنساني عشرة قرون ! وهل تخيل روسو تبجيل الثورة له ! بالتأكيد، كل واحد يريد أن يصير لعمله أثرا حاسما، ومفيدا على شخص أو شيء ما. لا يمكنه، فعل أكثر من ذلك. حتى ولو كان معتقدا العكس، وبأن عمله لا يجدي، فهو ينطوي على قوة في ذاته قد تدفعه للقيام بخطواته. يؤسس ثم يركن للصمت ! فالمفكر ماهية لوعيه وواجبه. حلمه، إتمام واجبه وأن يعيــش في انسجام مع ضميره. أو كما يقول ديدرو Diderot في صيغة جمـيلة : (Nous ne faisons que passer !) المهم، العمل على جعل هذا الانتقال مثمرا. كانت آخر عبارة لكانط Kant : (c\’était bien). لقد قضى الرجل حياته كلها وهو يشتغل. الجيران ، يضبطون ساعاتهم بناء على وقت جولته اليومية. كان يدرك بأنه بصدد القيام ب \”ثورة كوبرنيكية\” (المفهوم له) في ميدان الميتافيزيقا. ثورة، ستمر بشكل عابر في عصره، فقد حوربت وانتقدت بقوة. قد نعدد أمثلة المفكرين الذي عاشون الشقاء أثناء حياتهم : لامارك Lamarck و بالأخص روسو وكذا آخرين لم يتحقق لهم المجد إلا بعد رحيلهم. علينا نحن العرب اقتفاء نماذجهم والاشتغال وفق مرجعيات الزهد والنزاهة، كما يحتم ذلك الضمير والواجب. وليس جريا وراء التباهي والغنى، أو وصولا إلى سلطة سياسية … .

7) ما هو السياق المجتمعي لتعبيركم \”عمدت إلى\” ؟

ببساطة أستحضر بتلك الصيغة السياق السياسي والاجتماعي، الذي حكم عملية تعريب بعض المواد في بلداننا، من بينها الفلسفة. أريد فضح البعد الاعتباطي والميزة  الارتجالية لهذه الخطوة. في بلدي تونس، تعريب مادة الفلسفة بالثانوية قررته السلطة السياسية بين شهري ماي ويونيو، ثم طبقته شهر أكتوبر الموالي. هكذا، دون دراسة سابقة وقد عارضت الأغلبية الساحقة من المدرسين خاصة أفضلهم، عشوائية المسار، ووقفوا موقفا قويا في مواجهة الأمر. لم يخضعوا لتكوين بيداغوجي بهذا الخصوص، أو توفروا على أية أداة للاشتغال، سوى كتابا مدرسيا كان في طور التهيئ، بل ولا يعلمون إن كان سيرى النور أم لا. إلخ، إن قرارا بمثل هذه الخطورة، تجلت كارثيته مع مرور الأيام، اتخذته السلطة حـسب الهـوى، أو كما يقول الفرنسيـون : (un coup de tête) ولاعتبارات سياسية ضيقة. غير، أن مشروعا من هذا القبيل نصفه بالتاريخي يتطلب تحضيرا لسنوات عديدة، وتكوينا تربويا للمدرسين والتلاميذ، إلخ. تكمن، مأساتنا في الهيمنة  المطلقة لسلطتنا السياسية، بحيث تتلاعب بالجميع وتتدخل في كل شيء.

8) شكل إذن تعريب الفلسفة إخفاقا وفشلا على مستوى طريق الحداثة ؟

طبعا ! لا يجب إغفال، أن تدريس الفلسفة بالثانوية، تبلور في بلد مثل فرنسا من قبل سلطة  تنتسب إلى الثورة، تريد جعل هذا التعليم وسيلة وأداة تستهدف  خلق مواطنين للمستقبل، قبل كونهم فلاسفة ! وهو مضمون المنظومة التعليمية الفرنسية إلى يومنا هذا. تعليم، كما هو معلوم جدا يعالج ويقارب أسئلة عامة، يفترض في الجميع  أن تكون له فكرة حولها، مثل  قضايا : العدالة، الأسرة، الاعتقاد، أو الدولة … . إنه لا يلقن نظرية رسمية، أو جوابا عن هذه المحاور التي تمس الجميع، ولا يقول هذا جيد والآخر سيء ! غايته فقط، طرح وجهات نظر متعددة تتعلق بكل سؤال، مما يساعد التلاميذ على التفكير والحيلولة دون تموضعهم داخل هذا الاتجاه أو ذاك. بدون شك، حينما نربط هذا التعليم بلغة حديثة مثل الفرنسية، فإننا نقف عبرها على لا نهائي من الكتب المختصرة والدراسات …، يجدها التلاميذ في متناولهم باقتنائها أو استعارتها من مختلف المكتبات. هكذا يتعود التلاميذ على القراءة، والتأمل مع كبار المفكرين، وهم يضعون اليد على ملخصات  ومقاطع لهؤلاء، هيأتها بطريقة سهلة الكتب المدرسية، وكذا الإصدارات المتواترة للأعمال التأسيسية. لكن، حينما نغير اللغة، نفتقد كليا هذا المرتكز البيداغوجي، ثم يصبح التعليم فارغا وعقيما. إذن، قبل الشروع في عملية التعريب، كان من اللازم تحضير هذه الأداة وتعبيد طريق السند المنهجي، لقد بذل بعض الزملاء كل ما في وسعهم، من أجل توفير ترجمات وأدوات للاشتغال، للمدرسين والتلاميذ وكذا الطلبة، بعد حدسهم للأخطار المحدقة بواقعنا التعليمي. لكننا، كما لو أردنا تعويض المطر بمرشة.

9) كيف تكون الترجمة وسيلة لمناهضة القوى المحافظة ؟

بكل تأكيد ! لكن تجب الإشارة أولا، الترجمة هي قبل ذلك غاية في ذاتها. كل البلدان تترجم، قدر ما يمكنها الأمر إلى لغتها. على سبيل الذكر، قرأت مؤخرا أن بلدا مثل إسبانيا يترجم وحده كل سنة، نفس ما تقوم به البلدان العربية مجتمعة ! هكذا، يمكن لبلد ما الخروج من عزلته، و\”الانفتاح على العالم\” كما نقول. لنأخذ نموذج \”جان ماري لوكليزيو\” \”J.M.G. le Clézio\” الفائز بجائزة نوبل للأدب سنة 2008، تترجم مؤلفاته حاليا إلى جميع اللغات. أديب منا، ينتمي إلينا، فقد ولد وشب في إفريقيا يدافع عن إفريقيته. عاشق للصحراء ومتيم بها، كرس إحدى أجمل رواياته المعنونة ب : Désert. للصحراء الغربية. عمل، يستحق الترجمة فورا إلى اللغة العربية.

بالنسبة لوضعيتنا، الترجمة حيوية بالنظر إلى ضعف إنتاجنا الفكري، تحتل القوى المحافظة كل بلدان العالم وأفرزتها جل الحقب، موظفة الجهل والإطراء على الوجدان الوطني المتطرف، تزداد معه حدة التعصب والشوفينية والفاشية. باختصار، كل القوى \”التي تجر إلى الوراء\”، مانعة بذلك شعوبها من التقدم والتطور. نضيف من ناحية ثانية، بأننا لسنا الأوائل من سيترجم. فازدهار الثقافة العربية الكلاسيكية، بين القرن 4 و 10، ارتكز كما يعلم الجميع على تشييد بيت الحكمة، كمؤسسة للترجمة لمعت داخلها أسماء مثل \”حنين بن إسحاق\”. مُنشأة، خولت إمكانية استيراد الفلسفة والعلم من اليونان والهند. لقد قيل دائما، بأن مصدر ظهورها يعود إلى حلم للمأمون التقي فيه أرسطو، إلخ. أما التأويل الآخر، فهو أكثر احتمالا ومعقولية، يشير إلى تبني الخليفة الكبير لمثل هذا المشروع الضخم في أفق توطيد ومراكمة ثقافة عقلانية تناهض العنوصية والتصوف، المهددان بقوة لعرشه. اليوم، نصنع نفس الشيء بوسائل أقل، هل يتكرر التاريخ ؟ ربما، لكن في جميع الأحوال، ليس بالطريقة ذاتها.

10) أين تضعون دائما كتابكم السابق عن \”الذات المحاصرة\” (الصادر عن : l\’ahrmattan 2004) والذي تناولت مضامينه، قيمة الهجرة في الأدب العربي المعاصر عبر توظيف نماذج : توفيق الحكيم، الطيب صالح، أحلام مستغانمي ؟

أقول أولا، بأنه يسكن قلبي ! بين ثنايا عشقي للأدب العربي، والذي لم أنقطع عنه منذ طفولتي (أخبرك بين قوسين، أن ترجمته الإنجليزية قد صدرت منذ سنتين بمدينة فيلاديفيا Philadelphie). ثم أضيف، بأنه يندرج حقا ضمن هذا المجهود لتحديث الثقافة العربية، حيث بينت فيما أظن وجود نوع من \”تطور الوعي\”ابتداء من الحكيم ثم الطيب صالح وأحلام مستغانمي. لاشك، أنني أظهرت بأن مستغانمي تجسد معطيات كاتب معاصر حقا، في نطاق كونها تضعنا حقا أمام مسؤولياتنا. ستلاحظ، توظيفي لكلمة \”مسؤولية\” بخصوص ديكارت ثم بزخم أكثر مع  ديدرو وروسو، وكذا الفلاسفة الموسوعيين الآخرين اللذين كانوا وراء الثورة الفرنسية. في الواقع، المفكر الحقيقي هو من ينتصب واقفا أمام ثقافته، يضعها أمام مهامها ويحاسبها باسم الإنسان.

11) ماذا يعني ذلك ؟

أن يخاطبها بصيغة كهاته : \”آه ! ثقافتي. أنت التي أحب، ماذا تحملين للإنسانية ؟\” أو، إذا أردت  قد يطرح التساؤل بصيغة مختلفة : \”آه، ثقافتي ! بأي شكل  تجعلين منا بشرا ؟\”.

12) سؤال أخير : انطلاقا من الجرائم الوحشية الإسرائيلية الأخيرة في قطاع غزة، وقياسا لسجل دموي ضخم، هل تتخيلون للعرب من مستقبل ؟

بالطبع يملكون مستقبلا ! لكن القضية بأكملها تتمثل في معرفة ماذا سيكون وكيف سيكون ! الشيء الثابت، ارتباط هذا \”المستقبل\” بالحاضر، قدر تعلق حاضرنا بماضينا. ما نعيشه اليوم مثلا، يعود بنتائجه إلى هزيمة 1967. لنفترض العكس إذن، ماذا لو سبق للعرب الانتصار في تلك الحرب. كيف ستكون وضعيتنا اليوم ؟ بالتأكيد، على شاكلة مختلفة ! بناء عليه، يمكننا القول بأن  مستقبل العرب، في طور التشكل انطلاقا من حاضرهم. بالتالي، ما وقع في غزة، سيساهم في هذا المسار. لكن، بما أن الأسلحة تقتل حاليا، فلنحاول سريعا القيام بخلاصة موجزة.

أول عنصر في رأيي، يسترعي الانتباه : لقد اعتقد الجميع، بأن إسرائيل ستسحق المقاومة خلال بضعة أيام، لكن بعد مرور ثلاثة أسابيع من القصف الأكثر عنفا ووحشية. لاحظنا، بقاء المقاومة صامدة، متوعدة كل لحظة باستئناف القتال ثانية. لقد \”قبلت\” إسرائيل وقفا للإطلاق النار دون أن تحقق أي شيء. بل، على النقيض، أسابيع الحرب الثلاثة جلبت لها إدانة تقريبا من العالم بأكمله. تعتبر إسرائيل حاليا، أكبر خاسر في هذه الحرب، للمرة الثانية بعد (2006/8). حتى ولو لم تتعرض لهزيمة نكراء، فقد عاشت إخفاقا عسكريا. يبقى إذن، استخلاص النتائج السياسية التي ستظهر على المدى البعيد.

إذا التفتنا نحو الجانب العربي، سنرى بأن أكبر خاسر  هي السلطة الفلسطينية. لم يكن، من اللياقة مطلقا إدانة  رئيسها للمقاومة (قرأت في هذا الباب جوابا ممتازا، لعبد الباري عطوان في جريدة القدس). عوض توجيه اللوم للمقاومة وإطلاق النار على الجماهير الفلسطينية المتظاهرة، وهو ما يعتبر فظيعا أكثر. كان من الصائب والمجدي سياسيا تحويل هاته السلطة لكل فلسطين إلى حالة حرب واستئناف الاتصالات مجددا مع المقاومة بغزة. إنها فرصة ذهبية وأقل ما يمكن التقاطه، في سبيل تعزيز وتقوية صف الوحدة الوطنية. ذلك، ما كان سيقوم به ياسر عرفات بدون شك، وهو الذي فعل  كل ما بوسعه كي لا تضع المقاومة أسلحتها، لقد تحمل كثيرا إلى غاية يوم رحيله، دون التخلي عن الكفاح المسلح. كرر القول، دائما (الصورة التي قدمها في الأمم المتحدة) عن ضرورة حمل غصن زيتون في يد، إلى جانب البندقية في اليد الثانية. كما أنني لا أرى أية أوراق رابحة، قد تتفاوض بشأنها السلطة الفلسطينية الحالية. فقد  استسلمت كليا لإسرائيل، بحيث لا تكف عن \”إدانة العنف\”. بإمكان، إسرائيل اليوم الدفاع على استمرارية أبدية لتلك \”المفاوضات\” الذائعة الصيت. في المقابل، سيتواصل الجحيم اليومي للفلسطينيين، كما يفرضه عليهم الجيش الصهيوني. الخاسرون أيضا، في مقام آخر، هاته الحكومات العربية التي رأت الهوة، تزداد بينها وشعوبها، إلا أن هذا الوضع ليس جديدا، ولا يستحق حتى مجرد التكلم عنه.

إذا فحصنا من الجانب الآخر دفتر الرابحين، أظن بأن الشعب  الفلسطيني، أكبر منتصر. شعب عظيم، أعطى دائما صورا حية  عن البطولات والشجاعة. لقد حيته كل أمم الكون، ونزلت بالملايين إلى شوارع عواصم العالم (أشير إلى ما لا يقل عن أربعة مظاهرات في باريس، وكذا  العديد من مدن المقاطعات الفرنسية).

بعد هذا، نتحدث عن اليسار العالمي، وأخص بالاستشهاد المواقف  العظيمة ل هيغو تشافيز Hugo chavez وإيفو موراليس Uvo morales. اهتزت أمريكا اللاتينية اليسارية لدعم الفلسطينيين في صراعهم، وإعطاء الدليل عن التقليد اليساري الماركسي المتعلق بالتضامن العالمي. لقد ابتسمت وسعدت جدا، وأنا أصادف في صفحة منبر جريدة القدس أصواتا تنادي بنقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى كاراكاس ! تأثرت أيضا، عند رؤيتي للجماهير الفلسطينية، وهي تلوح عاليا بصور عرفات وتشافيز جنبا إلى جنب. سيشعر عرفات بالسعادة، لو كان على قيد الحياة، حينما يرى نفسه بصحبة  هذا الرجل الاستثنائي. لقد كان عرفات في عصره، أحد الثوار العالميين الكبار من حجم مانديلا وهو شي منه Ho chi minh. كذلك، وعلى خلاف مما استخلصه كثير من المفكرين، فقد خرجت مصر قوية من هذا الاختيار. أقول، للذين أدانوها ! أنظروا إلى ما فعله الآخرون ! على الأقل استراتيجية مصر واضحة جدا، تختصرها فيما يلي : لا يمكننا القيام بالحرب، فلندافع عن السلام ! وقد نجحت في ذلك حسب ظني. لقد تجلت الديبلوماسية المصرية، كمحاور للعالم أجمع، وممتلكة لأسرار الحل.

فيما يخص حماس ؟ في رأيي، قدمت الفرصة لإسرائيل كي ترتكب جريمة أخرى دون مكسب سياسي كبير. حقا، كشفت عناصر حماس عن مهارة عسكرية ولم تنهار كما حدث مع الجيش العراقي، ولهم اليوم الحق في التحدث عن تحقيقهم لانتصار عسكري صغير. إلا أن السؤال بأي ثمن ؟ 1300 شهيدا، آلاف الجرحى، وتحطيما ضخما  للبنية التحتية الهشة والضعيفة. إلخ. ثم ما هي النتيجة ؟ ستواصل إسرائيل حصارها، استمرار معاناة العائلات الفلسطينية بعد فقدهم للعديد من الرجال والنساء والجرحى… . أمام كل ذلك، يطرح السؤال الكبير التالي : ما هي خطة حماس ؟ تنظيم ولد تحت أعين إسرائيل وأمريكا، بهدف إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية وتقسيم الفلسطينيين في جميع الأحوال. فهي، تحقق آنيا بالضبط المخطط الذي رُسم لها أصلا من طرف إسرائيل وأمريكا، حيث أوصلت المقاومة الفلسطينية إلى أخطر تقسيم لم تعرفه منذ أربعين سنة. باسم ماذا ؟ المزايدة على اتفاقيات أوسلو، كما لو أن منظمة التحرير وقعت عليها  كي تسعد الصهاينة. ما هو الخيار الذي تقدمه حماس ؟ لا نعرف أبدا. في الحقيقة، ستعيد نفس السيناريو، الذي حدد خطوات منظمة التحرير الفلسطينية منذ أربعين سنة، منتهية حتما عند نفس الطريق المسدود. ربما تضطر للجلوس إلى طاولة المفاوضات ! وقد تقوم بنفس ما يصنعه اليوم رئيس السلطة، أي إدانة \”العنف كيفما كان مصدره\” !.

*أكاديمي ومترجم وكاتب من المغرب