قراءةٌ في ديوان ” كيفَ تُربِّي سحابةً” لمحمدِ عكاشةَ، الفائزِ بأفضل ديوان نشر عام 2023/2024 هيئة قصور الثقافة النشرالإقليمي
د. أحمد كرماني عبد الحميد
إنَّ الكتابةَ التي تدركُ مصيرَها في الزوالِ ليستْ فعلًا تقليديًّا، بل هي ممارسةٌ وجوديةٌ تتأرجحُ بينَ الخلقِ والمحوِ، بينَ الثبوتِ والاضمحلالِ. هذا التوترُ هو جوهرُ الديوانِ الشعريِّ كيفَ تُربِّي سحابةً لمحمدِ عكاشة، حيثُ تتعاملُ القصيدةُ معَ ذاتِها بوصفِها كائنًا هشًّا، لا يسعى إلى تخليدِ المعنى، بل إلى اختبارِ فنائِه. في هذا السياقِ، تصبحُ الكتابةُ تمرينًا على الغيابِ، وتتخذُ اللغةُ موقعًا إشكاليًّا، فهي أداةُ الحضورِ بقدرِ ما هي وسيلةُ التلاشي.
يقدِّمُ الديوانُ تجربةً شعريةً متفردةً، قائمةً على التكثيفِ، والاقتصادِ اللغويِّ، والرمزيةِ المكثفةِ، حيثُ يُشكِّلُ كلُّ نصٍّ مشهدًا بصريًّا وتأمليًّا في آنٍ واحدٍ، تتداخلُ فيهِ المفرداتُ الهندسيةُ معَ العناصرِ الطبيعيةِ، والروحانياتُ معَ المعادلاتِ العلميةِ، ليخلقَ نصًّا مفتوحًا على تعددِ القراءاتِ، ومشحونًا بالدلالاتِ الفلسفيةِ.
القصيدةُ كفضاءِ زوالٍ: تكثيفُ اللغةِ وإعادةُ تشكيلِ العالمِ:
يتجلى الاقتصادُ اللغويُّ في الديوانِ بوصفِه تقنيةً تعكسُ الرؤيةَ الفكريةَ للنصوصِ، إذ تتخلى القصائدُ عن الزوائدِ اللغويةِ لصالحِ تراكيبَ مشحونةٍ بالمعنى، متجاوزةً المباشرةَ إلى فضاءِ التلميحِ والاستبطانِ. يعتمدُ الشاعرُ على التكثيفِ، حيثُ تتحوَّلُ الجملةُ الشعريةُ إلى نقطةٍ كثيفةٍ تنفتحُ على احتمالاتٍ واسعةٍ، كما في قوله:
“برمودا في الحقيقةِ صديقٌ قديم
يخطُّ أضلاعَه على صدري كلَّ صباحٍ كوشمٍ ينيرُ القلبَ.”
في هذه الصورةِ، يتحوَّلُ المثلثُ الجغرافيُّ الشهيرُ من كيانٍ غامضٍ إلى تجربةٍ ذاتيةٍ، حيثُ يُعادُ تشكيلُ الفضاءِ الجغرافيِّ داخلَ الجسدِ، ويصبحُ برمودا جزءًا من الذاكرةِ الشعوريةِ، لا مجردَ مكانٍ فيزيائيٍّ. هنا، تتجسدُ قدرةُ الشاعرِ على إعادةِ إنتاجِ العالمِ داخلَ فضاءِ القصيدةِ، محوِّلًا الهندسةَ إلى استعارةٍ للذاتِ القلقةِ، التي تتداخلُ فيها الحدودُ بينَ الداخلِ والخارجِ، بينَ المعلومِ والمجهولِ.
التوظيفُ الرمزيُّ والأسطوريُّ: منَ الممحاةِ إلى الأشجارِ المقطوعةِ:
يستخدمُ الشاعرُ الرمزَ بوصفِه أداةً لفكِّ شيفرةِ الوجودِ، حيثُ تصبحُ الأشياءُ العاديةُ ذاتَ أبعادٍ فلسفيةٍ متجددةٍ. ففي قصيدةِ علَّمني الله، يقدِّمُ الشاعرُ صورةً مكثفةً للممحاةِ بوصفِها أداةً مزدوجةَ الوظيفةِ:
“الممحاةُ السوداءُ المدببةُ كمسدسٍ
تعلِّمني الخلقَ والمحوَ معًا.”
هذه الثنائيةُ التي تنطوي عليها الصورةُ تُجسِّدُ جوهرَ الديوانِ، فالقصيدةُ لا تُكتبُ لتبقى، بل لتمحوَ نفسَها لحظةَ اكتمالِها، تمامًا كما يخلقُ الشاعرُ العالمَ ويمحو تفاصيلَه في الوقتِ ذاتِه. إنَّها رؤيةٌ تتجاوزُ الفكرةَ التقليديةَ عنِ الشعرِ بوصفِه وسيلةَ تخليدٍ، لتضعَه في سياقٍ زمنيٍّ زائلٍ، حيثُ تكونُ الكتابةُ فعلًا مؤقتًا، محكومًا بالاندثارِ الحتميِّ.
هذا التوجُّهُ يتضحُ أكثرَ في قصيدةِ الشجرِ، حيثُ تتبدَّلُ العلاقةُ بينَ الطبيعةِ والقصيدةِ، من كونِها فضاءً للحياةِ إلى موقعٍ للمحوِ والدفنِ:
“فجأةً قررتُ أن أقطعَ الأشجارَ
التي تحتلُّ قصائدي،
أمرُّ على كلِّ بيتٍ في الليلِ
وأجتثُّها شجرةً شجرةً،
وأحفرُ مكانَ كلِّ شجرةٍ
قبرًا بسياجٍ من حديدٍ.”
إنَّ الشاعرَ هنا يمارسُ فعليْنِ متناقضيْنِ في آنٍ واحدٍ: الكتابةَ بوصفِها زرعًا، والمحوَ بوصفِه اقتلاعًا. الأشجارُ التي كانت تملأ القصائدَ تُجتَثُّ، وتتحوَّلُ القصيدةُ من حديقةٍ خصبةٍ إلى مقبرةٍ، حيثُ تُزرعُ القبورُ بدلًا من الأشجارِ. هذه الصورةُ القاتمةُ تعبِّرُ عنِ التوترِ بينَ الحياةِ والموتِ داخلَ النصِّ الشعريِّ، حيثُ يتحوَّلُ الشعرُ نفسُه إلى عمليةِ رثاءٍ ذاتيةٍ، وكأنَّ الكتابةَ تُعلنُ منذُ البدءِ فناءَها المحتمَ.
الانزياحُ اللغويُّ وصناعةُ الدهشةِ:
تتجلّى براعةُ محمد عكاشة في توظيفِ الانزياحِ اللغويِّ بوصفِه أداةً لإعادةِ تشكيلِ العالمِ داخلَ النصِّ، حيثُ تُستخدمُ الكلماتُ في غيرِ سياقاتِها المتوقعةِ، فتكتسبُ معاني جديدةً تُحرِّكُ مخيِّلةَ القارئِ. هذا الأسلوبُ لا يهدفُ إلى الغموضِ المجانيِّ، بل إلى زحزحةِ الإدراكِ التقليديِّ للأشياءِ، وخلقِ نصٍّ مفتوحٍ على تأويلاتٍ متعددةٍ. على سبيلِ المثالِ، يقولُ الشاعرُ في أحدِ نصوصِه:
“هذا المنويُّ الساكنُ على حافةِ نظرةِ عينٍ
توقظُه كشبحٍ خفيٍّ
الواقف على خارطةِ الجسدِ
يحرِّكُه كماردٍ من ضوءٍ.”
هنا، تتداخلُ مفاهيمُ الجسدِ، والرؤيةِ، والضوءِ، في مشهدٍ شعريٍّ يطمسُ الفواصلَ بينَ ما هوَ بيولوجيٌّ وما هوَ كونيٌّ. استخدامُ مفردةِ “المنويِّ” في سياقٍ بصريٍّ يجعلُه يتجاوزُ وظيفتَه الفسيولوجيةَ، ليصبحَ رمزًا للخلقِ الإبداعيِّ، حيثُ تنبعُ القصيدةُ من نقطةٍ ضئيلةٍ لكنها تحملُ إمكانيةَ الامتدادِ والانفجارِ.
الإيقاعُ الداخليُّ: الموسيقى كمعمارٍ نصِّيٍّ:
وعلى الرغمِ من غيابِ الوزنِ الخليليِّ التقليديِّ في الديوانِ، فإنَّ الإيقاعَ الداخليَّ حاضرٌ بقوةٍ، من خلالِ التكرارِ، والتوازنِ الصوتيِّ، والجناسِ، والتضادِ. فالشاعرُ يُراهنُ على جماليةِ الإيقاعِ الذي ينبثقُ من انسجامِ الصورِ وترابطِ المفرداتِ، وليسَ من القوالبِ العروضيةِ الجامدةِ.على سبيلِ المثالِ، يعتمدُ الشاعرُ على التكرارِ لإضفاءِ إيقاعٍ موسيقيٍّ تأمليٍّ، كما في قولهِ :ووجدناكَ “
ووجدناك دفقة ماء تروي الأرض الجامدة .. / ووجدناكَ صحراء يحدها الثلج من كل اتجاه
كلما نفخت فيها الريحِ/ هرعت جيوش النمل باتجاه القدس / وصرخت نملة ي البرية إنكم لسارقون.. / ووجدناكَ كلبا – باسط ذراعيه على شاطيء بحر – تنبح على كل سحابة تفر من رحم الموج .. / ووجدناكَ جبلا تصعد إليه الشياطين / كي يشاهدوا الرب وهو يوزع الغنائم على كل الكائنات …
التكرارُ هنا لا يؤدِّي فقط وظيفةً إيقاعيةً، بل يخلقُ إحساسًا تصاعديًّا بتداخلِ الأزمنةِ والأمكنةِ، حيثُ يصبحُ “المُوجَدُ” كيانًا متعدِّدَ الحضورِ، متجاوزًا حدودَ الإدراكِ الحسيِّ إلى فضاءِ الغيابِ والتجريدِ.
التناصُّ والتداخلُ الثقافيُّ :
تتكشَّفُ نصوصُ الديوانِ عنْ خلفيةٍ ثقافيةٍ عميقةٍ، إذ تتقاطعُ معَ نصوصٍ دينيةٍ، وفلسفيةٍ، وعلميةٍ، لتنتجَ بنيةً معرفيةً غنيةً، تجعلُ القراءةَ تجربةً تستدعي استحضارَ مرجعياتٍ متعدِّدةٍ. على نجدُ مانجد في بعضِ المقاطعِ إشاراتٍ واضحةً إلى القرآنِ الكريمِ، كما في قولهِ:
“للبحرِ ربٌّ يحميهِ
من زَبَدٍ يُغريهِ
ومن ريحٍ تَحتالُ عليهِ.”
هذه الإحالةُ تُذكِّرُ بالآيةِ الكريمةِ “وأما ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرضِ.” (سورةُ الرعدِ: 17)، حيثُ يستدعي الشاعرُ البنيةَ القرآنيةَ، لكنَّه يُعيدُ توظيفَها في سياقٍ شعريٍّ يعكسُ جدليةَ الثباتِ والتغيُّرِ. كما يظهر التأثر بالقرآن الكريم في قصيدة ووجدناك، هناك استلهام واضح من سورة الضحى:ووجدناك صحراء يحدها الثلج من كل اتجاه” ، مما يعيد تشكيل الآية القرآنية “ووجدك ضالًا فهدى”، لكنه يقلب المعنى من الهداية إلى الضياع وسط الصحراء والثلج. وفي قصيدة قالت نملة، هناك تناص مع قصة النبي سليمان والنملة في سورة النمل: ” قالت نملة الأنف للتهوية من أدخنة الحرب” هنا يحوّل الشاعر النملة من رمز التحذير والحكمة إلى ناقدة ساخرة للواقع الحربي والدمار.
كما يستلهم البنية القرآنية فيستخدم الشاعر التكرار والإيقاع المشابه لبنائية السور القرآنية، كما يظهر في: ” والمغيراتُ المغيراتُ / والعادياتُ العادياتُ”، وهو تكرار يذكّرنا بسورة العاديات: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا”. وفي قصيدة لا تقصص رؤياك، هناك تناص مع قصة يوسف:” في اليوم الذي دخل أبي بأمي /جعلها تطوف من حوله سيع مرات / وهو يهمس لها لاتقصصي رؤياك ” هنا يتحول التحذير النبوي ليصبح قناعًا لطمس الحقيقة في الأنظمة القمعية.
ويمكننا أن نجد التناص مع المفاهيم الدينية اليهودية والمسيحية ، في قصيدة برمودا المسكين، يستخدم فكرة الخريطة المقدسة والهندسة الروحية، مما يذكّر بالخريطة التوراتية للأرض الموعودة. الإشارة إلى “جدار المبكى” في قصيدة قالت نملة: “ظهرى حائط للمبكى / وجدار تعلق عليه النسوة غسيل أطفالهن”. هنا يتحول جدار المبكى من رمز ديني إلى مرآة تعكس الحياة اليومية والتاريخية.
ويمكننا القول إن الشاعرلا يستخدم التناص فقط كأداة جمالية، بل يعيد تأويل النصوص المقدسة لمساءلة الواقع. في حفنة من أثر الرسول: ” حفنة من أثر الرسول/ جعلتنا نقذف السحب بالحجارة / ونرصف ممرات لصعود وهبوط الملائكة/ التي تبارك كل سباقات الإبل/ونحيي موتانا على أبواب النهار/ ونربي الأسماك ي بحار النفط / ونبني صوبا للأسلحة” . هنا يقلب الصورة التقليدية لاستخدام الأثر النبوي في الخير، ويكشف عن تحولات المفاهيم الدينية في سياقات العنف.
القصيدةُ ككائنٍ يتحرَّكُ بينَ الوجودِ والفناءِ:
يصلُ الديوانُ في بنيتِه العميقةِ إلى فكرةِ أنَّ الشعرَ ليسَ مجرَّدَ وسيلةٍ للتعبيرِ، بل هوَ كائنٌ يتحرَّكُ بينَ لحظتي الوجودِ والعدمِ. إنَّهُ نصٌّ يكتبُ نفسَه ليُمحى، يُرسِّخُ حضورَه ليُلغَى، كأنَّهُ يحاكي في بنيتِه الفلسفيةِ حركةَ الحياةِ نفسِها، التي تنبثقُ لتضمحلَّ، ثمَّ تعودُ من جديدٍ في دائرةٍ لا تنتهي. ويتجلَّى هذا المعنى بوضوحٍ في مقاطعَ مثلَ:
“زرعتُ قبورًا بدلًا من الأشجارِ
كي يعرفَ الناسُ أنَّ الأشجارَ أيضًا تموتُ
ولها أضرحةٌ
وأنَّ قصائدَنا ما هيَ إلَّا
تراتيلُ تنعَى موتَها.”
إنَّهُ مشهدٌ يُعيدُ تعريفَ وظيفةِ الشعرِ، فهوَ ليسَ فقط تسجيلًا للحياةِ، بل هوَ جزءٌ من صيرورتِها الفانيةِ، حيثُ لا تبقى القصائدُ إلَّا بوصفِها مراثيَ لذاتِها، وكأنَّ الشاعرَ يكتبُ نصَّه داخلَ كفنِه، مستبقًا نهايتَه المحتومةَ.
في كيفَ تُربِّي سحابةً، يكتبُ محمدُ عكاشةَ قصيدةً تُدرِكُ مصيرَها في التلاشي، فهيَ لا تهدفُ إلى البقاءِ في الذاكرةِ، بل إلى اختبارِ هشاشتِها. إنَّها شعريةٌ قائمةٌ على جدليةِ الحضورِ والغيابِ، تستلهمُ تقنياتِ التكثيفِ، والرمزيةِ، والانزياحِ اللغويِّ، لتقدِّمَ تجربةً تستفزُّ القارئَ فكريًّا وجماليًّا. هذا الديوانُ ليسَ مجرَّدَ مجموعةٍ شعريةٍ، بل هوَ مشروعٌ فلسفيٌّ يتأمَّلُ في معنى الكتابةِ، وفي مصيرِ اللغةِ، وفي العلاقةِ المعقَّدةِ بينَ الخلقِ والمحوِ. ويجعلُ منَ القصيدةِ مساحةً ديناميكيةً، تتوالدُ وتندثرُ في الوقتِ ذاتِه، كأنَّها سحابةٌ تتكثَّفُ لحظةً، ثمَّ تذوبُ في الهواءِ. تحمل الدهشة للمتلقي إذا أحسن اللإصغاء لشعريتها .