دكتور خالد عزب
تُعد الجزائر من الدول العربية الواعدة في صناعة النشر، فعدد السكان الذي تجاوز 42 مليون نسمة مع تصاعد نسب التعليم وانتشاره، ومجتمع يشهد ديناميكية كبيرة وتفاعلات مستمرة، كل هذا يقود إلى مستقبل جيد لصناعة الكتاب، هذا ما أدى على سبيل المثال إلى تشكيل لجنة لإصلاح قطاع الكتاب، هذا القطاع الذي يشمل: المركز الوطني للكتاب، المكتبة الوطنية، المكتبات التابعة للوزارة، مديرة الكتاب بالوزارة، ترأس اللجنة إسماعيل يبرير، تعد هذه اللجنة قفزة على الوضع الحالي للكتاب في الجزائر، ليتبلور مع العام 2022م خطة جزائرية طموحة للكتاب.
إن بناء مركز وطني للكتاب في عام 2009م أتاح للحراك الثقافي في الجزائر انتقاد مستمر وغير مسبوق لوضع الكتاب في الجزائر، إن نظرة على فاعليات الأيام الوطنية حول الكتاب التي عقدت في المكتبة الوطنية الجزائرية في 7و8 يونيو 2021م تكشف هواجس الجزائريين حول وضعية الكتاب في الجزائر، وجاءت هذه الفاعليات لتتناول الموضوعات التالية: السياسة الثقافية للكتاب، محاور الدعم من خلال لجنة الاستنساخ الخطي، حماية الحقوق المتعلقة بالكتاب، اقتصاديات الكتاب، الكتاب والأمن الثقافي.
إن المعطيات المحفزة للكتاب الجزائري تأتي الآن من الرواية الجزائرية بصورة أساسية فبعد انتشار أدباء جزائريين مثل: الطاهر وطار وأحلام مستغانمي وواسيني الأعرج، جاء فوز الأديب عبدالوهاب عيساوي بجائزة البوكر للرواية عام 2020م عن روايته “الديوان الإسبر طي”، رحلة عيساوي من الداخل للانتشار العربي تُعد نموذجًا حفز حركة الأدب لدى الأجيال الجديدة من الروائيين، فهو من مواليد 1985م بالجلفة، تخرج من جامعة زيان عاشور كمهندس الكتروميكانيك، ويعمل مهندس صيانة، فازت روايته الأولى “سينما جاكوب” بالجائزة الأولى للرواية في مسابقة رئيس الجمهورية “الجزائر” عام 2012م، وفي عام 2015م فاز بجائزة آسيا جبار للرواية التي تعتبر أكبر جائزة للرواية في الجزائر عن رواية “سبيرادى مويرتي”، وفازت روايته “الدوائر والأبواب” بجائزة سعاد الصباح للرواية عام 2017م، فاز بجائزة كتارا للرواية غير المنشورة عن روايته “سفر أعمال المنسيين”، إذًا تقدم لنا الجزائر أجيال متتالية من الروائيين يشكلون مثلًا أعلى للشباب لحفزهم على القراءة والكتابة.
من أين تأتي مشكلة الكتاب في الجزائر؟
إن المشكلة ليست في وجود منتجين للمعرفة “مؤلفين” إذ تتوافر في الجزائر مواهب وقدرات إبداعية وباحثين بالمئات، ولا في دور النشر في ظل الزيادة المضطردة لدور النشر من 2007م تقريبًا إلى الآن، لكن الإشكالية العميقة إلى الآن هي ضعف شبكة توزيع الكتب فعدد المكتبات ونقاط توزيع الكتب قليل مقارنة بعدد سكان المدن وسكان الجزائر بشكل عام، إضافة إلى ذلك أن الكتاب العربي لا يتوافر بصورة جيدة في الجزائر، وهناك تجربة “منشورات الاختلاف” التي خاضت تجربة نشر مع الدار العربية للعلوم في بيروت آتت ثمارها في تقديم العديد من المؤلفين الجزائريين للساحة الجزائرية والعربية.
كما أن جميع مستلزمات صناعة الكتاب في الجزائر مستوردة عليها ضرائب وجمارك تؤدي إلى مضاعفة تكلفة الكتاب، لذا فإن أسعار الكتب في ظل ارتفاع مدخلات انتاجه تجعل مساحة انتشار الكتاب الجزائري محدودة حتى داخل الوطن، ولا نستطيع أن نقول أنه ليس موجود عربيًا السوق الأكبر إلا بشكل محدود يكاد يقتصر على معارض الكتب، وهذا ما جعل الحضور الثقافي للجزائر محدودًا، في حين تقوم مجلة مثل “المجلة الثقافية الجزائرية” بدور فعال كبير في الحضور الجزائري على الساحة الثقافية العربية، ويذهب عدد من الكُتاب والأدباء الجزائريين للنشر خارج الجزائر.
إن وجود قراء في الجزائر وصعوبة الحصول على الكتاب ولد في هذا البلد المترامي الأطراف، سوقًا للكتاب المستعمل في العديد من مدنه وفر بعض ما يحتاجه القراء، وفضاءً شبابيًا لتحفيز القراءة عبر عدد كبير من المبادرات، وقرصنة للكتب رقميًا لتلبية احتياجات القراء.
إن التطور المستمر والمتصاعد في مشهد النشر والقراءة في الجزائر، هو ما يجعلها بلدًا واعدًا في هذا المجال، كان عدد الكتب المنشورة في الجزائر في تسعينيات القرن العشرين يتراوح سنويًا بين 400 إلى 600 عنوان، ليرتفع إلى 1000 عنوان سنويًا مع سنوات الألفية الجديدة، ليرتفع في السنوات الأخيرة بين 3 آلاف إلى 5 آلاف عنوان، تشكل العناوين شبه المدرسية منها نسبة قدرها 45%، تأتي بعدها الكتب الأدبية، ثم كتب العلوم الاجتماعية بنسب متقاربة، في حين لا تتجاوز باقي التخصصات بما فيها الكتاب العلمي نسبة 5% من مجموع العناوين المودعة لدى المكتبة الوطنية، علمًا بأن الواقع يشير إلى أن 75% فقط من الكتب الصادرة في الجزائر هي التي تحصل على أرقام إيداع.
إن أكبر عقبة في سبيل انتشار الكتاب الجزائري هي توزيع الكتاب، حيث أن شبكة توزيع الكتب هي الحلقة الأضعف في هذه الصناعة حاليًا، في بلد مساحته حوالي مليونين ونصف مليون كيلو متر مربع به 1500 بلدية، وتركز شبكات التوزيع على المدن الرئيسية خاصة العاصمة الجزائر ووهران وتقل هذه المنافذ بصورة كبيرة في مدن مثل: تلمسان، بجاية، قسنطينة، وإذا كانت المكتبات العامة هي الحل الأمثل لنشر الكتاب والقراءة، فقد صدر في الجزائر قانون متعلق بالمكتبات العمومية عام 2007م، وتبنت الدولة مشروعًا طموحًا لبناء 1500 مكتبة بلدية، لم ينجز منها سوى 500 مكتبة، هذه المكتبات تفتقد لبرامج قوية لجذب القراء ولسياسات تزويد قوية أيضًا.
ويمكننا القول إن مشروع المكتبة المتنقلة أدى دورًا جيدًا في الجزائر، انطلق هذا المشروع عام 1996م تحت شعار “القراءة للجميع” لكنه لم يفعل إلا عام 1999م بأربع شاحنات تم تجهيزها ب 20 ألف كتاب، يغطي المشروع الآن التراب الجزائري ب 50 شاحنة، ويلقى قبولًا جيدًا في المناطق النائية والأرياف.
إن خيال الشباب الجزائري على شبكات التواصل الاجتماعي المحفز للقراءة بطرق عديدة، وكذلك رغبتهم في اختراق حاجز الصمت لدى من لا يقرؤون جعل الروائية الجزائرية الشابة نورة طاع الله تؤلف أضخم كتاب في العالم، يضم الكتاب الذي يحمل عنوان “أبواب النجاح” 10551 صفحة ووزنه 45 كيلو غرام وطوله 57 سم، تطرقت فيه لآلاف الأمثال والحكم الشعبية القديمة والأقوال المأثورة من الحياة اليومية، وقامت بتحليلها وتضمينها في هذا المؤلف الضخم، هذا الحدث جذب الجزائريين وانتباه العالم فسُجل هذا الكتاب في موسوعة غينس للأرقام القياسية كأضخم وأغرب كتاب في العالم.
هناك اتجاهات يمكن رصدها للنشر الرقمي والاتاحة منها التجربة الناجحة للموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والاستراتيجية، وهي موسوعة سياسية أكاديمية تعمل في إطار البحث العلمي والتحليل السياسي، موجهة للباحثين في حقل العلوم السياسية بكل تخصصاته.
الموسوعة تفتح باب المشاركة للباحثين وهي تنشر: مقالات، تقارير، كتب، رسائل جامعية، وقد أطلقت في عام 2014م إلا أنها شهدت اقبالًا متزايدًا في الأعوام 2019 / 2020 / 2021م، ومن الكتب التي يتيحها الموقع:
هذه الإحصائيات أُخذت 31/12/2021
تتيح الموسوعة على موقعها 360 كتاب رقمي وهو رقم قياسي، ويتراوح متوسط قراءة الكتاب بين 2005 إلى 5000 قراءة.
كما تتيح الموسوعة على موقعها 219 رسالة جامعية في مجال الأمن والاستراتيجية، و115 رسالة جامعية في مجال العلاقات الدولية، و65 أطروحة في مجال القانون، 64 أطروحة في مجال الاقتصاد، وفي مجال التقنية عدد 2 رسالة، يتراوح عدد قراء الأطروحات بين 2300 إلى 7000 قارئ.
كما تتيح الموسوعة عدد من المجلات منها مجلة السياسة الدولية التي وصل قراء العدد 223 الصادر في عام 2021 إلى 8340 قارئ، المجلة العلمية لجهاز مكافحة الإرهاب وصل قراء العدد الأول الصادر في 2021 إلى 4477 قارئ، بينما وصل عدد قراء العددين 6 و7 من مجلة صوت أفريقيا إلى 3360 وقد صدر في عام 2021م.
على جانب آخر حرصت الموسوعة الجزائرية على توفير كتب مجانية رقمية للقراءة على موقعها في مجالات: السياسة، الأمن، الاقتصاد، الشئون العسكرية، القانون، التاريخ، العلوم الإدارية، العلوم والتقنية، العلوم الاجتماعية.
ومن ناحية أخرى تقدم مكتبة مميزة في المجالات السابقة باشتراك سنوي وتضم كتب رقمية وملفات ويمكن حصر بعضها على النحو التالي:
إن الموسوعة الجزائرية أحدثت مشروعًا معرفيًا علميًا متكاملًا، تظهر فيه منهجية واضحة لخدمة الدولة الجزائرية والبحث العلمي في الجزائر والقارئ الجزائري.
ومن تجارب الجامعات التي رسخت المكتبات الرقمية في الجزائر تجربة المكتبة الجامعية لجامعة الأمير عبدالقادر بقسنطينة التي بدأت في عام 2002م أي مبكرًا، وهي تلعب دورًا مؤثرًا في العملية التعليمية، وبالتالي في استعانة الطلاب والباحثين بها، وقد أجريت العديد من الدراسات حولها منها:
– د. منيرة الحمزة، المكتبة الرقمية دعامة للتعليم الإلكتروني وقيمة مضافة في تعليم اللغة العربية وتعلمها: عرض تجربة المكتبة الرقمية لجامعة الأمير عبدالقادر بقسنطينة، المجلة العربية، المجلد 7، 2020م.
– د. عكنوش نبيل، المكتبة الرقمية لجامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلامية دراسة تقويمية للمشروع، مجلة المكتبات والمعلومات، المجلد 4، العدد الأول 2011م.
إن التجارب الفردية في النشر الرقمي تقود إلى تجربة شاب جزائري تعتبر نموذجًا يُبنى عليه هو يونس بن عمارة الذي بدأ عام 2011م مشروعًا للنشر الرقمي بعد فشله في الولوج للنشر الورقي، فأعد كتيبات رقمية أتاحها عبر موقعه هي:
ثم نرى تفاعلًا معه من داخل الجزائر وخارجها امتد إلى الولايات المتحدة والسعودية ومصر طبقًا للجدول المرفق:
الموقع: Youdo.blog
*المشاهدات تعني أنه يمكن لزائر واحد تصفح مقال واثنين وعشرة لذا يختلف العدد بين المشاهدات والزوّار. متوسط مدة مكوث الزائر في الموقع 3 دقائق إجمالًا.
وأسس مع المترجمة إكرام صغيري في عام 2013م دار الزنبقة للنشر الإلكتروني، وتحولت إلى مجتمع رديف في عام 2021م، ولديه 70 عنوان جرى تحميلها 70 ألف مرة.
إن قدرة حركة النشر في الجزائر على الصمود في ظل الأزمات تتفاوت حسب قدرة كل دار نشر على امتصاص الأزمة واستغلالها كفرصة، وتعد دار ألفا من دور النشر التي استطاعت فعل ذلك حيث تضاعفت حركة النشر بها من 89 عنوان عام 2019م إلى 150 عنوان عام 2020م ثم 200 عنوان عام 2021م، كانت ألفا بدأت في عام 2001 كموزع استفاد من تصاعد التعليم الجامعي وبالتالي الحاجة للكتاب سواء في العملية التعليمية أو لتزويد المكتبات وتلبية متطلبات شرائح القراء التي كانت آخذة في التزايد، وفي عام 2014م تولى الصادق بو ربيع قسم النشر في ألفا ليكون للدار ملامح ومنهجية سطرتها عبر عشرات العناوين، ثم اتسع نشاط الدار ليشمل العديد من الدول العربية عبر معارض الكتب.
اهتمت الدار بالنشر في العديد من حقوق المعرفة، وبرزت بصورة أساسية في المجالات التالية: التاريخ/ الجغرافيا/ الأدب/ الاقتصاد/ الفلسفة/ علم الاجتماع/ القانون/ العلوم السياسية، وهي تنشر باللغتين العربية والفرنسية، لكن أيضًا تعد كتبها في مجال النقد الأدبي مفتاحًا مهمًا للتعاطي مع السرد الجزائري المعاصر.