المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

في القدس

مأمون أحمد مصطفى

“1”

في القدس

تجتمعُ الذِّكرَيات

باقات برق يُصقِلُها النَّدَى

تولد من وجع تَوْقٍ وحنينٍ

يَرُذُّها المدى

يُزَجِّجُها الغيابُ المستحيلُ عن الغياب المستحيل

يُشذِّبُها عشقُ التوت للحرير

يُهَدْهِدُها دوريٌّ مختطف من الأساطير

فيَنِقُّ يتمرَّدُ على رماد الجمر

يتسلَّقُ الموت من خُرم حياةٍ

مثل صبَّار يَمدُّ يدًا في سراب مشظًّى

يُوقِظُ الرعدَ من سُبَاتٍ

مزدحم بنبوءات تاريخٍ

لا يرتدي ثيابَ المكان

ولا إهابَ زمانٍ

رمانةٌ تحشو خجلَها في نواة كَرَزٍ

ليمونةٌ تتورَّدُ من جورية حُبْلَى

وشاطئ يغزوه الصَّدَفُ والصُّدَف

“2”

في القدس

تُولَدُ الأمنياتُ مُخضَّبةً بدماءِ شهيدٍ

تورق، تنضجُ، تتجلَّى، تتدلى

يلمسها قبسٌ من نورٍ

يُهذِّبُها سور تحطُّ فوقَه عنادل وبلابل

وسُنُونُوَةٌ تحثُّ الأُفقَ نحو ثدي ديكٍ

تسافرُ في حلم مُرصَّعٍ، مطعم بنكهة المسيحِ

تطير خطوةً نحو المجدليَّة

تُعانِقُ بُراقَ الحقيقة

تحكُّ الصمتَ بذيل الضجيجِ

تفركُ الوَجَلَ بقأقأة دجاجةٍ

ترقدُ فوقَ بيض يرفو بعينَيْنِ مضيئتَيْنِ

لباسُ العَتَمةِ

مثلُ عنكبوتٍ فوق غارٍ

ويمامةٍ ترنو

إلى ما لا نرى

من وهجٍ وضياءٍ ونداءٍ

كميلادِ الأمس من الغدِ

وما كان مما سيكون

وكما نصعدُ النزولَ

وننزلُ الصعودَ

“3”

في القدس

تَأْتِلِفُ التناقضاتُ

يولدُ المُمكِن من رَحِمِ المستحيلِ

يبرعمُ الغيبُ مِن حناجرِ الذئاب

ينشقُّ المجهولُ عن معلومٍ

مثل ماردٍ ناهضٍ من مصباح

ينشقُّ التخفِّي جلاءً ونقاءً وصفاءً

تغني الأسوار

تَبْتَهِلُ الجُدرانُ

يعلو نشيدُ النهر في الصَّحْراءِ

تضجُّ القصائد قبابَ سنابل

من ذهبٍ مُصفًّى، منقًّى من رَمَدِ الرَّبيع

وحُزْنِ الخريفِ

تتسابَقُ الغيومُ نحو ولادتِها

تفيضُ دموعَ فرحٍ مبلَّل بالضوء

من مشكاةٍ

تَكادُ تُنيرُ

دونَ أن تَمْسَّها نارٌ

تتهافَتُ خيولٌ

معقودٌ بنواصيها كلُّ الخيرِ

تَصهِلُ، تَصطَكُّ، تُحَمْحِمُ، تَجْمَحُ،

تلتحمُ بالشَّذَى والنَّدَى

تشد سنابكُها بين سورٍ وجدارٍ

تضعُ أجنَّتَها على رأس نرجسةٍ

وفوق جوريةٍ

“4”

في القدس

تكتظُّ المعجزات

مهبط رسالاتٍ

خُطَى رسلٍ

ورُؤَى أولياء

إبراهيم، موسى، يوسف، يحيى

عيسى، زكريا، وخاتم الأنبياءِ

في القدس

بوابةٌ للسماء

التقاءُ إسراء بمعراجٍ

ومعراجٌ بإسراءٍ

بَعْثٌ قبل البَعْثِ

للرسلِ والأنبياء

في القدس

تُصلِّي الملائكة

اليوم، غدًا،

كما صلَّت مع الأنبياء

وصخرةٌ طارت شوقًا، وتَوْقًا

لقَدَمٍ محمودةٍ

أروت ظمأَ العَتَمةِ

أرضُ مَحْشرٍ ومَنْشرٍ

لها من الله قدسيَّةٌ

تُبَرْعِمُ فوق هام التُّقَى

بين الصخور، في الخريرِ

في الأرواح، في الأشذاءِ

“5”

في القدسِ

حمامٌ يحطُّ

حمامٌ يَطيرُ

شهيدٌ يولد من شهيدٍ

وشهيدٌ يحملُ شهيدًا

قوسٌ من قزحٍ

منبتُه السماءُ

مرقدُه الأقصى

مدفنُه الأقصى

نشورُه من أقصى

القلب والمهج والضمير

نوق خلوجٌ تحثُّ إخفافها

سنامها، اجترارُها للريح

“6”

في القدسِ

قدسيَّة، قدس، مقدَّسٌ، أقداس

مقدسيَّات، ومقدسيُّون

لهم روائحُ الغيب، الصبر، الجمر، الجبالُ

فيهم

عطاءُ النهرِ، المطرِ، البحرِ، المحيطِ

لهم

ما ليس لنا

ما ليس لغيرِهم

لهم ما لهم وما لهم لهم

لهم أنَّهم من اللهِ مُختارُون

لهم أنهم قدسٌ مُقدَّس

لهم أنهم

مقدسيَّات، ومقدسيُّون.