دة. نبيلة مسعودي*
في كل ليلة أتقلّب على أريكة الحلم، تطاردني الأوهام بينما أطارد النوم. والقمر يطل على أحلامي القادمة، يتسلل ضوءه نحو الأريكة بكل هدوء، يتحدى النعاس، ويحاول جاهدا أن يصرفه عن عينيّ. يحاول أن يخبرني بلطف عن حجم الانكسارات التي تحف طريقي، يزين الفواجع التي تفصلني عن أحلامي لتبدو ألطف على العين وأخف على الحمل؛ يحكي لي عن ملاحم الشجعان وانتصارات البواسل. وبأنامله القطنية، يداعب أطراف رموشي وينفض عنها بقايا دموع من فائض السنين. أحرر نفسي من قبضته، لكن لا شيء يملأ المكان سواه. أعدّل الجلسة، أواجهه بسحنة متعبة، العين في العين: “لا نوم الليلة! دعني أتأمل عينيك علّني أكتشف لونها الحقيقي، علّها تعيرني بعضا من البصيرة حتّى أرى ماتراه عنّي وعن أيّامي القادمة أو لعلّها تُعيرني بعض الجرأة لأخطو نحو اللامستحيل بكل اطمئنان!”. يتجاهلني كأني حمقاء تُعارك الفراغ!
منذ الأزل، لا شيء يغريني في النوم، إلا صباحا أنيقا على شرفة البحر. لا شيء يوازي ميلاد صباح جديد؛ هواء نظيف وهدوء لامع وروح أخفّ. لا شيء أجمل من مراقبة هذه الولادة على عتبة محيط هائج، فارغ إلا من ثورة عالقة بين السماء والبرّ!
في عزّ الحنين، على هامش ذكرى لم يتسنّى لي أن أصنعها كما حلمت، لا أفعل شيئا سوى مراقبة صفحة الماء. أتابع اتجاه الريح. أتعلّم كيف يولد الموج بريئا، هادئا وليّنا، وكيف يكبر بلا سابق إنذارليصبح أهوجا وغادرا. كلّما هدأ، أركِّب من قطع الضوء المنكسرة صورة لأمل جميل. لا يكاد يولد هذا الأمل إلا وتُبعثره موجة ثائرة في وجه الصحو. صحو يطلّ خجلا من زاوية غيمة كبيرة، تبدو مثقلة بأمنيات كثيرة! ألملم قطع الأمل، أتفقّد بريقها، لكنّ موجة أخرى تُصرّ على الثورة، فيبعثرني رذاذها. أغلق عيناي، أفتحهما مجددا… أجد الصورة مبهمة ورمادية الخلفية! خطوط متداخلة ورُقع من الحنين لا تصلح لأيّ شيء، سوى إثارة الوجع. أرنو لسرب الغيوم التي تحثّني على الأمل، أتذكّر إسرافي السابق فيه، فأصرف عنه النظر! يرتفع إيقاع تراتيل المساء، تنزوي الشمس نحو الغروب، وأسوار السماء تنحني إجلالا لحضرة الليل. لا، إنها ليلة أخرى! لا شيء هنا… لا شيء هناك… لا شيء سوايَ وحفنة من النجوم اليتيمة، وحُلم نَزِق يقضي نحبه على قارعة غيمة شاردة.
لا قمر الليلة هنا، لا نور يشتّتني، أنزوي في نفسي… خلوة مطلقة مع الذات، حيث لا شيء سوى أنا وأنا، لا شيء سوايَ! لا معنى للمكان والزمان هنا، ولا وقت إلا للمعنى! أنكفئُ على روحي، وأنظر داخلي: “ماذا بي؟ وما بال الروح لا تكف عن الأنين؟” يرتفع صوت التراتيل ثانية، وثالثة… تراتيل وترانيم وضجيج… كل شيء صاخب يمنعني أن أستمع لدواخل الروح! يرتفع صوت الأنين: أنين وأزيز وصخب، ثم لا شيء! أغلق نفسي، لا أريد أن أسمع شيئا. ضجيج، ضجيج! أعرض عن نشاز الترانيم، أقاوم، أحاول أن أفرز الأصوات. أحاول أن أستمع إليها، أن أفهمها. ربما لو فعلت، لكانت قد خرست، أو على الأقل خفّت وتتركني أعود إلى حياتي.
قرار أخير: سوف أصغي لنفسي، لا أحد يمكنه إتقان ذلك سواي! نوبة من الحنين، ومن العتاب واللوم، من تأنيب الضمير، من الندم، من الألم والأمل، من كل شيء. يغلبني التعب وجهاد وعراك ونزال الروح أرداني صريعة على سرير رملي باذخ.
أفتح عيني بعد غيبوبة شبه أزليّة، وأسراب من النوارس تحطّ بجانبي. أرفع بصري، السماء صافية وخرائط الحلم لم يعد يعتريها السراب! رأيت بزاوية عيني القلق يتربص بأولى خطواتي، فغضضت البصر، وتجاهلت الهواجس التي يجرّها وراءه كقطعان لامتناهية. لم تُخِفني هذه المرة! تحسّست روحي، لم يعد بها الكثير من الصدوع! رميت قطعا من الصورة الرمادية التي بعثرها الموج سابقا، فتكالبت عليها القطعان وسمعتها تقول لا بدّ لها من مزيد ألوان. لا يعلمون أن الألوان لا تغريني! وأن هامش الذكرى لا يتسع إلا للحنين!
*كاتبة من المغرب