المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

الفضاء العمومي في اختبار الضّحك: في البحث عن أصواتنا

ماري كيفرو 

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

                

“إنّ ما يميّز المواطن في الديمقراطيّة هو أن يجعل صوته مسموعا و أن يتكلّم، ولكن إلى أي حدّ يكون هذا الصوت وهذا الكلام مشروعا، وله سلطة؟ وإلى أي حدّ لا يمكن اعتباره مجرّد صيحات، وضجيجا؟”( م. كيفرو)

“يجعل الضّحك الديمقراطية في محكّ اختبار ويصبح في ذات الوقت حدّا لها وضّامنها.”(م. كيفرو)

“يمثّل الضحك، بالرغم من أنّه لم يكن أبدا في مركز خطاب الفلسفة السياسيّة و الفلسفة الطبيعيّة، شغفا محوريّا، من خلاله يمكن تقدير تحوّلات نظريّة التعاقد ( التي تقابل المجتمع المدني  بحالة الطبيعة)، والذاتية الأخلاقيّة ( ضمن أي شروط يكون الإنسان مواطنا حرّا؟)، والفضاء العمومي ( من المجتمع المدني إلى الفضاء العام).” ( ماري كيفرو)

“لقد قادت وسائل الإعلام الجماهيرية وخاصّة التلفاز، إلى تصوّر تعدّدي للفضاء العام، مثيرة بذلك  المشكلات التالية : مأسسة عُدَّة النقاش والتواصل( مراقبة أو مقاومة ممكنة؟) والمستجدّ الديناميكي الذي يخصّ الفضاء العام المستقلّ ( الممارسات الديمقراطيّة، المجموعات التأويليّة، إنتاج المعنى). (م. كيفرو)

*****

تبعا نقد نانسي فرازر النّسوي للنظرية الهبرماسية للفضاء العمومي (l’espace public)، وأعمال ” ستانليStenlay “حول ” أصوات العقل” (voix de la raisons) والأقوال الشغوفة، يدرس هذا المقال فرضيّة فضاء عمومي يجابه اليوم أزمة ” الصوت” ، والتي نلحظها في النقاشات حول “الديمقراطية التشاركيّة ” والمداولات التي يمكن ملاحظتها منذ “تظاهرات الضواحي”( الباريسية) المشهورة سنة 2005. لم يعد الفضاء العمومي في بداية القرن الواحد والعشرين مسألة “حقول” sphères »» فحسب، بل إنّه أيضا مسألة فضاء في معنى مساحة territoire، فضاء رؤية visibilité وإجراء للإشهار. ونحن نأمل هنا أن نبيّن هل كانت “رغبة وبحث الجماعة الاجتماعية هي رغبة وبحث للعقل” يمرّ هذا البحث خاصّة من خلال تمارين ومطالب واتفاق عبر “شغف” يحكم عليه هوبس بأنّه ” دون إسم ” sans nom” ويجده كانط ” غريبا”: إّنه الضحك.

سنعيد النظر أوّلا في تاريخ وجيز جدّا لمنزلة الضّحك بوصفه شغفا أو هوًى في الانتروبولوجيات السياسيّة للنظريات المعاصرة للديمقراطيّة، وتحوّله الناتج عن نظريّة السلطة بوصفه “مكانا شاغرا” lieu vide »  «  لكلود لوفور Claude Lefort  ، ونظريّة ادّعاء الشخصنة لجيل ليبوفتسكي Gilles Lipovetsky الذي حوّل انفعال الضّحك إلى “نظام فكاهي” code humouristique . وسنذكّر فيما بعد بنقد تعريف الفضاء العام لهابرماس، قصد  توضيح حدود النقاش الذي يعنينا هنا. وسنعرض بالأساس موقفين نقديين، أحداهما نقد برنار مانان Bernard Manin بما هو الأصل في النقاشات حول مقولة “المداولة” ، والآخر نقد نانسي فرازر Nancy Fraser الذي شارك في مجال البحوث السياسيّة حول”المرؤوسين” subalternes. ثمّ سنؤكّد على المشكلات الابستيمولوجيّة المتضمنة في أفكار الجمهور- المضادّ contre- publics، والمداولة والتمثيل الديمقراطي، بما هي شروط تشكّل الجمهور- (المضادّ)، وموقف الذات ضمن الجماعة، والطبيعة التمثيليّة للديمقراطيّة الجمهوريّة الفرنسيّة.

الضّحك: شغف ديمقراطي؟ ثورة لأكثر من قرنين.

يمثّل الضحك، بالرغم من أنّه لم يكن أبدا في مركز خطاب الفلسفة السياسيّة و الفلسفة الطبيعيّة، شغفا محوريّا من خلاله يمكن تقدير تحوّلات نظريّة التعاقد ( التي تقابل المجتمع المدني  بحالة الطبيعة)، والذاتية الأخلاقيّة ( ضمن أي شروط يكون الإنسان مواطنا حرّا؟)، والفضاء العمومي ( من المجتمع المدني إلى الفضاء العام). ولا تعنيينا إذن الصياغة الهوبسية للضحك بقدر ما تعنينا إعادة تأويله الجمالي والسّجالي، خاصّة في النزاع حول المسرح الذي شغل أوروبا الأنوار، والذي كان رهانه الحاسم أخلقة moralisationالمسرح قصد جعله ” منبرا عموميا”، وقدوةً لتطهير وتجدّد الآداب العامّة. وسواء كنّا مع هوبس أو ضدّه، فسيكون القرن 18م عصر الضّحك، الذي ” تكوّنت خلاله ثقافة خاصّة حول الضحك، بممارساته وتمثّلاته : أنماط الضحك، وموضوعات الضحك، ومجموعات ومصائر الضاحكين، وشبكات، وأجناس خاصّة ونقاشات وسجالات”، أدّت إلى  المنعرج الحاسم للثورة الفرنسية حيث كوّنت الحرب الحقيقيّة للضحك، الجمهوريّة كمجتمع الضحك، رافعه الأساسيّ السخرية السياسيّة (ما بين الكاريكاتور و التقليد الساخرparodie)  وقد استمرّت حرب الضحك هذه طيلة القرن 19م ، حيث منح الكاريكاتور والنقد اللاذع للسياسة لمحة عن مختلف الجماهير التي تتصارع ضمن فضاء صار وسائطيا ويتزايد اتّساعا.

لقد مثّلت هذه الأهمّية حسب كلود لوفور، وهذا الحضور الضمني الجديد للنقد السّاخر للسياسة وخاصّة حضور التقليد السّاخر، نتائج مباشرة للثورة : أصبحت الديمقراطيّة، ودون تجسيد ملكي، ” مكانا شاغرا”، فضاء للمنافسة والنزاع، حيث تتمظهر السياسة كمشهد مسرحيّ. و يشهد هذا الرصيد للتقليد الساخر للديمقراطية الحديثة أيضا، عن عزم هذه الديمقراطية، وقد وُضعت مقوّماتها بصورة نهائية تحت المحك، وأرغمت على مناقشة ما تعتبره بمثابة خير عام، وما تقوم به من تمييزات بين الشّرعي واللاشرعي. لقد كذّب الضّحك بوصفه هوى ديمقراطيا- جمهوريّا إذن مزاعم توكفيل وأقوال ستاندال، التي وفقها يجب على ” شغف المساواة” أن يجعل من الكوميديا مستحيلة في مجتمع قد صار ديمقراطيا. يجعل الضّحك الديمقراطية في محكّ اختبار ويصبح في ذات الوقت حدّها والضّامن لها.  وخلافا لما يقوله جيل ليبوفتسكي في مقاله ” المجتمع الهزلي” الصادر سنة 1981، بأنّ هذا “الفراغ” الديمقراطي لا ينتج مجرّد ” نظام هزلي” ،و لعبة سيمائية  منتجة ” لتطبيع ونزع الجوهرنة désubstantialisation وتحييدا لِعبي ” . يقوم هذا التقابل بين الهزل و الضّحك والمميّز لسنوات 1980-1990، على مقاربة تواصليّة للخطابات والمواقف الكوميديّة؛ وبعبارة أخرى، فإنّ هذا التقابل بين الهزل (إجراء واستراتيجيا) وبين الضّحك ( أثر فيزيائي غير مضمون) مستلهِما مباشرة أعمال ج. ل،أوستين حول الأفعال الكلاميّة، والإنجازية، وحول التأويلات المتجدّدة الحديثة لنظريّته في الإنجازية  performativité، هذا التقابل لا يثمّن إلاّ الطابع العرفانيّ للضحك، دون استكشاف  طرقه الإشاريّة، والجسديّة ولا المعنى الانفعالي للمتكلّم الذي أهمله أوستين ذاته. نودّ أن نبيّن هنا أنّه لا يمكن أن يختصر تحليل مكانة الفُكَهِيّ humoriste والأعمال الكوميديّة والممارسات الهزليّة المعتادة في الفضاء العمومي، في مقاربة مثيرة للشفقة، وأنّه لا يمكن ردّ الأفعال الكلاميّة ” الهزليّة” إلى أثر التواطؤ بين الممثّلين لكذا تأويل للثلاثية الفرويدية : متكلّم ومرسل إليه وهدف.

الفضاء العام : تعدّد واستقلالية وتنازعيّة conflictualité

الفضاء العام ، نظرية المداولة ووسائل الإعلام

لقد كان لنشر كتاب ” الفضاء العمومي” سنة 1962 لهابرماس، ثم ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزيّة والفرنسيّة، أثرا بالغَ الأهميّة على العلوم الإنسانية والاجتماعيّة، وأثار كثيرا من النقد وإعادة التأويل. وسنهتمّ بموقفين نقديين كان لتطوّراتهما أثرا في تغذية البحوث المتصلة بالضحك والنقد الساخر للسياسة، وخاصّة حول الكاريكاتور والنقد السّاخر. يتعلّق الأمر بتحليل بارنار مانان للمداولة وتفسير نانسي فرازر  للمسلّمات البورجوازيّة والذكوريّة لنظرية هبرماس.

في مقال ظهر سنة 1985، أكّد مانان على أنّ النظريات الليبيرالية تختزل المداولة في القرار، و تجعل من لحظة التعبير التي ستكون إرادة عامّة ( انتخاب بالإجماع أو بالأغلبية)، مصدرا لشرعيّة  النظام السياسي.  وبينّ أنّه لا يمكن الاتّكال على إرادة أفراد محدّدة مسبقا، ولا على اطّلاع تامّ على المعلومات الضروريّة لأخذ قرار يتعلّق بالجماعة: ” لابد من التأكيد، حتّى لو أدى ذلك إلى التناقض مع تقليد راسخ: بأنّ القانون هو نتيجة مداولة عامّة، وليس تعبيرا عن الإرادة العامّة”؛ تطرح إذن نظرية المداولة الديمقراطية مسائل حقّ الجميع في المشاركة في المداولة، والوصول إلى المعلومات، ونسبيّة القيم المشتركة واعتبار عموم النّاس في تعريف الخير العام.. وقد كانت نظرية المداولة هذه بدورها محلّ نقد شديد، ووقع اتّهامها بفسح المجال لخلط بين التواصل والمداولة، بين التبديل والمداولة، وفتح الباب أمام تطبيق مباشر لمعايير المداولة على كلّ نمط تبادل داخل الفضاء العمومي المستقلّ. أمّا الأمثلة المُستشهد بها فهي غالبا برامج تلفزيّة سياسيّة ساخرة ( البحوث المتعدّدة حول “كوليش” 1 عل قناة كانال+ ، “بيبات شو” ت أف  TF1  و”القالابس” انفوinfo وكانال+ وهي عناوين لا يمكن تجاوزها) و منتديات الأنترنات ( منتديات “تالك شو” talk show وبالقريب منتديات الأحزاب السياسية، بل للحكومة).

إنّ السؤال الكبير الضمني في النقاشات حول الفضاء العام في السنوات 1990 هو العلاقة مع وسائل الإعلام، ووفق تصوّر “للمجالات” في الغالب ثنائيّ يضع التبادل من جهة إلى أخرى بين المجال السياسي والمجتمع المدني. لقد قادت وسائل الإعلام الجماهيرية وخاصّة التلفاز، إلى تصوّر تعدّدي للفضاء العام، مثيرة بذلك  المشكلات التالية : مأسسة عُدَّة النقاش والتواصل( مراقبة أو مقاومة ممكنة؟) والمستجدّ الديناميكي الذي يخصّ الفضاء العام المستقلّ ( الممارسات الديمقراطيّة، المجموعات التأويليّة، إنتاج المعنى).لقد شكّلت وسائل الإعلام الجماهيرية أو التي للخبراء والمتمثّلة في البرامج السياسيّة أو “التالك شو”، الفضاءات المثاليّة لأزمة تعريف الفضاء العام : عُدّة جدّ ديمقراطيّة أو تهديدات، منصّات أو تطهير catharsis، تدهور للنقاش أو توسّع ملائم له… فضاءات عامّة داخل الفضاء العام، توصف هذه البرامج بحدّ ذاتها بما هي “عقود” contrats تتغيّر أنماطها في علاقة بالعُدّة الوسائطية، و”فضاءات عامّة إستيتيقية” و” إنتاج رمزي للعالم المعيش”

سمحت نظرية المداولة ( وهي تسمح دائما) بالتفكير في الفضاء العام بوصفه حيّزا للّعب جزئيّا على مشروعيّة النظام العام l’ordre publique، ولكن أيضا على النظر إليه كفضاء للنّزاع والتنافس، أين تُصنع التبادلات بين أعضاء المجتمع المدني- في معنى فضاء عام مستقلّ- بمثل ما تصنع بين المجتمع المدني والحقل السياسي، وبين الأفراد المجهولين المكوّنين للمجتمع ورجال السّياسة. إلاّ أنّ هذا التعريف للفضاء العام غير كاف، إذ أنّه لا يسمح بفهم مقولة الشرعية ذاتها، وسلطة الأفراد والجماعة؛ إنّه لا يسمح بفهم تامّ لعبارات أزمة التمثيل و الرّاهن الساخن للديمقراطية الفرنسية منذ عشر سنين. لقد أدركت البحوث حول الوسائط الجماهيرية وحول الفكاهيين، حدود نظرية المداولة هذه،  بمسائلة الطرائق التي تسمح لمتكلّم أن يقدّم نفسه كمتكلّم شرعيّ و الكلام “باسم ” au nom de” ، وبفحص أجهزة تكوين وقيس “الاستماع” و تقبّل المعلومات التي تبثّ عبر هذه الوسائط.

الفضاء العام، الجمهورية والإقصاء

     تمنح إعادة صياغة التعريف الهابرماسي للفضاء العام التي قامت بها فرازر، جهازا مفاهيميّا وتاريخيّا لفهم أفضل لأزمة فاعلة منذ بداية سنوات 2000. لقد وضّحت فرازر في مساهمة 1992 في النقاش حول مؤلّف هابرماس، وأخضعت للفحص النقدي مسلّماته البورجوازيّة والذكوريّة: المساواة الافتراضية للمتكلّمين في الحوار أو النقاش العام، والتوحيد الجامع وتدبير الاستبعاد للجمهور، والفصل الحادّ بين الخصوصي le privé ( ما يتّصل بالمنفعة) والعمومي ( ما يتّصل بالخير العام) وحصر النقاش في المسائل على  صعيد العمومي، وأخيرا تصوّرا ثنائيا للديمقراطيّة التي تفترض فصلا بين حقلين: المجتمع المدني والدّولة. وتقابل فرازر ضمن نقدها لفظ بلفظ: البروتوكولات البورجوازية للتفاعلات الخطابية والعوائق غير الرسميّة التي تمثّل الفوارق الاجتماعيّة، المنقوشة في الأجسام والأساليب الثقافية والمحدّدة للنفاذ إلى الكلام؛ فضاء عموميّا ليس متعدّدا فحسب، بل أيضا مركّبا من جمهور مضادّ تابع ” يكوّن الحلبة المقاليّة الموازية التي يبني داخلها أعضاء الفرق الاجتماعية التابعة خطابات مضادّة وينشرونها، بغاية صياغة تأويلهم الخاص لهويّتهم ومنافعهم وحاجاتهم”؛ تصوّرا للمداولة مدنيا- جمهوريّا يأخذ بعين الاعتبار، من جهة الطابع الجوّاني للأفضلية، ومنافع وهويّات الأشخاص، ومن جهة أخرى الأثر الإقصائي التفاوتي الناجم عن وصف بعضهم الذوات والمنافع ” بالخصوصيّ” (privés)والأخذ بناصية المداولة من ” نحن” متفرّدة وشاملة؛ وفي الأخير تصوّرا “مابعد بورجوازي” يسمح بتناول القوة العمليّة لبعض المجالات العموميّة الهجينة، غير المقتصرة على تكوين الرأي العام والمساهمة في المسار الرسمي لاتخاذ القرار.  

   إنّ المفهوم الذي يعنينا هنا هو مفهوم الجمهور- المضادّ التابع ، الذي يعني هذه الجماهير المتراوحة و المتنافسة والجامعة لفرق اجتماعية مقصيّة من الفضاء العام الجمهوري الليبيرالي، مجموعة أقليّات، تابعة: النساء والطبقات العمّالية والشعبيّة ،والأشخاص “ذوي البشرة الملوّنة”، المثليين والمثليات، الخ. وسيسمح لنا هذا المفهوم بتناول نقاط عديدة لها دور أساسي في فهم الفضاء العام المعاصر: الاتّهام بل الإقصاء للنزعة الجماعياتية communautarisme التي تنزل بثقلها على الجماعات التابعة. وإدراك أهمّية مفهوم الهوية، التي يشمل أو يتضمّن منذ عدّة سنين مفهوم الرأي؛ ومقولة الصوت، وفكرة جعل الصوت مسموعا، التي ترتبط ضمنيّا بفكرة الهويّة.

    يشتغل الجمهور – المضادّ حسب “فرازر” على نمطين، في علاقة جدليّة: بين الذات وذاتها l’entre-soi، فضاء الانطواء والتجمّع، والتجريب المحلّي، المقالي والعملي الموجّه إلى إشهار أكثر اتّساعا. وما يسمّى انفصالية، وما تعبّر عنه النقاشات في وسائل الإعلام اليوم باسم النزعة الجماعيّة، هو ظاهرة تطويق أو حصر للمجموعات المرؤوسة أو التابعة، تطويقا يُتّهم بأنّه إرادي. وما لا تذكره فرازر هو تطبيع هذا البين- الذات على أساس المحور ذاته الذي استخدم في إقصاءها من الفضاء العام الجمهوري المعاصر، والذي هو الأصل في المُطالب الأكثر قوة للنّسويّة: المجموعات التابعة ليست مجموعات طبيعيّة. فليس الجنس ولون البشرة والطبقة الاجتماعيّة أو أيضا الميل الجنسي، بكاف وحده أن يولّد جمهورا، أي مجموعة تابعة منظّمة حول قيم وتأويلات مشتركة، جمهورا مضادّا قادر على قول ” أنا” و” نحن”. إنّ سكوت حجاج فرازرFrazer عن طريقة عرضها للنقاط الأخرى، الفضاء العام بوصفه حلبة، أين تتكوّن وتعبّر الهويّات الاجتماعية عن نفسها، وعن بناء وتعبير متزامن لصوت خاص بواسطة لسان خاص وأسلوب ثقافيّ؛ تتوقّف فرازر على عتبة الصّوت، ولا يشمل تحليلها إلاّ المقاربة البنيويّة والابستيمولوجيّة لأزمة الفضاء العام.

الصوت، العقل والضحك: الأقوال الشغوفة في الفضاء العام  

    سنتعمّق الآن في مسألة الصوت، التي هي مسألة مشروعية الفرد والجماعة في الكلام في..، من أجل وعن المجموعة. وسنؤكّد من جهة على إعادة تأويل “ستانيلي كافل” أعمال أوستين  وفيتجنشتاين من خلال فكرة ” صوت العقل” ومفهوم” القول الشَّغِف” ؛ ومن جهة أخرى على مفهوم ” باريسيا parresia، ” الصراحة” في الكلام (franc-parler ) كما حللّه ميشيل فوكو وأعاد استخدامه كريم حمّو في فكرة أنّ بعض الكلام لجماهير- مضادة تابعة تلعب على نظام الباريسيا للتشريع لذاتها.

    الصوت مجاز، ومفهوم وظاهرة فيزيائية تخترق تاريخ الجمهورية الفرنسية: صوت انتخابي، وصوت برلماني، وصوت الشعب، وصوت المتظاهرين …إنّه جدّ مثير للدهشة أن نراه نادرا ما يثار في الأعمال المذكورة سابقا. إنّ ما يميّز المواطن في الديمقراطيّة هو أن يجعل صوته مسموعا و أن يتكلّم، ولكن إلى أي حدّ يكون هذا الصوت وهذا الكلام مشروعا، وله سلطة؟ وإلى أي حدّ لا يمكن اعتباره مجرّد صيحات، وضجيجا؟ إن النفاذ إلى الخطاب في الفضاء العام، كما أشارت إليه فرازر، ليس مسألة إقصاء شكلي فحسب، بل أيضا مسألة سيرورة تفاعل مقالي، لِقِيم ولأساليب ثقافيّة. يقوم تكوين جمهور، تابعٍ أو لا، على العلاقة بين الفرد والجماعة.

    يتساءل “كافلل”Cavell في كتاب ” أصوات العقل” عن هذا الامتياز الخارق الذي يمثّله امتلاك القدرة على قول” أنا” و “نحن”، ويستنتج أن أهمّ مشكل ابستيمولوجي طرحه المجتمع هو معرفة كيف أعرف مع من أكون داخل المجموعة، ومع من أكون في علاقة طاعة واتفاق. نحن نتّفق على المعايير في لغة لم نخترها: يظلّ الاتفاق موضوعا للإنجاز، في هذه العلاقة حيث يمكن للمجموعة أن تتكلّم باسمي وحيث يمكن لي أن أتكلّم باسمها. إنّ ” الأنا” و” النحن” مطالب. وتكوين جماهير- مضادّة تابعة هو إذن مثال باريدغماتي للطّابع الذي تطلبه المجموعة، والذي يجعل منه الاتفاق موضوعَ بحث.  يُظهر الفضاء العام الراهن إلى أي حدّ يكون هذا الاتفاق صعبا، وانّ المشاركة الضعيفة في الانتخابات مثل الطابع العنيف واللاعقلي لأقوال هذه المجموعات التابعة التي يشكّ في كونها تراجعا جماعيا (هنا تطرح الجماعة مقابلا للمجتمع)، يفترض أن تشهد على اللامعقولية الناجمة عن تجزئة وتخصّص الفضاء العام في وسائل إعلام وبرامج هادفة. بينما ” تكون صعوبة الوصول إلى اتفاق، كما تؤكّد على ذلك ساندرا لوقيي، هي بالعكس مكوّنة لما يسمّيه كافال “ادّعاء العقلانية” claim to rationality. فليس العقل بالمرّة معطى بل هو مطلب، والعقل هو بذاته موضوع بمثل ما هو موضوع ادّعاء(the claim of Readon). إنّ مطالبة الفرد بالكلام باسم الآخرين، حتّى لو لم يكن لهذه المطالبة ما يؤسّسها، هو أمر معقول”.  تكمن المعقولية المعاصرة إذن في البحث في مطالب إسماع الصّوت، التي أظهرتها أزمة الديمقراطية التمثيلية وفشل المداولات الدستوريّة.

    لقد كان النظر في مطلب الكلام باسم الآخرين، أو الكلام من أجلهم، ولمدّة طويلة وفق نموذج التمثيل السياسيّ، والتعاقد حيث أتنازل عن صوتي لفائدة ممثّل سياسي، فعل نيابة صادق عليها الانتخاب.  يسمح تصور كافال بالتفكير في هذا المطلب انطلاقا من نموذج آخر، ديمقراطي هو أيضا: التجربة المشتركة، والمعايير المعطاة في صور الحياة. المطالبة الفردية ، واعتراف أو تكذيب الآخر: هذه العلاقة هي أساس التبادل بالذات بين الفنان أو الخطيب وجمهوره؛ إنّه الشكل المحبّذ من الفكاهي في القرن 21م، والذي يقدّم فيه نفسه ” بالتعبير شخصيّا، وباستعماله “أنا” أصيل أو شخصيات مجسّدة،وإنتاج حكايات عن الحياة وحوارات اليومي، بوصفه ممثّلا تام الصفة للعالم الذي يرسمه،وفي مواجهة سلسلة من الأوامر و”سلطات صغرى”متنوّعة.

              يستخدم الفضاء العمومي المعاصر إذن، مقولة خاصّة، مقولة الأصالة authenticité. حيث أنّي  لا أستطيع أن أعرف ، باستثناء بعض الأحيان، إلى أيّ حدّ يمكنني أن أعتمد على قول الغير، فإنّ البحث عن اتفاق والاعتراف بصوت الآخر يتأسّس على ثقة مسبقة. غير أنّ رجل الفكاهة لا يمكن له، على غرار رجل السياسة، أن يرتكز نهائيا على تجربته، أو على المعايير الأخلاقيّة التي يعترف به للآخرين.  إذا ما قبلنا فكر فضاء عمومي استيتيقي، أو وسائطي إعلامي مشاركا في تكوين الجماهيرية – المضادّة، علينا إذن قبول فكرة طابع مزدوج للصوت، ابستيمولوجي ( صيغ انتمائي لمجموعة) وحقيقيّaléthurgique ( نوع الفعل الذي يكشف من خلاله الفاعل عن نفسه، قائلا الحقيقة،  ويمثّل نفسه ويعترف به الآخرون بوصفه يقول الحقيقة).  لقد عالج ميشيل فوكو في جزئي كتابه “التحكّم في الذات والآخر” مقولة “باريسيا”parresia. تمثّل “الباريسيا” صورة للصدقية véridiction قديما، نمطا من قول الحقيقة dire-vrai يمارسه المواطنون الأثينيون. كي يُعترف بقائل الحقيقة le parrésiaste،  قائلا للحقيقة، فعليه احترام الوضع التالي: أن يتكلمّ باسمه الخاص، وأن يتكلّم عن الحاضر، وبطريقة مباشرة وبسيطة، وأن يتكلّم لأن قول الحقيقة بالنسبة إليه واجب. نودّ أن نقترح على الفكاهيين  وخاصّة أولئك الذين يتوجّهون آو يحيلون إلى جمهور تابع ، أن يقوموا بعمل حول الصّدقيّة. يبيّن “كريم حمّو” في مقال خصّص ” للعنف اللفظي” للراب” ، كيف أن اللاتفريق indifférenciation بين المؤلّف والمؤدّي والمسئول ، قد تمثّل تقنية يستعملها مغني الراب في إطار اشتغال فّني على قول حقيقة، تقنية تركّب في إطار غنائي وضعيات اجتماعية تحتلّ فيها الصدقية موضعا محوريا”.

   تبدو وضعية الاشتغال على الصّدقيّة، حاضرة في أداء الفكاهيون المنتمون أو المتوجهون إلى جمهور تابع، فيما تعرّفه نيللي كيمنارNelly Quemener كتقنيات “تجسيد” لشخصيات : لقد أضحت التخوم بين الفكاهي ( مؤلف و/أومؤدّي) والشخصية المجسدة غير واضحة ، لقد أضحت “الأصالة” مطلبا. تجسّد فلورنس فورستي في المشهد المسرحي الهزلي ” المواعدة السياسية السريعة”Speed dating politique » ، شخصيّة اللايدي زبوبا L.Zbouba ، التي بالصدفة لم تتدخّل : يسألها المنشّط “لورون ريكيي” على طريقة المقابلة الصحفيّة إذا لم تكن مهتمّة ، بوصفها امرأة، باستبيان مجلة 20 سنة، الذي يتعلق باهتمام الشابات بالحياة السياسيّة، وإذا ما كانت تعتزم المشاركة في ” المواعدة السريعة” السياسية المنظّمة، بالطبع 8 مارس. فتحوّل لايدي زبوبا، مستغلّة نظام النسوية الذكورية لبنات الضاحية الشعبية والشفرات اللغوية لهذه الضاحية(فارلان(لهجة خاصة) صوت مرتفع، وأسلوب مباشر)إلى موضوع سخريّة الاستراتيجيا البائسة للسلطات السياسيّة الهادفة إلى تشريك البنات والشابات في الضاحية الشعبية في النقاش العام: لسن  “الهدف” بما أنّ المجلّة المختارة هي مجلّة ” تاسبي ” لا تقرأ، وصيغة الاستبيان الاختيار بين أجوبة متعدّدة توافق نمط القارئ للمجلات النسوية، وتستعمل الأسئلة المستخدمة معجميّة تافهة(” هل من أحد يقول “واو”waou)، وأخيرا الوقت المختار المخصص ” للمواعدة السياسية السريعة” هومن17مساء إلى19 ، وهو وقت لا يأخذ في عين الاعتبار” يوم العمل المزدوج” الخاص بجدول أوقات أغلب النساء ( تنهي الفتاة العمل في الساعة 18 م ، لتذهب فيما بعد إلى الحضانة لاصطحاب أختها الصغرى، وتسرع في شراء حاجياتها قبل أن تغلق المغازة الكبرى أبوابها على الساعة 20م قبل أن تعود في الأخير إلى المنزل لتساعد أمّها في إعداد العشاء). إنّ لايدي زبوبا مدعوّة إلى الحديث باسمها، ودون تنميق لغوي أسلوبي، تتدخّل في شأن موضوع راهن لتقول الحقيقة، إذ وحدها تقدر على فعل ذلك في برنامج تلفزيوني. غير أن التًّناج بين فوراستي و ريكيي الذي يوجّه المشاهد التمثيلية حيث وقع إخراج مسرحي لهذه الشخصيّة( لايدي زبوبا)، يجعل الحدود بين مؤلف المشهد التمثيلي والذي هو أيضا مؤدّيه، وبين الفكاهي والشخصيّة، حدودا غير واضحة. لقد كانت دعوة فوراستي لغرض كلامي( أن تقدم وجهة نظر تابعة ، وإنتاج معلومة في إطار احترام التعاقدات التي تنظّم التبادل الصحفي)، وهي لم تكفّ عن إنتاج أقوال شغوفة، يقاس أثرها الخطابي بالضحكات، وبالنظرات وردود فعل لاحقة للمدعووين وجمهور البرنامج.

   وختاما نقول مع كافال  بأنّ الأقوال الشغوفة هي التي تجعل من فريق جمهورا، وجمهورا مضادا؛ ذلك انّه لا توجد قواعد تعلمّنا كيف نطالب، ” فالتفاعلات أو اللقاءات التي تشير إليها أفعال كلامية (…) تناهض بانتظام معقولية سلطة القواعد”، إنّها تمنحنا رؤية فضاء عمومي مختلف عن تمثّلاته التعاقديّة، حيث يجد العقل نفسه سجين الآثار الكلامية للتعاقد.

المصدر:

http://www.implications-philosophiques.org/ wordpress/wp-content/logo%20iP.png

Université Pierre Mendès-France (Grenoble 2))