المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

الروائية المغربية الزهرة رميج للمجلة الثقافية الجزائرية: أكتب عن المرأة التي ترفض المهانة وتحافظ على كرامتها واستقلالها

تُعد الزهرة رميج من الكاتبات المغربيات المتميزات ببحثهن عن الجمال الأدبي والإنساني في الكتابة، فنصوصها تجمع بين متعة القراءة وعمق الفكرة والرؤية المعرفية.. هي امرأة جريئة مثقفة مخلصة للبيئة المغربية ومنسجمة مع قضايا الراهن، تنادي بالتغيير والإصلاح وتدافع عن حقوق الشعوب في الحرية والعدالة والمساواة والحياة الكريمة، ورغم حجم الألم الذي عاشته في الواقع إلا أنها تنتصر للأمل وتكتب عنه دائماً. صدر لها العديد من المؤلفات التي أثارت إعجاب القراء والنقاد في آن معاً، تُرجمت بعض قصصها إلى لغات أجنبية عديدة، ومن أبرز رواياتها: (عزوزة) و(أخاديد الأسوار)، و(الناجون).. المجلة الثقافية الجزائرية حاولت الاقتراب من الزهرة رميج الكاتبة والمثقفة والإنسانة فكان هذا الحوار:
حاورتها: باسمة حامد

(عزوزة) تحمل رسالة إنسانية وحضارية..

المجلة الثقافية الجزائرية: دعينا نبدأ الحوار من (عزوزة) التي شكّلت علامة فارقة في مسيرتك الإبداعية. في الواقع الرواية تبدو وكأنها تسعى لتمرير رسالة ما تحت وطأة الشعور بالمسؤولية الإنسانية للكاتبة. ما تعليقك؟
الزهرة رميج: أكيد أن الرواية تحمل رسالة إنسانية عامة رغم كونها تنطلق من واقع محدد، ما دامت قيم الحب والعدالة والكرامة ومقاومة الظلم والاستبداد كلها قيما إنسانية مرتبطة بجوهر الإنسان في أي زمان وأي مكان. ولكن هذه الرواية كتبت تحت وطأة الشعور بما كانت تعانيه المرأة المغربية في النصف الأول من القرن العشرين من عنف وقهر بسبب هيمنة الفكر الذكوري الذي لا ينظر إلى المرأة باعتبارها إنساناً له نفس حقوق الرجل، وإنما كمصدر للمتعة الجسدية، وكوسيلة لضمان استمرار السلالة عن طريق إنجاب الذكور المؤهلين لتخليد أسماء الآباء. فرواية \”عزوزة\” تناولت واقع الأسرة المغربية ومعاناة الزوجة داخلها ليس على يد الزوج وحسب، وإنما أيضاً على يد الحماة التي تمتلك سلطة مطلقة في غالب الأحيان. ذلك أن المرأة ما إن تصبح حماة حتى ينقلب وضعها الاجتماعي، وتتحول من شخص مقهور إلى إنسان قاهر. ورغم معاناتها في شبابها من الفكر الذكوري، إلا أنها بمجرد ما \”تترقى\” في السلم الاجتماعي، تتبنى نفس هذا الفكر الذي عانت منه، وتحرص على استمراريته، بل وتدافع عنه بشراسة، وتفرضه ليس على المرأة وحدها، وإنما على الرجل/الابن نفسه إذا ما تمرد عليه. وهذا يتجلى في موقف الحماة التي لم تتقبل حب ابنها أحمد وإخلاصه لزوجته عزوزة، ولا سعادته بإنجاب البنات. وظلت تحرضه على الزواج من امرأة أخرى تنجب له الذكور، وترفع من شأنه في نظر المجتمع الذي لا يحترم الرجل \”أبا البنات\”، ولا الرجل الغني الذي يكتفي بزوجة واحدة وقد منحته الشريعة الحق في أربع نساء.
كان الدافع الأساسي إذن لكتابة هذه الرواية هو الرغبة الشديدة في كشف ما كانت المرأة المغربية تعانيه في ظل النظام التقليدي للأسرة، وإدانة العنف المزدوج الذي كان يمارس عليها –وما يزال في الكثير من المناطق- من قِبل الزوج والحماة معاً. لكني مع الانخراط في كتابة الرواية، والاندماج في عوالمها والتعامل مع فضاءاتها الزمانية والمكانية وجدت إحساساً آخر من المسؤولية يفرض نفسه، ويتعلق الأمر بالحفاظ على التراث المغربي الأصيل، والخصوصية الحضارية في مواجهة طغيان العولمة، وتحويل المجتمعات المتخلفة منها والسائرة في طريق النمو إلى مجرد مجتمعات مستلبة تستهلك المنتوجات الغربية، وتقلد نمط عيشها دون أن تكون في مستوى ذلك التقليد مما يحولها إلى مجتمعات مشوهة أشبه بالغراب الذي أراد أن يقلد مشية الحمامة، فما أتقن مشيتها ولا استعاد مشيته الأصلية.

المجلة الثقافية الجزائرية: الرواية تستثمر بالبادية المغربية على كافة الأصعدة: الفكرية والاجتماعية والتراثية والتاريخية والجغرافية، فهل يمكن القول بأن ذكريات الطفولة كانت العامل الأقوى في خلق نص إبداعي مميز يستعيد مفردات البيئة البدوية بهذا الدفء الإنساني الرائع؟
الزهرة رميج: أكيد أن ما خزنته ذاكرتي الطفولية من مشاهد وأحداث وشخصيات وحكايات لعب دوراً أساسياً في تشكيل عوالم هذه الرواية. فهي مستلهمة من واقع الحياة التي عشتها في البادية، ومن البيئة التي نشأت وترعرعت فيها، وقضيت بها عشر سنوات من عمري قبل أن أنتقل مع عائلتي إلى المدينة. لذلك، استثمرت كل ما عايشته وعرفته من عادات وتقاليد وما سمعته من حكايات وأغاني شعبية وأمثال وحكم كانت متداولة في النصف الأول من القرن العشرين. ولكني لم أتوقف عند استثمار ما كنت أعرفه بحكم التجربة والمعايشة، وإنما لجأت إلى البحث للتعمق أكثر في معرفة عالم البادية المغربية، خاصة وأني لم أتناولها من زاوية إقليمية ضيقة، باعتبارها منطقة محددة ذات خصوصيات مميزة لها عن بقية المناطق، وإنما من منظور شامل باعتبارها فضاء عاما يلتقي فيه الشمال بالجنوب والشرق بالغرب. كما أني سعيت لمعرفة بعض المعلومات المرتبطة بالحيوانات والنباتات والأشجار مثل العمر الافتراضي للفرس ونوع أكله، وتصرفاته… والتأثير الإيجابي مثلا لشجرة الميموزا على مزاج الناظر إليها… ونوع النباتات التي تنمو على ضفاف الأنهار مثل السَّمار والبَرْدي… ولمعرفة دلالات ورموز الوشم عند النساء في ذلك الوقت… وكان هذا البحث ضرورياً ليكتسب العمل الروائي المصداقية وإيهام القارئ بواقعية الأحداث وعدم مجانبتها لحقيقة الأشياء.

قدمت صورة المرأة البدوية كما عرفتها وعايشتها في الواقع..

المجلة الثقافية الجزائرية: ما بين الحقيقة والخيال… لاحظنا أن الرواية قدمت تفاصيل مختلفة عن المرأة البدوية بعكس معظم الأفلام والمسلسلات العربية. إلى أي حد اتكأت الزهرة رميج على المعطيات الوجودية والحياتية لإنصاف نساء البادية ووضعهن ضمن هذه الصورة الجميلة والمشرفة والحضارية؟
الزهرة رميج: في رواية \”عزوزة\” لم أقدم صورة المرأة البدوية وحسب، وإنما صورة الرجل البدوي أيضاً. صورة أردتها أن تكون فعلاً، كما جاء في سؤالك، مختلفة عن الصورة النمطية التي تروج لها الأفلام والمسلسلات المغربية. فكلمة البدوي أو \”العروبي\” بالتعبير المغربي الدارج كلمة قدحية تحيل على التخلف والبلادة والسذاجة وضيق الأفق وانعدام الذوق الجمالي وما إلى ذلك من الصفات السلبية، وهذا ما تعكسه الصورة التي تقدمه الأفلام والمسلسلات. كنت -وما زلت- أستغرب كثيراً هذه الصورة النمطية. ذلك أن البيئة البدوية التي عشت فيها تختلف كلية عن هذه الصورة. لا أتذكر أني رأيت في محيطي العائلي امرأة ولا رجلاً بتلك الصورة. بالعكس، كلهم شخصيات جميلة، أنيقة، وبالخصوص ذكية ومرحة محبة للنكتة وللحكاية… ما تزال وجوه أولئك الرجال والنساء المشعة وضحكاتهم المجلجلة في ليالي السمر الصيفية محفورة في ذاكرتي. ولعل انبهاري بهم وأنا طفلة، وبحكاياتهم المثيرة، من بين العوامل التي ساهمت في تنمية خيالي، وتربية ذوقي الأدبي وميلي لفن الحكي المثير، وانحيازي للأدب رغم تفوقي في الرياضيات أيام الدراسة الإعدادية. من يدري؟ فنحن لا نعلم العوامل الحقيقية التي تتحكم في ميولاتنا وأذواقنا، أو تجعل منا مبدعين في هذا المجال أو ذاك… كما أن الحياة التي عشتها مع والديّ –البدويين الأصيلين- لا علاقة لها البتة بتلك الصورة النمطية. فقد كانت النظافة والأناقة في المظهر وفي المسكن مظهران أساسيان في حياتنا رغم بساطتها. وكان والدي ووالدتي نموذجين مبهرين في أناقتهما حتى آخر يوم في حياتهما. وما عزوزة وأحمد سوى تجسيد حي لهما. وما يستفزني أكثر في الصورة التي تروجها الأفلام والمسلسلات للبدوي هي اللغة الخشنة وطريقة الكلام الأشبه بالصراخ منها بالكلام العادي. ذلك أن اللغة التي كانت متداولة في بيتنا قريبة من اللغة العربية، كما أن نطقها يحافظ على الحروف المعجمة. كان والداي يقولان مثلا: هاذْ بدل هادْ (هذا)، وذِيبْ بدل دِيبْ (ذئب)، عيد العَرش وليس عيد العُرش كما ينطق في بعض المدن ومن طرف أناس متعلمين… وكان الكلام يعتمد أكثر على الأمثال والحكم والتلميح والترميز… وكانت جدتي أكثر من عرفتُ من النساء اقتصاداً في الكلام واستعمالاً للأمثال الشعبية للتعبير عن أفكارها. وكانت بعيدة كل البعد عن الصورة النمطية للمرأة الثرثارة. وكانت عمتي–وما زالت حتى اليوم وقد تجاوزت المائة سنة- معروفة بالحكمة والرصانة واللغة المنتقاة. وقد حفظت الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة على يد زوجها الذي كان شيخاً مريداً يحدث الناس في أمور الدين ويتغنى بالأمداح النبوية. وكانت إحدى زوجات جدي من أميبدورها تحفظ القرآن، وترتله أثناء زياراتها لنا. وكان خال والدي حاجاً حافظا للقرآن والأحاديث، وكان حكيماً أشبه بالأولياء الصالحين خلقة وخلقاً. كما أن الأفلام والمسلسلات غالباً ما تقدم المرأة على أنها مستسلمة وخانعة وهذا أيضاً مخالف لصورة المرأة التي عرفتها في محيطي. فمعظم نساء العائلة قويات ومتمردات ولا يستطيع الرجال كسرهن مهما فعلوا، وعلى رأسهن جدتي لأبي التي كانت تتميز بشخصية قوية حد الجبروت، وما كانت قط، تهاب الرجال أو تعتبر نفسها أقل شأنا منهم. وقد ورثت بدون شك، عن أمي وعن نساء عائلتي صفات الاستقلالية وعزة النفس، والكرامة، وعدم الخنوع أو الاستسلام.
لهذه العوامل كلها، حاولت في رواية \”عزوزة\” أن أنقل صورة المرأة البدوية كما عرفتها وعايشتها في الواقع. والحمد لله أن القراء الكرام في المغرب وفي الوطن العربي كله، أحبوا هذه الصورة وأعجبوا بشخصية \”عزوزة\” أيما إعجاب.

المجلة الثقافية الجزائرية: المرأة في عالمك الإبداعي تلعب أدواراً بارزة. فكيف تأخذ المرأة –برأيك- دورها كركيزة أساسية في مجتمعاتنا في وقت مازالت فيه النقاشات تدور حول محدودية كفاءتها قياساً للرجل؟
الزهرة رميج: من يتحدث اليوم عن محدودية كفاءة المرأة قياساً للرجل يكون كمن يغطي الشمس بالغربال. المرأة اليوم في المجتمع المغربي تتحمل مسؤوليات مهمة وتثبت جدارتها وكفاءتها يوما بعد يوم. المهم أن تتاح لها الفرصة لإظهار قدراتها وكفاءاتها. وأنا أعتبر المرأة المغربية مناضلة بامتياز، وذلك بالنظر إلى المهام العديدة التي تقوم بها والمسؤوليات التي تتحملها. فرغم ما تقوم به من أعمال ومهام مثلها مثل الرجل، إلا أن ذلك لا ينسيها تحمل مسؤولية بيتها وتربية أولادها. والكثير من النساء هن اللواتي يعلن أسرهن اليوم. كما أن المدارس المغربية تعرف ظاهرة تفوق العنصر النسوي على العنصر الذكوري. أحتفي في إبداعاتي بالمرأة الطموحة، الحرة الأبية التي ترفض المهانة وتحافظ على كرامتها واستقلالها، والمرأة النشيطة المحبة للعلم والعمل باعتبارهما قيمتان أساسيتان لبناء مجتمع متقدم وعلاقات إنسانية متوازنة، ولكون المرأة/ الأم المتعلمة هي مربية الأجيال وصانعتها.
لذلك، معظم بطلات رواياتي من هذا النوع من النساء. فعزوزة مثلاً، رغم كونها أمية إلا أنها مع ذلك كانت تجسيداً للمرأة الواعية بأهمية العلم والعمل وضرورتهما لحفاظ النساء على كرامتهن واستقلاليتهن، ولذلك نصحت ابنتها حليمة بالاهتمام بالدراسة وليس بالشعر الطويل. ونساء رواية \”الناجون\” كلهن متعلمات، يساريات، وفاعلات في المجتمع في مجالات مختلفة.
المرأة المغربية لديها إمكانيات هائلات، وقدرة عظيمة على تحمل المسؤولية، فقط تحتاج إلى من يشجعها ويوفر لها الظروف الكفيلة بإخراج الطاقة الكامنة بداخلها.

كتابة السيرة الذاتية مسألة شائكة فعلاً..

المجلة الثقافية الجزائرية: أعتقد أن كتابة السيرة الذاتية النسائية مسألة شائكة بالنسبة لأي مبدعة كونها تتطلب الكثير من الجرأة. فهل اكتشفتِ أن عملية الكتابة في (الذاكرة المنسية) صاغت نصاً أدبياً مختلفاً عن نص (الذاكرة) كمخزون اغترفتِ منه مادتك الأساسية؟
الزهرة رميج: كتابة السيرة الذاتية مسألة شائكة فعلاً، ليس بالنسبة للمبدعة فحسب، وإنما للمبدع أيضاً بدليل ندرتها قياساً إلى بقية الأجناس الأدبية. شخصياً، لم أواجه قط، صعوبة في الكتابة مثل صعوبة كتابة سيرتي الذاتية \”الذاكرة المنسية\”. لم يكن من السهل أن أكتب بضمير المتكلم عن حياتي الخاصة، وأن أنشرها على الملأ بوجه مكشوف. ككل الكتاب، تتضمن رواياتي وأعمالي الإبداعية الكثير من ملامح سيرتي لكن في شكل تخييلي ومن خلال شخصيات ورقية مما لا يشكل أي حرج في البوح. لكن، عندما وجدت نفسي وجهاً لوجه مع القارئ، أحسست بالحرج في عرض حياتي الطفولية وواقع أسرتي على الملأ. ولذلك، لم أتجرأ على نشر \”الذاكرة المنسية\” مباشرة بعد انتهائي من كتابتها سنة 2014. ولولا تشجيع ناشر أعمالي بالأردن لما نشرتها سنة 2017. وقبل نشرها أعدت قرأتها مراراً، وحذفت منها عدة فصول، واستغرق مني تنقيحها ثمانية أشهر.
أما عن سؤال: هل صاغت الكتابة نصاً أدبياً مختلفاً عن نص (الذاكرة) كمخزون اغترفتُ منه مادتي الأساسية؟ فما يمكنني قوله أني حرصت قدر المستطاع أن تكون كتابتي وفية للذكريات المترسخة في أعماقي، وأن أكون صادقة كل الصدق في التعبير عما تحمله تلك الذكريات من مشاعر إيجابية كانت أم سلبية. وهذا ما جعلني أصنف \”الذاكرة المنسية\” ضمن جنس السيرة الذاتية وليس الرواية، لأني لم أتوسل في أي لحظة من لحظات الكتابة بالتخييل الذاتي، ولم أعمل على تحسين الصورة التي أقدمها عن طفولتي وإنما التزمت بميثاق الشرف الذي يلتزم به كاتب السيرة الذاتية تجاه القراء.
وقد أشرت في مقدمة هذه السيرة إلى كوني لم أفكر يوماً في كتابتها لولا مشروع فيلم وثائقي أراد أحد المهتمين بهذا الفن إنجازه حول حياتي، ولولا عودتي إلى مراتع طفولتي بالبادية بعد خمسين سنة من مغادرتي لها، ورؤيتي لبيتنا القديم، ومدرستي الأولى والفضاء العام التي تفتح وعي فيه. فقد حركت هذه العودة البركة الراكدة في أعماقي، ووجدت أن ذلك الزمن الذي عشته مختلف تمام الاختلاف عن هذا الزمن، وأن من المهم أن أتحدث عنه وأصون ذاكرته، خاصة وأنه يجسد المرحلة الانتقالية ما بين استعمار المغرب واستقلاله.

المجلة الثقافية الجزائرية: من يقرأ (أخاديد الأسوار) لا بدّ أن يشعر بوجود الكثير من الهوامش المتداخلة ما بين الذاتي الواقعي والمتخيل الروائي. كيف حققتِ المعادلة الصعبة ضمن هذا التوازن بين الاشتراطات الفنية للسرد وبين رغبتك الإنسانية في تأريخ تجربتك الخاصة؟
الزهرة رميج: رواية \”أخاديد الأسوار\” تم تصنيفها من طرف عدة نقاد في إطار التخييل الذاتي الذي يجمع بين الواقعي والتخييلي، أي المزج بين الخيال الروائي والسيرة الذاتية. وهذا صحيح لأني في هذه الرواية أتناول الكثير من سيرتي الذاتية وسيرة زوجي المعتقل السياسي السابق الذي كان موته سبباً في تفجير كتابة هذا العمل. ذلك أنه توفي بعد معاناته من مرض السرطان –وهو المرض الذي أودى -وما يزال- بحياة أغلب المعتقلين السياسيين في سنوات السبعينيات التي تعرف في المغرب بـ\”سنوات الجمر والرصاص\”.
لم تكن الكتابة عن حياتي الخاصة في هذا العمل صعبة لكوني لم أكشف عن هويتي ككاتبة، وإنما تخفيت خلف الشخصية الروائية وخلف ضمير الغائب. كما توسلت بفن اليوميات وتوظيف أشكال تعبيرية متعددة وكانت اللغة الشعرية تهيمن في الكثير من الفصول من خلال نصوص شعرية أو مشاهد غرائبية أو أحلام وكوابيس لخلق التوازن بين الواقعي والخيالي، ولتخفيف وطأة الواقعي المؤلم على القارئ وعلي قبله لما تسببت لي فيه كتابة هذه الرواية من ألم، خاصة وأن الجرح كان ما يزال مفتوحاً عن آخره.
(الناجون) كُتبت قبل انطلاق (الربيع العربي)..

المجلة الثقافية الجزائرية: (الناجون) أتت محمّلة بالألم ومنتصرة للأمل. والحديث عن هذه الرواية المميزة التي تُقرأ من زاويا عدة، يقودني إلى هذا السؤال: كيف أثّر (الربيع العربي) على قناعاتك ورؤيتك للحياة؟
الزهرة رميج: رغم صدور رواية \”الناجون\” سنة 2012، إلا أنها في الواقع كتبت قبل انطلاق الربيع العربي، وانتهيت من كتابتها قبل شهر من اندلاع ثورة الياسمين. ولأن الرواية ما كان لها أن تصدر قبل 2012، فكرت في كتابة تقديم لها أوضح فيه للقارئ أن الرواية كتبت قبل انطلاق الربيع العربي، وليس بعده ولا تأثراً به. وحرصت على تذييل الرواية بتاريخ انتهائي من كتابتها وهو (19 نونبر 2010) وهي المرة الوحيدة التي كتبت فيها مقدمة لأحد أعمالي الإبداعية، وحددت تاريخ انتهائي من كتابته. ذلك أني فوجئت مفاجأة عظيمة بهذه الثورة التي كانت بالنسبة لي مجرد حلم عبرت عنه في روايتي، وتمنيت لو أن الشباب العربي في زمننا هذا يستطيع أن يحلم بالتغيير مثل جيل السبعينيات الذي أنتمي إليه، وأن يكون التغيير بالطرق السلمية المناسبة لهذا الزمن وليس عن طريق العنف الثوري الذي آمنت به حركات التحرر العالمية والأحزاب اليسارية في الماضي.
لهذا لا تعتبر رواية \”الناجون\” نتاج تأثري بالربيع العربي. ربما هي تنبؤ بوقوع هذا الربيع لأن الوضع العربي كان قد بلغ درجة من التأزم لا تحتمل، وما كان للوضع أن يستمر على ما هو عليه، لأن شدة الضغط تولد الانفجار. هذا ما كنت أتمناه، لكني ما كنت أتوقع حدوثه بتلك السرعة.

المجلة الثقافية الجزائرية: ككاتبة وإنسانة تتبنى القضايا الكبرى –برأيك- هل مازال مطلب التغيير ممكن التحقق بعد كل ما جرى من خراب ودمار وسفك للدماء في بلادنا العربية؟ وفي هذا الإطار: ما الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف لتحقيق هذا المطلب وسط ثقافة عامة تُغذيها المحرمات والمحظورات من جهة وواقع سياسي يمنع ولا يسمح من جهة أخرى؟
الزهرة رميج: عندما كتبت رواية \”الناجون\” كنت شبه يائسة من إمكانية التغيير. ومع ذلك، كان بداخلي قبس من أمل في تحقق حلم التغيير الذي يسكنني لأن طبيعتي الميالة إلى التفاؤل ترفض الاستسلام لليأس. وكانت المفاجأة التي لم تخطر لي ولا لغيري على البال… وكانت انتفاضة الشعوب العربية بعد ركود وخنوع مستفز…
حدث التغيير إذن، في ظل الأنظمة الديكتاتورية وقمعها المرعب، فكيف به لا يحدث بعدما كسرت الشعوب حاجز الخوف، وتحررت ألسنتها من عقالها؟
فرغم كل ما يحدث من مآسي في بعض الدول العربية بعد الربيع العربي، ومن ردة في البعض الآخر، إلا أن هذا الواقع لا يلغي إمكانية انتفاضة الشعوب مجدداً لاستكمال ثوراتها وإعادتها إلى سكتها الصحيحة.
والحقيقة أن الانتكاسة التي تعيشها الدول العربية بعد الربيع العربي، ناتجة عن كون الثورات هي مجرد انتفاضات قامت بها الشعوب التي لم تعد قادرة على تحمل الوضع، وليست الأحزاب السياسية الوطنية وخاصة منها اليسارية التي ظلت تناضل في الصالونات وفي أبراج عاجية بعيدة عن القواعد الشعبية وهمومها الحياتية، وهو ما سمح للتيارات الإسلامية بالركوب على هذه الثورات والاستفادة منها. وقد رأينا مدى ضعف هذه الأحزاب أثناء الانتخابات، وانشغالها بالكراسي أكثر من انشغالها بالمواطن ومصلحة الوطن. ونفس الشيء ينطبق على المثقفين الذين ما عاد الالتزام بقضايا أوطانهم تهمهم، وما عادوا يؤمنون بدور الكتابة في التغير، فتقوقعوا على ذواتهم، واتخذوا من الكتابة وسيلة لتحقيق مصالح شخصية وامتيازات ومكاسب مادية وكتابة ما يرضي الناشرين أو الجوائز الأدبية المرموقة بعيدا عن القضايا الكبرى التي تتطلب منهم الخوض فيها لتعرية الواقع وفضح ما يعتريه من فساد ونهب وتفاوت طبقي يحول دون تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، ومن ثم دون تقدم المجتمع وتطوره. ولذلك، فإن تحقيق التغيير مثلما يتطلب تحمل السياسي لمسؤوليته الكاملة والتحام الأحزاب الوطنية واليسارية بالجماهير الشعبية والتفاعل مع مطالبها الجوهرية، تتطلب كذلك تحمل المثقف مسؤوليته بالكتابة عن القضايا التي تهم وطنه والمشاكل التي تؤرق مواطنيه، وأن يبتعد عن المواضيع والقضايا التي لا تهم مجتمعه في شيء…

الكتابة عن الجسد ليست محرمة ولكن..

المجلة الثقافية الجزائرية: في الختام أود أن أسألك عن الأدب النسائي بالمغرب، فهذا المنجز أتى بإضافات إبداعية مهمة، لكن (الجسد) بدلالاته المنفتحة على الذات والآخر والعالم الخارجي مازال التيمة المفضلة لكثير من المبدعات المغربيات، كيف تفسرين هذا النزوع؟
الزهرة رميج: تيمة الجسد ليست خاصية تقتصر على الكتابة النسائية المغربية فحسب، وإنما تشمل الكتابة النسائية العربية عموماً، بل ويمكن اعتبارها ظاهرة عامة تشمل الكتابات النسائية والذكورية. ويعود ذلك في رأيي إلى دور النشر التي تشجع الكتابة عن الجسد والجنس وخاصة بعد الشهرة التي حظيت بها بعض الكتابات العربية النسائية والرجالية عن هذا الموضوع. ولعل احتفاء النقد العربي بمثل هذه الكتابة وخاصة منها النسائية شجع الكاتبات على الاتجاه إلى هذا الموضوع المثير لتحقيق الشهرة والانتشار. والمؤسف في الأمر أن الكثير من الكتاب العرب المرموقين يلجأون إلى الجسد لمغازلة القراء، وإغرائهم.
وهذا ما لمحت إليه وأنا أتحدث عن تخلي المبدع عن مسؤوليته ودوره في عملية التغيير، وتركيز اهتمامه على قضايا لا تهم مجتمعنا العربي في شيء. فالجسد اليوم، أصبح مرمياً في الطرقات وفي المواقع الإباحية وغير الإباحية، والصورة أبلغ من الكلمة…
لا يعني هذا أن الكتابة عن الجسد محرمة، لأن الإنسان مصنوع من جسد وروح، والجنس حاجة ضرورية ضرورة الماء والهواء والطعام. والإبداع بما أنه يصور الحياة، فلا بد أن يوظف الجسد، ولكن شرط أن يخدم هذا التوظيف القضية المطروحة، وأن لا يكون هدفاً في حد ذاته، الغاية منه الإثارة فقط.
مجتمعاتنا ما تزال تعاني من التخلف، وتناضل من أجل تحقيق الحرية والمساواة وتتطلع إلى العيش الكريم. ولذلك، على المثقف أن يكون في مستوى تطلعات مجتمعه، وأن يعبر عن معاناته وطموحاته، وأن يتصدى للتطرف الذي أصبح يسود المجتمع. وعندما تتحقق الديمقراطية ومعها حرية التفكير والتعبير والرفاهية للجميع، آنذاك، يمكن للكاتب أن يتناول ما يشاء من المواضيع. أما اليوم، فالكتابة عن الجسد والجنس هي مجرد عزف على وتر الكبت الذي يعيشه المجتمع من أجل الشهرة أو الربح، ولا تساهم بأي شكل من الأشكال في إحداث التغيير الذي نطمح إليه.