د/عبدالوهاب القرش
شكلت عملية طوفان الأقصى نقطة فاصلة في التاريخ المعاصر، حيث أكدت الحرب أن الشعوب الحرة يصعب استئصالها، وأن القيادات المنتخبة بطريقة حرة من قبل الشعب هي الأقدر والأصلح للتعبير عن تطلعات الناس وأمالهم، و غزة التي تعيش تحت القصف وتعاني الحصار والتجويع، هي ذاتها صانعة الأمل لأمة تنحرها الغثائية، فغزة المقاومة هي خميرة التغيير والمقاومة والنهضة والصعود الحضاري..
وفي نفس الوقت أثبتت الحرب على غزة أن الدولة العربية هي مجرد خلاصة لمعاهدة استعمارية نفذتها بريطانيا وفرنسا أوائل القرن العشرين عرفت بمعاهدة (سايكس – بيكو).. وأسقطت الكثير من الأقنعة.. .. كما أثبتت أن المجتمع العربي هو الآخر مجرد خلاصة لمجتمع قديم أكل عليه الزمان وشرب.. حيث غزته الخرافات والساطير وغيبت الشريعة عن مجرى حياته. وبالتالي فكل ما لدينا خلاصة وطنية.. قومية.. عائلية.. قبلية .. طائفية.. مذهبية.. عربية.. إسلامية.. هي باختصار خلاصة هجينة من خليط عجيب ليس له أية أصالة ولا يقوى على فعل شيء يذكر.
ولا شك أن أطرف ما في هذا الخليط أننا نجد من يباهي بانتمائه الوطني والعربي ويفاخر بقبيلته ويدافع باستماتة عن طائفته وتجده، في ذات الوقت، يساري العقيدة وأمريكي الهوى وشيعي أو سني المذهب. ونجد من يكتفي بتوليفة واحدة أو يجمع بين اثنتين أو ثلاثة، ونجد من لا تجتمع به حتى توليفة واحدة فتجده فرحا حين يطلق على نفسه بأنه دهري، فيا لها من توليفات ويا لها من شخصية!
وفي نفس الوقت أكدت الحرب على غزة أن الشعوب الحرة يصعب استئصالها، وأن القيادات المنتخبة بطريقة حرة من قبل الشعب هي الأقدر والأصلح للتعبير عن تطلعات الناس وأمالهم، و غزة التي تعيش تحت القصف وتعاني الحصار والتجويع، هي ذاتها صانعة الأمل لأمة تنحرها الغثائية، فغزة المقاومة هي خميرة التغيير والمقاومة والنهضة والصعود الحضاري..
وللأسف الشديد دخل الكثير من الدعاة والفقهاء ضمن هذا الخليط ،فأصبحوا جزء من التركيبة الاجتماعية والذهنية السائدة. وبصيغة من الصيغ، شئنا أو أبينا، لدينا علماء سلاطين لا يبدو أن الموضوع العقدي الأبرز في علمهم أكثر من الانتصار لولي الأمر (الجامية والمداخلة والصوفية والمرجئة بتيارها السلطاني…)، أما علماء الجماعات والتيارات فموضوعهم العقدي هو الجماعة أو الحزب أو التنظيم (الجماعة الإسلامية في الباكستان والإخوان المسلمين وحزب التحرير والسروريين”السلفية الحركية”…)، بينما علماء العلم همهم منصب على الفقه وتصدير علمهم في الكتب (السلفية العلمية أو التقليدية)..
فيما عدا القسم الأول ممن انحاز إلى الحاكم وهو قليل؛ وفيما عدا القلة القليلة غير الخافية فإن الغالبية الساحقة من العلماء لم تظهر لها أية آثار في أعظم النوازل التي تحل في الأمة. وبالتأكيد لم تكن نازلة الحرب على غزة استثناء. ولا يعني أن الحراك بين شريحة العلماء منعدم سواء قبل الحرب أو بعدها. فقد ظهرت فتاوى جريئة من علماء لم نعهدها عليهم من قبل. لكن السؤال هو: هل الحراك المقصود طارئ؟ أم عقدي؟ ولمن يتوجه؟
من المؤكد أن الخوض في مسألة العلماء سيكشف عن فوضى عارمة وكاراثية لا تقل خطورة عما تعيشه الأمة من فوضى وتخبط وضياع، ولهذا يمكن تصور مدى التمزق الذي يقع كلما واجهتنا نازلة. فالعلماء، سلباً أو إيجاباً، مختلفون على الجهاد والمجاهدين وعلى التطبيع والمقاطعة وعلى المم المتحدة والمعاهدات الدولية وعلى الحزاب والتنظيمات وعلى الجماعات والفرق وعلى فلسطين وإسرائيل وعلى المؤمنين والكافرين وعلى المشركين والموحدين وعلى الحكام والمحكومين وعلى أحكام الشريعة والمشرعين وعلى الولاء والبراء وعلى الأعداء والأصدقاء… ولدينا علماء سلطة وعلماء محايدون وعلماء منحازون وعلماء جهاديون وعلماء منظرون وعلماء أحزاب وعلماء جماعات وعلماء مهمشون وعلماء منسيون وعلماء مسجونون وعلماء مطعطعون وعلماء قصاصون وعلماء مشعوذون وعلماء علمانيون وعلماء مسترزقون وعلماء مرتدون وعلماء مجروحون وعلماء زنادقة وعلماء دجالون وعلماء مهادنون وعلماء رقاصون… بعض هؤلاء ظهروا على الفضائيات خلال العاصفة أو أدلوا بدلوهم فيما يجري، فمن هي الجهة المخولة، من هؤلاء، بإنزال الحكم الشرعي على النوازل؟
ولا نستطيع أن نتجاهل حقيقة أن الكثير من الفتاوى حتى ذات الصبغة الجماعية تجاوزت نغمة النصرة والتضامن والشجب والإدانة والدعاء وغلب عليها طابع الحكم الشرعي أو الدعوة الصريحة إلى التمرد على الأنظمة السياسية واتهام بعضها بالخيانة والعمالة ومظاهرة الكفار على المسلمين، وبعضها بات قريبا من التكفير وإن بصورة غير مباشرة.
وهناك أصوات علماء السوء وعلماء السلاطين وفقهاء السلطة الذين يبحثون عن أكل العيش وعن الشهرة وباعوا الآخرة واشتروا الدنيا، ونماذجهم كثيرة مثل من كانوا في بغداد واستقبلوا التتار واحتفوا بهم وكانوا أبواقا لهم، وبرروا الاحتلال وبرروا تخاذل السلاطين.
وهناك أصوات وسيطية ومعتدلة أثبتت أن الأمة بخير وفيها من العلماء من يصدع بكلمة الحق، ومنهم الدكت أحمد الطيب شيخ الأزهر الذي تحرك في حدود ما يستطيع – ويُشكر على هذا-، ويكفي إصداره بيانات لا يصدرها حكام المسلمين. كما يقوم شيخ الأزهر بدور جيد جداً في هذه المواجهة الكبرى، ويدعو لإغاثة أهل غزة ومساعدتهم ويخرج على الشاشات ليل نهار مشيداً ببطولة أهل غزة الذين يدافعون عن الأقصى والقدس وفلسطين، ويطلب التبرع لهم، وينتهز أي فرصة للنقد واللوم والدفاع عن أهلنا في غزة، والتحذير من مخططات عدونا في حين أن دعاة وفقهاء آخرين لم يفعلوا شيئا، وبرروا العدوان وألقوا باللائمة عبر الشاشات والصحف الكبرى على المقاومين المجاهدين. ومن هؤلاء الدكتور علي جمعة الذي لا يرى إبادة أهلنا في غزة، ولا يجد وقتاً لانتقاد حصارهم وخنقهم، ولا يخزيه تورّد خديه وجوع أطفالهم، مشيراً إلى أنه لا يمكننا مقارنة الشيخ جمعة بالشيخ الطيب، الذي.
وللأسف هناك من يهاجم شيخ الأزهر، وأخرون ينالون من الحوثيين وحزب الله وعلى رأسهم أيران؛ ودعاة السلاطين هؤلاء أفقهم ضيق، ووقفوا عند {ويل للمصلين}..؛ ودون أن يحاول الإجتهاد قليلا لفهم السياق العام، وبدون مجاملة أو تملق، فإن استحضار هؤلاء الدعاة للحضور الشيعي سواء حزب الله أو الحوثيون أو أيران، أو ما يسميه البعض بالخطر الصفوي نابع من أن الحجج التي يتم سوقها لتبرير التطبيع مع الصهاينة هو تحقيق التوازن ومواجهة الخطر الشيعي، والحالة الخليجية تساعدنا على فهم هذا الوضع، فالمفترض فيهم أنهم مع أهل غزة، ولكنهم تركوهم وراحوا يقيمون الحفلات ويستقبلون الغوازي والأراجوزات والمهرجين ولاعبي الكرة، ولم يقدموا لهم شيئاً، بل لم يكفوا ألسنتهم عنهم، فجاء شخص آخر يضرب بقدر استطاعته، ويشغل عدوك، فهل نلومه؟!
هذا؛ كما لا يمكننا أن إخفاء حقيقة الدعم العسكري المحمود، الذي تقدمه إيران للمقاومة الفلسطينية، وهذا الأمر لا تنفيه حركات المقاومة، ونحن من جانبنا نقدر هذا الدعم ونشجعه، ونعتبره نقطة ضوء إيجابية في السياسة الإيرانية.. كما غض شيوخ السلاطين طرفهم بأن المنطق العملي المفترض يقول: إن هناك محتل صهيوني ظالم غاشم يضرب غزة بقوة ويسويها بالأرض، فيأتي شخص آخر ولو كان كافرا يحاول أن يدفع عنهم ويشغله هذا المحتل ولو قليلا، فليس هذا وقت لومه..!!.
الأولى أن نسكت ونتقبل الأمر ونشكرهم إن أردنا، وبعد انتهاء الحرب نقول ما نود قوله نقداً أو عتاباً..!!
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ألم يعلم شيوخ السلاطين بأن الخطر الحقيقي هو الصهاينة، وهم من أسهموا في ترسيخ وتشجيع حالة الانقسام الطائفي والإثني والعقدي في البلاد العربية والإسلامية..
الحق نقول: لا حرج على المقاومة في الحصول على كل دعم يمكنها من تحرير وطنها وشعبها من قبضة المحتل المدعوم من قبل دول عظمى، ومن قبل أنظمة عربية عميلة وخائنة لشعوبها ..هذه الأنظمة العاجزة كل العجز عن أخذ موقف إيجابي يدعم غزة وشعبها، وينحاز لإرادة الشعوب الداعمة لفلسطين.. فهذه الأنظمة بإمكانها الحصول على شرعية جديدة وتحقيق المصالحة والحصول على صك غفران من شعوبها لو أنها ساندت المقاومة ودعمتها ولو بفك الحصار.. أما أن تدعمها بالسلاح فذلك ضرب من الخيال… فعجرفة المحتل الصهيوني وتجبره نابع من خيانة الأنظمة لشعوبها ولقضاياها الوطنية والقومية..
هي الخيانة ولاشيء غير الخيانة، هذا حال أمتنا: فقراء ومفقرين لأن هناك خونة، عاطلين ومعطلين لأن هناك خونة، أميين ومجهلين لأن هناك خونة، عبيد ومستعبدين لأن هناك خونة، مسجونين ومهجرين لأن هناك خونة..
وبلغة القرأن الكريم فالخونة {منافقين}، ونظراً لخطورتهم الشديدة على الأمة والمجتمع المسلم، فقد أولى القرآن الكريم لهذه الفئة من الناس أهمية خاصّة، فعمل على فضح سرائرهم وكشف نواياهم وإبراز مساوئهم وصفاتهم حتى تتضح صورتهم وتتبدى فعالهم وصفاتهم، فلا يغترّ المؤمنون بهم وبما يُظهرون به من مسالك وأعمال. والقرآن الكريم لا يكتفي بوصف الجانب الظاهري من سلوك المنافقين في المجتمع المسلم، بل يتوغّل إلى أعماق نفوسهم ليصفها وصفًا دقيقًا ، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (النساء: 142-143)..
و قد وصفهم رب العالمين بخمس صفات: المخادعة لله، وفي سورة البقرة: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة:9)، المخادعة لله ولأولياء الله بالمكر وإظهار الإسلام وإبطان الكفر، وإظهار النصح وإبطان الخيانة والغش، هذه حال المنافقين في الباطن كفرة خونة أهل غش وخيانة وعناية واهتمام بكل ما يضر المسلمين وبكل ما يعين عدوهم عليهم وفي الظاهر مع المسلمين… {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى}(النساء: 142)، ليس عندهم احتساب وليس عندهم اهتمام لأمر الصلاة لعدم إيمانهم لتكذيبهم وكفرهم وضلالهم.
{يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء: 142)، يعني أعمالهم رياء يخشون أن يقال: إنهم كفار، يخشون أن يحرموا من الغنائم، يخشون أن يحرموا من بيت المال، يخشون أن يقتلوا إلى غير ذلك.
{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ}(النساء: 143)، مع غفلتهم وقلة ذكرهم ومع خداعهم وكسلهم عن الصلوات مع ذلك هم مذبذبون ليس لهم قدم ثابتة، بل هم مع الكفار تارة ومع المؤمنين تارة، مع من رأوا فيه المصلحة، فهمهم الدنيا وسلامة أنفسهم، فهم من رأوا أنه هو المنتصر وأن سلامتهم… إليهم فإن رأوا أن المسلمين لهم الغلبة والنصرة صاروا إليهم وأظهروا الموافقة والنشاط في الإسلام، وإذا رأوا أعداء الله قد ظهروا وأصاب المسلمين شيء من الهزيمة أو شيء من الخلل مالوا إلى أعداء الله الكفار، وصاروا معهم ضد المسلمين.
و في هؤلاء المنافقين نزلت سورة بأكملها لا تحمل البسملة، و هي سورة “التوبة” أو سورة {براءة} كما يسميها العلماء، براءة من المنافقين الذين كادوا يقتلون رسول الله و يغتالوه معنويا عبر إتهام زوجته أمنا عائشة بالباطل في حادثة “الإفك” التي تم دحضها بأيات من سورة النور، محاولين بخبثهم ومكرهم وخداعهم قطع دابر دعوته.. لكن شاءت إرادة الله تعالى أن يكشف زيفهم ونفاقهم وينصر نبيه صلى الله عليه وسلم وينشر دعوته بين أقطار الأرض..
واليوم المقاومة الفلسطينية الباسلة تتبع نهج نبي الإسلام وتتخذ من القرآن دستورها، ولذلك نجحت فيما فشل فيه القوميون والشيوعيون والبعثيون والعلمانيون والداعشيون.
وإن استمرت الحرب على غزة سيسقط المزيد من الخونة والأقنعة..
*باحث في الفكر الإسلامي