المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

ابن أنيسة

د: محمد عبدالحليم غنيم

-1 –

     أنا ابن أنيسة , اسمي المدون في بطاقتي الشخصية الآن ، وفى شهادة ميلادي هو محمود صبري الشيال , غير أنني لا أذكر أن أحدا دعاني بهذا الاسم , في اليوم الأول لدخولي المدرسة بعد سبع سنوات في شوارع القرية ، نادى المعلم على أسماء الطلاب في الصف وقال محمود صبري الشيال , لم أرد ولم ينبهني أحد من رفاقي إلى اسمي لأنهم لا يعرفون محمودا هذا , وعندما قال المعلم :

– أمال مين ابن صبري الشيال؟

قلت :

– أنا

قال:

– لماذا لا ترد يا بجم ؟

قلت على الفور

– أنا ابن أنيسة

   ضحك الفصل كله , وضحك المعلم بالطبع بعد أن كان قد عزم على ضربي , وقال في هدوء وحنو معا :

– هنا في المدرسة اسمك محمود , محمود صبري الشيال

   سكت ولم أنطق بحرف ، لم أكن لأجد أية غضاضة في كنيتي ابن أنيسة ، التي بدأت تذاع في المدرسة تماما مثل شوارع القرية ، لذلك قلما التفت إلى من يناديني باسم محمود , فلم أنتبه أو أستجب إلا لمن قال : ابن أنيسة .

-2-

     أنجبتني أمي على كبر , ربما كانت في الخامسة والأربعين من عمرها أو أكثر من ذلك , أنجبت قبلي عددا من البنين والبنات وماتوا جميعا , وعندما من الله عليها بى , أخذتني بعيدا عن البلدة لمدة شهرين , إلى ساحة الشيخ المجلي في مدينة (فاقوس) , تأكل وتشرب ويخدمها النساء , ثم عادت بي إلى البلدة بعد أن باركني الشيخ , وأسماني محمودا , قيل لي أيضا أن أبي لم يعترض على فعلها , بل كان موافقا تماما على ذلك , ليس لأن أبي ليس في حاجة لي أو إلى أمي, صحيح أنه في هذين الشهرين تزوج امرأة جميلة , أجمل من أمي على الأقل , ولكن لأن أبي كان يريد بالفعل ولدا يحمل اسمه , العجيب أن أبي لم ينجب من زوجته الثانية وقد ماتت قبل وصول أمي , وقيل أن أمي سحرت لها , فجعلتها تسير عارية في شوارع القرية حتى نزلت الترعة في ليلة معتمة ولم تخرج منها إلا جثة هامدة , كل هذا ولم تكن أمي قد عادت بعد من فاقوس .

-3 –

    عندما عادت بي أمي من فاقوس ، استقبلت في القرية استقبالا فاترا من أبي ومن أهل القرية على السواء ، فقد كان الناس يميلون إلى تصديق أنها السبب في موت زوجة أبي الجميلة ، أما أبي فلم يهتم وعاش حياته الرتيبة مع أمي ، في البداية فرح بإنجاب ولد يحمل اسمه ولكن فرحته لم تتم كما قيل لي ، إذ بدأ ينتشر اللغط في القرية وكثر الزن في أذن أبي ، قيل له أنني لست ابنه ، وأن أمي أنيسة أنجبتني من جني، وأني نزلت من بطنها يكسو الشعر جميع أجزاء جسدي و قالت الداية التي أولدت أمي أنني لم أبك مثل الأطفال عندما نزلت ، وأن الشعر كان يكسو جميع أجزاء جسدي ، وأن أظفاري كانت طويلة جدا وأنه كان لي ذيل قصير يكسوه الشعر أيضا , وباختصار شديد كنت مثل القرد ، ربما كان هذا الذي جعل الناس يدعونني مرة بابن أنيسة و مرات كثيرة بقرد أنيسة , لم يدعني أحد باسم أبي , فانتسبت منذ ولادتي إلى أمي أنيسة .

    كانت أمي تحملني معها أينما ذهبت ؟ أما أبي فلم يكن يهتم بي ، ولم أكن أهتم به أيضا , وأعجب ما سمعته بعد ذلك أنني لم أناد أبي أبدا بلفظ أبي , وقد تأملت السنوات القريبة منذ وعيت وأدركت ، فتيقنت أنني لم أدعه بلفظ أبي أبدا ، كنت عندما أطلب منه شيئا أزوم أمامه مثل الكلب , فيدفع لي ما أريد ،الآن مات أبي ، وتركني لأمي أنيسة ، التي رفضت الزواج من بعده ، صحيح لم تكن أمي جميلة,ولكنها لم تكن قبيحة أيضا ، و كانت تقول :” أن عين الرجالة على النصف فدان الملك اللى حيلتى ” مع أنها كانت قد كتبت لي هذا النصف فدان قبل أن يموت أبي .

-4 –

    عدت من المدرسة في ذلك اليوم , وجدت رجالا كثيرين يجلسون في صمت في ظل حائط بيتنا الطيني والبيوت المجاورة , أما النساء فقد تجمعن في مدخل البيت في جلابيب سوداء تجلس أمي وسطهم صامتة دون دمعة أو صوت وعندما رأتني أصدرت صوتا عاليا صمتت بعده على الفور , وارتمت على الأرض فى إغماءة طويلة ولم تفق منها على الرغم من محاولات النساء حولها برش الكولونيا وكسر البصل فوق أنفها إلا عندما جاء نعش أبي وحط أمام البيت ، لم أبك على أبي ، أحسست أن العيون حولي تنتظر أن أبكي , وفي الحقيقة حاولت أن أبكي فلم أستطع , كنت في الصف الأول الثانوي التجاري , لم أكن صغيرا , جلست بجوار الحائط وسط الرجال ، ومع ذلك لم يهتم أحد بي , ولم يعزني أحد , جاءت أخوات أبي من بلدة بعيدة ، كنت أراهن لأول مرة , نساء جميلات معهن أزواجهن , ولم يكن لأبي أخوة من الرجال أو أولاد عم في القرية أو حتى في البلدة البعيدة , ومع ذلك وجدت جميع رجال القرية وشبابها يسيرون في جنازته , سرت بينهم لا أكاد أشعر بشيء من حولي , وقفت على مقربة من القبر , أدخلوه القبر , وعاد الجميع إلى القرية لإقامة العزاء في المضيفة , بينما ظللت أنا في الجبانة بجوار قبر أبي حتى أظلمت السماء , لم أكن أخاف , قيل لي أنني عدت بعد انتهاء العزاء وأن أمي وكثيرا من رجال القرية أخذوا يبحثون عني ولم يتوقع أحد أنني جالس بجوار قبر أبي , وكان آخر ما فكروا فيه أن أكون هناك , كنت أضع رأسي بين يدي , وربما كنت نائما ، عندما سمعت لغطا بالقرب مني , مجموعة من رجال يقتربون مني , تقدم أشجعهم قليلا ورماني بحصاة صغيرة فانتبهت , ورماني بالثانية فصرخت ، قيل لي أنه كان يريد أن يتأكد إذا كنت من الإنس أم من الجن , جرى الرجل أمامي ، فقلت فى صوت كسول :

– فيه إيه يا عم مغاوري بتضرب بالطوبة ليه ؟

    فعاد الرجال ومعهم أمي التي تقدمت في شجاعة ولهفة وأخذتني بين ذراعيها وهى تكاد تحملنى من فوق الأرض ، تخلصت من ذراعيها القويتين فى خجل، وسرت بجوارها مطأطأ الرأس ، ولكنها كانت كل عدة خطوات تقف وتقبلني وعندما اقتربنا من المنزل حملتني بين يديها القويتين، وأغلقت الباب في وجه الجميع دونما كلمة شكر .