بسمة الشوالي – تونس
“النساء يكتبن أحسن” هو كتابُ مختارات قصصيّة لكاتبات من أمريكا اللاتينية ترجمها الكاتب المغربي محمد صوف، صدر سنة 2000. وقد استقى محمد صوف عنوان كتابه هذا من عنوان مقال للكاتبة الأرجنتينية “آنّا ماريا شوا” (1951)، ورد ضمن المختارات كالتالي: “لماذا تكتب النساء أحسن من الرجال؟”
تطرح الكاتبة في هذا المقال مسألة علاقة النساء بالكتابة انطلاقا من فرضيّة أنهنّ الأحقّ بامتلاكها موهبة وممارسة من الرجال بناء على عدّة حجج هي في الواقع مواقف الآخر/ الرجل- الكاتب من اشتغالها بفنّ الكتابة الإبداعيّة، حجج تستعرضها الكاتبة في أسلوب تهكّميّ لذيذ بعبارة محمّد صوف. وفي هذا المقال، سنحاول التوسّل ببعض الاقتباسات التي عن آنّا ماريا شوا لتحليل “الفرضيّات” المطروحة وبيان حدودها التي تتوارى بالنسبة إلى القراءة السطحية تحت نبرة ساخرة تعيد بناء العلاقة بين المرأة والكتابة من جهة، وبين الإبداع في شتّى الفنون وخاصة منها الكتابة الإبداعية شعرا وسردا والإنسانيّ في الإنسان وهو في محلّ إقامته المشترك من هذا العالم.
تقول آنّا: “الرجال الحقيقيّون لا يكتبون. لا يحْكون. يروج في الأيام الأخيرة في أوساط النقاد وهواة الأدب أن الأدب مهنة نسائية. إنه فنّ يشبه فنّ النسج والطرز ”
هناك ارتباط وثيق بين المرأة والنسيج والتطّريز، ارتباط قديم قدم الوجود البشري على سطح الأرض، في مختلف الحضارات، وعبر العصور. آدم كان أوّل من مارس النسج في التراث العربي الإسلامي، فحالما نزل إلى الأرض ذبح كبشا وأخذ صوفه فغزلته حوّاء ونسجه آدم فعمل لنفسه جبّة ولحوّاء درعا وخمارا” ( ابن الأثير). وكانت عشتار آلهة الخصب والجمال في حضارة ما بين الرافدين تدعى بالربّة النسّاجة، وعُرفت أثينا آلهة اليونان بمهارتها في النسج والطّرز، وكانت أراكني فتاة من أثينا تميّزت ببراعتها الفائقة في النسيج ، تذهل منسوجاتها الجميع بشرا وحوريّات وآلهة. وكانت قد تحدّت الربّة أثينا في هذا الفنّ وتفوّقت على الربّ، لكنّ مسألة التفوّق البشريّ التي تمسّ جوهر التفوّق المطلق للآلهة ووجودهم المتعالي أدّت في النهاية إلى أن غضبت أثينا على أراكني فحوّلتها إلى عنكبوت وحكمت عليها أن تظلّ معلّقة إلى مكان منزو بعيد عن الأنظار هي وبناتها من بعدها، إلى كان هشّ سريع العطب، حسيرة النظر وضئيلة الجسد، ليس لها من طريقة للعيش سوى أن تدع الخيط الرقيق ينسل من بطنها إلى الأبد.
حذار، من يرَ منكم عنكبوتا في الركن المهجور فليذكر أنّها حفيدة تلك المرأة المبدعة أراكني، جدّة كلّ العناكب النسّاجات بما فيهنّ تلك التي خلّدت الصحراء العربيّة حكايتها لمّا حاكت شبكتها الدائريّة على فوهة غار حراء فضلّلت قُفاة الأثر عن النبيّ وصاحبه “إذ هما في الغار” ( قرآن كريم) مختبئين.
لا يسمح المجال بالتوسّع أكثر في ذكر الأمثلة عن إبداع المرأة في النسج والطرز وإتقانها لفنّ دقيق وصعب يحتاج إلى الموهبة أوّلا وإلى القدرة على الصبر والمِران والتجربة وحيويّة الخيال والولع الخاصّ بالتفاصيل الدقيقة وبهجة الألوان والصّور والشغف بالحكي والحياكة، وهي ذاتها العناصر الضروريّة لخلق عالم القصّة المتناسق أكان ذلك في المنسوجة، أو الحكاية الشفهية أو الإبداع الأدبيّ المكتوب. ودليل ذلك جليّ في معاجم اللغة العربية حيث “نسج” هو أحد معاني “سرَد”، فسرْد القصّة هو نسْج الأحداث والوقائع وفق تتابع وانتظام معيّنين وذلك شفهيّا باستعمال عضو اللّسان (ومن أسمائه لغة: المِسرد) أو بلسان القلم. وسرْد الدّروع والسترات هو نسجها أو ثقبها باستعمال المِسرد وهو الإبرة/ أداة الثقب وكذا أداة سرد الملابس. ولقد سردت أراكني بمسرد الإبرة قصّة من اثنتين وعشرين مشهدا مختلفًا عن الحبائل والخدع والأساليب الماكرة التي استخدمها زيوس (أب الآلة والبشر عند الإغريق) في إغواء البشر بمنتهى البراعة والدقّة بما أوقعها تحت طائلة عقاب الربّة أثينا، ووظفّت شهرزاد مِسرد اللسان في نسج الحكايات بمهارة جعلتها تمسك بطرف خيط التشويق المنسلّ من بطن الخيال المبدع طيلة “ألف ليلة وليلة”، واضعة بذلك حدّا لانتقام الملك من النساء عبر قتل واحدة منهنّ عند كلّ فجر يولد من رحم الظلمة. والبقاء على قيد الحياة هو انتصار شهرزاد بمسرد اللسان عبر سرد الحكايات على الملك باعتباره استعارة للإله (المسكيني)، وهو ما لم تستطع أراكني تحقيقه بمسرد باستعمال إبرة السرد/ النسيج تحقيقه فكان مصيرها القتل الرمزي/ المسخ بأمر أثينا رغم كونها ربّة أنثى. “إنّ ما يربط بين عناصر ثلاثية الأب/ الملك/ الإله ليس نموذج الذكورة البيولوجية بل بالتحديد مواصلة «الاعتقاد» في النحو. يقول فتحي المسكيني في توطئة كتابه “الجندر الحزين”.
لكن، هل النسج بما هو سرد للقصص بالخيط والإبرة والقلم واللسان فنّ نسائيّ بحت؟
إنّ آدم وفق القصص الديني الإسلامي هو أوّل النساجين على وجه الأرض إطلاقا، نزل من السماء سيدا مطلقا وأبا لكلّ شيء وكلّ أحد ولم يكن مضطرّا لإزاحة أيّة ربّة نسّاجة أو امرأة من الفانيات المبدعات في النسج كما في الأساطير الإغريقية. ولأنّه هبط عاريا فقد بادر إلى حياكة ما يستر جسمه ويشرّع سلطته: الجبّة. النسيج إذا أكان حرفة لكسب القوت أو فنّا ليس مهنة نسائية محضا ولا فنّا من اختصاصها وحدها. أما الكتابة فقد كانت زمنية طويلة ممارسة ذكوريّة، فمن “بطن” أحفاد آدم الذكور ينسل خيط القصص بعد عسر يسمّونه “مخاض الكتابة” ويُسمّى الكتاب “مولودا جديدا” يتلقّى “والده” التهاني والتباريك، بينما أزيحت الأمّ الكبرى/ عشتار وحفيدات أراكني المبدعات وبنات الحكّاءة العظيمة شهرزاد إلى الظلمة، إلى ما وراء الحجاب، حيث يكنّ ” أرحاما للإنجاب” وحليّا للفُرش وحارسات وفيّات لعرش السلطة القائمة أيّا كان حاكمها. كان “الرجال يقهقهون، بينما النساء يتهامسن، وبين القهقهة والهمس جسرُ الطباق جرت تحته مياه كثيرة” يقول د رشيد سكّري. على ظهر تلك المياه، “ظهر صوت المؤنّث صاخبا يحمل غضبه إلى ضفّة الصّوت كلّما تمّ منعه من الوصول إلى الكلام (..) “باحثا” لنفسه عن أمكنة مغايرة للعبور وجدت في الفنون بأشكالها أفقها الخاصّ” (بن شيخة- “صخب المؤنث”). والكتابة هي أحد جسور العبور إلى ما وراء حدود المنع والحجب والقمع، وإلى الحياة (نموذج شهرزاد) بيد أنّه جسر لا يبنى من خيوط النسيج وحدها أو من المهارة في ذلك. ففنّ النسج لا جنس له ولا لون ولا دين ولا عِرق، أمّا الكتابة فتحسم أمرها أمّ الزين بن شيخة في كتابها “صخب المؤنّث” : لا جنس للكتابة غير الأدب ولا جنس للثقافة غير الإبداع ولا جنس للإبداع غير الحريّة”. فأيّ حجّة أخرى تطرحها أنّا ما ريا شوا لدعم وجهة النّظر القائلة إنّ المرأة تكتب أحسن من الرجل؟
تتساءل أنّا:
” أليس شائعا أن الكُتاب (الرجال) متّهمون بالخفّة وعدم الاستقرار والإحساس بالذات والحسّ المرهف لدرجة فائقة؟ الكتّاب معرفون بقوّة الحدس وبالشعوذة وبالكذب. أيّ أنهم نساء. وهذا معناه أن الكُتاب تنطبق عليهم الصفات التي تعوّد الناس إلصاقها بالنساء.” و”إذا تفحصنا المفهوم جيدا- تضيف- نجد أنّ تراكم الأنشطة والرموز أو الحكايات المغرقة في الفحولة تجعلنا نشكّ في إخفاء السيدة أرنست همنغواي لجنسها نظرا لما تبديه من رومانسية في رواية “لمن تقرع الأجراس”وحدها المرأة تستطيع فعل ذلك ( تعني القدرة على إخفاء جنسها كامرأة). عند هذه اللحظة الكاشفة لقدرة الكاتبة والكاتب على التحوّل تخييليّا وفنّيا إلى الجنس الآخر شريكِ نفسه في السكن داخل نفسه في شكل جدولين أبديّين يجريان في العمود الفقريّ ( كازاناتكيس)، بوسعنا أن نستحضر ما أورده أمين نجيب عن رولاند بارت في كتابه “موت المؤلف” (1967)الذي اقتبس من رواية “أونوريه دو بَلزاك”، قولا على لسان بطل روايته “ساراسين” (1830) وهو يصف امرأة دون أن يعلم أنها رجل متنكّر في هيأة امرأة: “لقد كانت امرأة بمخاوفها المفاجئة، ونزواتها اللامعقولة، بمخاوفها الغريزيّة، بتبجّحها غير المبرَّر، بجرأتها والشعور اللذيذ برقتها”. “ويتساءل بارت “من يتحدَّث بهذه الطريقة؟ هل هو بطل الرواية؟ هل هو بلزاك الإنسان، الذي وهبته خبرته الشخصية فلسفة حول المرأة؟ هل هو بلزاك المؤلف يكتب أفكاراً “أدبية” حول الأنوثة؟ هل هي حكمة عالمية أو علم نفس رومانسي؟ من المستحيل أن نعرف”( نجيب). القدرة على إخفاء الجنس ليس إبداعا نسائيّا محض. هو إبداع إنساني يعبّر عن نفسه بشدّة في مختلف الفنون ومنها الكتابة قصّا وشعرا.
بالعودة إلى مقال آنّا، تمثّل الصفات المذكورة في الفقرتين المقتبستين منه – من حيث هي أنّ بعضها طبيعيّ ( بما في ذلك الموهبة الفطرية في سرد القصص والخرافات واختراع الحكايات) وبعضها مكتسب بحكم التنشئة الاجتماعيّة وهيمنة السلطة الذكوريّة ( القدرة على مراوغة هذه السلطة بالكذب والحيلة والتستّر والغواية لحماية الذات واستراق فُسح خاصة من الحرية)- تمثّل بعض المعطيات الأساسيّة لممارسة فنّ الكتابة، وبالتالي فالنساء يكتبن أحسن من الرجال طالما أنّهنّ اللاتي يكذبن في هذا العالم. لكن لماذا يا ترى ما يزال عدد الكتاب إلى اليوم أكثر بكثير من عدد الكاتبات في وطننا العربيّ مثلا؟ سندع السؤال عن حالنا العربيّ وأستدعي كاتبة أخرى من خارج أفقنا هذا.
في قصّة لكاتبة من الدومينيكان تدعى “جين ريز” ( ت 1979) بعنوان “يوم أُحرقت الكتب” أحرقت الأمّ مكتبة الأب بُعيد وفاته في حركة انتقاميّة من ذكراه لأنّها لم تكن امرأة سعيدة في حياتها الزوجية معه. أثناء “محرقة الكتب كان ابنها الطفل إيدي وصديقته يختبئان في حجرة الكتب كعادتهما ويقرآن، أثناء الحادثة التقط كلّ منها كتابا كما اتفق وهربا في المخبإ جرى بين إيدي صديقته حوار قصير حول ما سينجرّ عن هربهما، قال إيدي متحدّثا عن أمّه : “.. لكنّها ستخبر أمّكِ بكلّ أنواع الأكاذيب. إنّها كاذبة مزعجة. إنّها لا تستطيع أن تؤلّف قصّة لإنقاذ حياتها لكنّها تؤلّف الأكاذيب في حقّ النّاس كافّة”. عن هذه الكاتبة قالت لطيفة الديلمي: “ناضلت ريز طويلا لأجل الحبّ والكتابة وقاومت الموت وهي تترنّح بين حالتي الانهيار الجسدي والعقلي وكان عشقها الكبير للكتابة حافزها ودافعها الوحيد لمواصلة الحياة، حتى نجحت في فرض اسمها على الأوساط الأدبية”. الجملة المقتبسة من قصّة جين ريز تعيد صياغة السؤال على نحو أجدى: لماذا لا تكتب النّساء طالما يمتلكن من الصفات والقدرات ما يخوّل لهنّ ذلك؟
تذهب بنا آنّا ماريا شوا إلى هذه النقطة في سلاسة، دون السقوط في فخّ المقارنة المجانيّة بين ما يكتبه الرجل وما تكتبه المرأة. تذهب إلى دعوة النساء إلى أن ينظرن إلى أنفسهنّ من أجل هدم الحدود الفاصلة بين الدّاخل والخارج، وترميم الجسر المتصدّع بين الأنا والآخر بدل التحديق في الهاوية التي تمتدّ عميقا تحت أقدامهنّ، تدعوهنّ إلى ممارسة الكتابة بدل مراقبة الرجال وهم يكتبون ورعاية مواليدهم الجدد بالقراءة. وفي هذا الصّدد تذكّرهنّ بالإحصائيات التي ” أثبتت أن النساء أكبر قارئات للقصّة والرواية عبر الأزمنة. وبفضلهنّ استطاع الأدب أن يعيش. وليس غريبا أن تسمع رجلا يقول: “إنه كتاب مهمّ. سأعطيه لزوجتي التي تقرأ كثيرا، “مع ذلك، تردف أنا ماريا في نبرة ساخرة، “فالمرأة تغار من الجهد الدائب المستمرّ الذي على الرجال أن يقوموا به في الكتابة”، هذا الدّرب الشاقّ حيث السيّر فيه أشبه بـ ” بنوبة طويلة لمرض مؤلم، لا يستطيع المرء القيام بمثل ذلك الشيء إن لم يكن مدفوعًا من قِبل شيطانٍ ما لا يستطيع مقاومته أو فهمه” بحسب جورج أورويل.
إنّ الكتابة باعتبارها ” صنعة مريعة تقتضي كثرة الجلوس والحرمان من النوم في الليل وعدم الرضا الذي لا نهاية له.” كما يصفها جيرالد، لا تلين لرجل أو امرأة إلاّ تحت شروط موضوعيّة صارمة وفي ظلّ التزام جدّي يستدعي القراءة المكثفة والدربة المستمرّة وخوض التجارب الحياتية بعمق. ونحن إذ ننزّل مضمون المقال في واقعنا الراهن، وفي وطننا العربي عامّة وهاهنا في تونس نقف على بقاء أغلب ما ورد فيه من وجهات النظر الذاتية والغيريّة حول علاقة المرأة بالكتابة والكتاب باستثناء الإحصائيات المتعلّقة بنسب المقبلين على القراءة خاصة في صفوف النساء اللاتي كنّ دوما بما في ذلك التونسيات قارئات نهمات جيّدات.
ليس جديدا أن نشير إلى أنّ تدنّي المستوى المعيشيّ للمواطن التونسيّ ومصاعب النشر وقلّة توزيع الكتاب وغيرها من الأسباب التي ساهمت في تدهور علاقة المواطن التونسي بالكتاب الإبداعيّ والفكريّ في بعض الأوساط المجتمعية وغيابه تماما في أكثرها مقابل ما نلاحظه من اكتساح الكتب المدرسيّة الموازية للبيوت والمكتبات وحتى معارض الكتب الوطنية والدولية، واستقطابها للنصيب الأوفر من الميزانية الضئيلة المخصصة للكتب مزمع شراؤها في الجملة، دون أن يمنع ذلك من الارتفاع المطرد لنسبة الأميّة في المجتمع وتراجع المستوى الدراسي والمعرفي لأغلب المتمدرسين في كلّ المستويات التعليمية. لكنّ الجديد على نحو ما هو الارتفاع المطّرد لنسبة الإقبال على ممارسة الكتابة الإبداعيّة مقارنة بنسبة الإقبال على فعل القراءة، وزيادة عدد الكتب المنشورة في هذا المجال مقابل التراجع الكبير والمستمرّ لعدد القرّاء بما يهدّد المواليد الجدد من الكتب بالتشرّد في شوارع اللامبالاة.