عبد العزيز دياب
لابد للحرب أن تبدأ بكل شراستها وعنفوانها كما تتخيلها “سوسن” لتثبت جدارتها كمراسل لقناة “إمبو” الإخبارية، هى لا تطمع فى أكثر من خمسة قتلي، سواء كانوا من طرف واحد أو من كلا الطرفين المتحاربين.
وقفت أمام المرآة لمدة تجاوزت الساعة قبل أن تدفعها أمى إلى ساحة المعركة بحديقة البيت، بدت سوسن كمراسل حربي عتيق، الخوذة على رأسها، انتفاخ جسدها قليلا عند منطقة الصدر والبطن يشي بأنها ارْتَدَتْ السُّترة الواقية من الرصاص.
سوسن موهوبة ويمكنها أن تقوم بأدوار كثيرة، ليس هذا بجديد عليها، لا ينبغى أن ننسي أنها قامت بدور “ريا”، جسدت جرائمها وراء الدكة العتيقة أمام شجرة المامبوزيا. قامت بالاستيلاء على مجوهرات الضحايا: أساور ذهبية، خواتم، سلاسل، بلغت “ريا” فى تلك الآونة تَجَبُّرَها وجُرْمها للدرجة التي كادت فيها أن تقتل أختها سكينة عندما قام الصغير “مازن” بدورها، كان ذلك فى الأيام الخوالي فى الأسبوع الأول للشهر المنصرم.
مراسل قناة الجزيرة فى التلفاز جميلة وأنيقة، دفقات هواء طَيّرَت شعرها، بدت أكثر سحراً وجاذبية. تقمصت سوسن شخصيتها بمهارة بالغة وهى فى معمعة الجحيم تنفلت منها الكلمات رشيقة تحكي تفاصيل المعركة: حركة الجنود على الجبهة، الطائرات، الدبابات، الصواريخ، القتلي، الانتصارات العظيمة، الهزائم المؤسفة لجيوش جَرّارة تُجَرْجِر وراءها أحلام الشعوب.
فضلت سوسن أن تعلن عن نفسها بكلمات قليلة، وراء ظهرها داخل الكادر لوحة غنية بتفاصيل كثيرة مع عِبَارَة: المراسل الحربي سوسن الأشهب فى المعركة الكونية الفاصلة.
لا مانع لو كانت صورتها ملصقة باللوحة وهى تمارس مهمتها، تلهج بالكلمات وتجفل إذا سقطت قنبلة أو صاروخ قريباً منها، لا يحوشها ذلك عن الاندماج مرة أخري، تجسد جديتها، ومهارتها، وجمالها. بالتحديد إظهار طابع الحسن عندها.
لم يمانع أبى من تنفيذ كل طلباتها. كُنْت مُسَاعِدَها وذراعها الأشول (هذا لأنني أكتب بيسراي) أجهز لها كرسي وكوب ماء بعد خروجها من ساحة المعركة، أساعدها كذلك فى خلع السترة الواقية من الرصاص.
نحن بحاجة لحرب تدمر وتنسف وتقتل، بحاجة لفريقين يقتتلان، كما أخبرنا التاريخ أن البشر كما يأكلون، ويشربون، ويتنفسون يتصارعون، يقتل بعضهم بعضاً، وما تأسست القنوات الإخبارية إلا لترصد حركة البشر ومناطق الصراع، بدورها الحروب تمنح المراسلين الحربيين فرصة كبيرة للتألق والنجومية.
سوسن كانت تحلم بالنجومية، ربما كان دورها كمراسل حربي تمهيداً لنجوميتها فى عوالم الصحافة والاعلام، لا مانع أن تكون البداية من هنا، فى حديقة بيت صغير يقع عند تخوم المدينة، والباعة الجائلين، وحركة التكاتك الحثيثة، والمشاجرات الشرسة لثلة منفلتة من البشر.
فى ظهيرة يوم سبت وقعت الحرب، بعد نبوءة أعلنتها العرافة أمى بأن حرباً ضروس ستقع هذا الشهر، لكنها لم تحدد بالضبط هوية المتحاربين، صَرَّحَت أن الحرب ستكون بسبب دمية تحمل فى قعر عينها اليسري سراً رهيباً.
سقط أول قتيل، صفق أبى وأشعل غليونه، منحته أمى فنجان قهوة سخية بالحبهان والهيل، أطلقت الزغاريد بعد سقوط القتيل الثانى والثالث. اتخذت مكانها بجوار أبى وهى تشعر بالسعادة، فقد انفكت عن سوسن كآبة استمرت معها لأكثر من ثلاث ساعات متصلة، بسبب سقوط ذراع عروسها “شفيقة”، اختفي فى ظرف غامض وباتت أصابع الاتهام موجة إلى مازن لا أحد غيره.
المرة السابقة عندما اختفي رأس “شفيقة” لم يدم الأمر طويلا، كان مكللا بفيونكة حمراء لزهرة “أبو خنجر”، يد مجهولة قذفت به فوق بلاط الباحة كرأس ضربه سيف فى ساحة معركة.
كأن أبي محايداً، ما كان يعنيه أن ينتصر هذا الطرف أو ذاك. يعنية فقط أن تظهر حديقة منزلنا بتلك الحيوية، أن يشملها ذلك الزخم وتتحول إلى حديقة كونية، المهم أن تكون سوسن فى أحسن حالاتها، سواء كانت مراسلة حربية، أو عَمِيلة لصالح مازن فى السطو على حصان مجنح تم إلقاءه تحت الدكة العتيقة.
انطلقت سوسن المراسل الحربي عند تخوم ساحة المعركة، جاءت وقفتها المثالية المنضبطة قريباً من عشة الفراخ. الميكروفون فى يدها، كاميرات التصوير مشرعة فى وجهها، شعرها همجي وهى تلهج بكلمات واضحة: إطلاق الرصاص كان كثيفاً، سقط القتيل الثالث من قوات مازن العسكرية.
المجنونة قذفت بالميكوفون، لم تقل غير أربع كلمات وهى تصرح:
– ماما. ماما، أنى جعاااااانة!
طريقتها فجة فى معالجة مشاكل جسدها، كانت أمي تساعد أبي فى زراعة شجرة الخوخ بالحديقة، كانت حديقتنا- حسب قول أبى- بحاجة لمثل هذه الشجرة، لها رائحة يانعة، تجذب غرائب الطير بعزفها الشجي وتسبح حولنا البهجة. يومها انفجرت سوسن بنفس الكلمات: ماما. ماما، أني جعاااااانة.
مدام “وسيلة” مراسل قناة “إمبو” الإخبارية كادت أن تضرب برأسها فى الجدار من أفعال سوسن. أمى كانت حكيمة تعرف أن سوسن أمام الجوع لا تُقّدِّرْ تلك المواقف الدرامية.
كل ما فى الأمر أن المراسل الحربي لقناة “إمبو” الفضائية كانت تمسك ببطنها: جعانة.. جعاااااانة.
الموقف لا يحتمل قهقهات الحضور بما فيهم أبى، كل واحد كتم ضحكته ولم يسمح لها بالخروج، بإمكاننا تجاوز مثل تلك المواقف. ساندويتشات الكبدة والهامبورجر، والسجق جاهزة بحوزة أمى.
أشعل أبى سجائر كثيرة، كان يريد للحرب أن تنتهي. لم يستسلم مازن بعد قُتِلَ ثلاثة من جنوده، طلب المدد من تلاميذ مدرسة “عادل الفونسو الابتدائية”، لم أكترث، لدي الكثير من العتاد والأسلحة الدقيقة المتطورة. النصر حليفي بإذن الله مهما جاءته قوات إضافية من مدرسة “عادل ألفونسو” أو أية مدرسة، لن يكونوا إلا وقوداً للنار التي أشعلها.
سوسن لم تعجبها سياسة الاستعانة بقوى خارجية، دخولها بشكل مباشر فى الصراع لن يكون لصالح الطرفين، أعلنت عن غضبها، قالت: مش لاعبة، وقذفت بنفسها فى حضن الأب.
الأمور انفلت زمامها، جاءت قوات جسورة من تلاميذ مدرسة “عادل الفونسو”، مقاتلون لهم بأس شديد، من الصعوبة انهزامهم، أولئك اللذين خاضوا معارك شرسة أمام سوبر ماركت “زيزينيا”، ومقر جمعية التنمية البشرية، وعند حواف سوق الثلاثاء، وأماكن أخرى كثيرة.
كانت سوسن مضطرة مع انحراف الأمور إلى مسارات غير حميدة أن تنفك عن حضن الأب، تهبط إلى ساحة القتال وهى تنهش بكل غلِ ما تبقي فى يدها من ساندويتش الهامبورجر.