المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

الأدب المقارن- بين سوريالية سيلفادور دالي اللونية، ولوحات مظفر النواب الشعرية

 بقلم: د. علي عنبر السعدي

ربما لم يكن اندرية بريتون يهدف إلى تأسيس مدرسة أدبية: فنية، حينما أطلق مصطلح (سوريالية) على تلك الأعمال الشعرية أو الفنية مافوق الواقعية، حيث يذهب الخيال إلى أبعد مدى من الابتكار والدهشة لصور ومشاهد لامكان لها سوى في العمل الفني ذاته ولايمكن تصور وجودها خارجاً، لافي المحتمل ولا في الممكن أو المتوقع ناهيك بالواقع المجسد.
إنها تلك الصور التي لاتوجد إلا بذهن النص وحده أو اللوحة وحدها، ليست رمزية، بل صوراً مركّبة تتشكل خارج الوعي، الإحساس بالأشياء وفق تداعياتها، هو من يستخرج ويبتكر تلك الصور، ليس مزجا بين الحقيقة والخيال ولا تركيبا كيميائيا، بل إعادة خلق لوظائف الأشياء وعلاقاتها خارج أنساقها المألوفة أو المعروفة، كما يفترض أن تكون أنها خلخلة لجذر الأشياء الحسيّة، لتتحول من ثم إلى نبت غرائبي يثير الدهشة في تلك الفجاءة، كأنما تعيشها حلماً، لكنه قاب الحواس وملء النظر.
وقلبي على عجلٍ للرحيل)
بعيداً عن الزمن المبتلى.. يا سفينةُ)
يقول مظفر النواب، زمن مبتلى وقلب يستعد للرحيل على عجل- متهيئاً ينادي سفينة – ماذا؟

الأشياء هنا، مداميك البناء لهيكل الصورة السوريالية، تبدو واقعية حسية تماما، قلب وزمن وسفينة، لكن ما أن يهبّ عليها خيال الشعر، حتى تتبعثر لتجتمع من جديد وفق معطيات ليست بما عرفته عن نفسها أو عرفناه عنها، ليبدأ سيل من أسئلة تفتح مطارق الإيحاءات على اتساعها، كيف يرحل القلب عجلاً، ما الذي حدث، هو تشبه بأنف (غوغول) الذي غادر صاحبه كي لا يورطه بدسه فيما لا يعنيه؟ وهل القلب عرضة للرحيل دون الإنسان بداخله؟
لاشك إن الشاعر هنا يرمي بـ (القلب) بعيدا، ليستله من جانب آخر، يكسبه صفة مسافر أوشكت سفينته أن تغادر، فيسارع للحاق، لكن السفينة تريد الذهاب بعيداً عن (الزمن المبتلى) ليزّج نفسه في المشهد سؤال آخر، ماهو الزمن أولاً، ولماذا يبتلى؟ وبمن؟
هل التاريخ زمن، أم وقت شهد أحداثاً فاجعة، واكتفى بأن يكون متفرجاً حيادياً أو مشاركاً سمجا؟ وهل السفينة هي العمر، يرحل بنا إلى حيث يريد، رغم إرادتنا حيناً وبملئها أحيانا.
في الجانب الآخر، يحتج سيلفادرو دالي على الزمن، لكن على صورة وقت أو مايشير إليه، فيجعل من الساعات، أشبه بأثواب مبللة، مائعة – منشورة تنتظر جفافاً قادماً –لتتلاشى – وهي معطلة على أزمنتها.
الزمن عند دالي، ليس هو الوقت، لا إشارة للزمن سوى المطلق، والامتداد بلا نهاية، يترك على الأشياء – كل الأشياء – بصماته التي لا تمحى، الزمن كون وكائن، غير مرئي في الحواس، لكنه محسوس درجة الكارثة.

أما الوقت فهو ذلك الجزء من الزمن الذي نجعل له درجة قياس كي نضبط احتياجنا إليه، ونحدد وسيلة استخدامه..
لقد تعددت الساعات الممطوطة في لوحة دالي، وكل منها ممدداً على ما أراد إيصاله أو الإعلان عنه، فساعة تتهدل على شجرة يابسة عارية من الأغصان، في إشارة إلى معنيين، الزمن بتأثيراته وانعكاساته، والوقت بانهياراته أو تبدلاته، فالشجرة يبست وماتت لا بفعل الوقت المتهدل فوقها والميت هو الآخر وليس من أمل في إحيائه، بل بفعل الزمن الخالد الذي لا حدّ لخلوده، ولا قدرة على الإمساك به، إنه الإله غير المرئي، يتجلى في موجوداته، لا في صفاته حصراً، بدلالة إن الوقت يتبعثر على تلك الموجودات الخاضعة للزمن – بقايا لكائن أراده ان يكون مشوهاً، إنساناً أو حصاناً أو مخلوقاً منقرضاً، يتداعى بدوره على كائن آخر يشبه أن يكون جماداً، فيما ينهدل وقت آخر على صخرة بأبعاد هندسية منتظمة تقف فوقها الشجرة الميتة، إنه الوقت المبعثر جزءا من ضحايا الزمن/ الإله، لقد تعمد دالي في ترك الأشكال توحي بمعان متعددة كي يظهر أن لاشيء منها يمتلك قيمة بذاته بمعزل عما يحيط به لتكتمل من خلالها دورة الحياة.

في المقابل، يتعامل مظفر النواب مع الزمن، كونه مطلق في تقلباته، خالد لا يباد ولا يترهل أو يشيخ، فهو الفتي يعاود الحضور رغم مروره بتعاقب العصور ((يا لهُ من زمانٍ مرَّ بين ألفٍ من السنواتِ الفتيةِ)) لكن الزمن عند الشاعر، هو حالة متجلية في نفسه وأمانيه (عن نورسٍ صاحبُ الروحِ في زمن البرقِ) هنا الزمن لحظة خاطفة رافقت البرق ثم تلاشت، كم تبدو المفردات أليفة وقريبة من النفس النورس طائر يرافق الشواطئ في احتفالها، لكن الشاعر جعله صاحباً للروح الصادحة كما يفعل نورس، وإن كانت لحظات السعادة لديه يكتنفها قصر كما ومضة برق.
لكن الزمن عند دالي، لن يتوقف هنا، في وقت يموت أو يترهل، بل يعاود الظهور في سفينة تقتحم اللجة وهي تسير بأجنحة الفراشات على شكل أشرعة كم تنوء الفراشات بمهمة كهذه، انها تكابد الريح بإشراقه أجنحتها ورقّة اللون فيها، لكن عليها دفع سفينة الزمن في مطلقه أو الحياة بثقلها، لتمخر يمّاً ينوء بأمواجه، فيما تؤمي كائنات شبحية، تنتعل الشواطئ، في إشارة تروح وداعاً أو تأتي طلباً برفقة السفينة/ المشتهاة برفيف أشرعتها من الفراشات، ذلك هو إنسان الوقت التائه في الزمن، اعتقاداً منه بصحبة ما، قد تؤجل مصيره القادم ولو على أجنحة فراشة.

(الصباح) في لوحات دالي وشعر مظفر

الزمن الذائب الذي جسدّه دالي في ساعاته المائعة، تلك التي استمد فكرتها من رؤيته قطعة جبن أذابتها شمس الظهيرة في يوم قائظ، لم يجعل دالي يأخذ الزمن والوقت بشكل كلي عام، بل وجه عنايته لذلك الجزء من اليوم الذي يمثل الخط الفاصل بين جدليتي النور والظلام، فهو رغم قصر ظهوره زمنياً، إلا إن رمزيته العالية في كونه بداية يوم ونهاية آخر، جعلت تناوله في الأعمال الفنية والشعرية حالة شبه دائمة الحضور، حيث يكثر استخدام مفردة (الصباح) سواء في الحياة اليومية حيث التفاؤل يعبرّ عنه بـ (صباح الخير) أو في النصوص الأدبية، فلا يكاد يخلو نصّ من كلمة الصباح، وكأنها (بسملة) لازمة، لابركة للنصّ من دونها.
الصباح ليس شكلا محددا نريد أن نراه أو نتعرف إليه مشخصناً، إنه كينونة، معنى ورمز حياة – كينونة وليس كائناً – إنه تلك التحولات اليومية في حياة الإنسان -الأمل والتفاؤل – التشاؤم والحزن – فرصة جديدة لعلها أفضل – حب يأتي أو آخر يذهب – انعكاس مشهدي وتوتره في النفس- لمسة أو تنهيده أو ارتياح أو غضب – تلك القضايا الصغيرة من اليوميات نرتكبها دون انتباه – ماينعكس من إشراقة في الروح حين ننهض من نوم قلق أو هادئ، افتتاح يوم بافتتاحة عين، فهل نبحث عن معنى محدد في مخاطبة الصباح؟؟ لو كان هناك معنى مشخصن، لما استمرت المناجاة بشكل تتزامن فيه مع وقت بعينه يفعله زمن قادم ولد من زمن مضى…

لو رأينا الصباح هكذا، لما كان احتياجنا إلى البحث عن المعنى في النص ولا رأينا فيه غموضاً أو إسراراً يكتنفها غموض، إنه مجرد حديث مع النفس وما جمعته أو التقطته، تبثه على شكل إشارات تتدفق دون انضباط ومن دون أن تتخذ شكلا محددا، لكنها كذلك تبني نفسها لتشكل حزمة مما تريد قوله، حمل صوراً محددة او مشاهد تجتمع لتشكل تصورا – موزاييك من الفكرة تشكّل لوحة، قد لا يكون هناك معنى في كل قطعة مشهدية على حدة، لكنها باجتماعها ترسم لوحة، تماما كما تجاور ألوان في لوحة سوريالية، قد يكون كل منها ينقصه المعنى فيكتمل بغيره، لكنها تقع بين الصورة والتصوّر.
هنا ينبغي البحث عن مضمون وليس عن معنى بالضرورة، عما يراد الإيحاء به، وليس الإعلان عنه، إن الفارق بين المعنى والمضمون، كالفارق بين الوزن والكتلة في الجسم، فالكتلة تعني مقدار مافي الجسم من مادة، وهي ثابتة لا تتغير، أما الوزن، فيكون عرضة للتغير بسبب الجاذبية أو العوامل المحيطة.
المضمون كذلك هو مايحتويه النص بذاته، أما المعنى فمتغير بحسب المتلقي، وفيما يبقى المضون متمركزا في ذات النص، فإن المعنى يتبعثر حسب القراءات للنص لذا فالمعنى هنا يكون أشبه بأبخرة يطلقها المضمون على هذا المبنى، يمكننا الدخول في عوالم لوحة دالي الموحية بالصباح، وقد رسمها بالأسود والأبيض وهي من اللوحات النادرة التي يقتصر فيها على استخدام تينك اللونين.

اللوحة تظهر الصباح على شكل وجه إنساني أنثوي الملامح، مازال يكتنفه مسحة من ظلام، لكن اندماج الظلمة والضياء يتجلى في تينك العينين الناظرتين بوداعة واستغراب نحو المجهول، فيما تدفق الضياء الصباحي في أعلى اللوحة المؤطرة بظلام قاتم رغم موجة من ضياء خافت تجتاحها من جانبها، وهناك شكل لا يلاحظ دون التدقيق، أنها لأم تجلس باستقامة تحدث خيال طفل.
سيلفادور دالي في هذه اللوحة، لا يمارس هوايته في قلب حقيقة الأشياء، إذ تبدو اللوحة شديدة الواقعية ظاهرياً، لكن جعل نهاية ذلك الأنف الجميل المستقيم، والشفتين المكتنزتين، بمثابة رأس للمرأة الأم وظهرها، أما عجيزتها، فقد كانت بمثابة ذقن لذلك الوجه الإنساني الذي ربما رسم به وجه (جالا) زوجته التي طالما هام بها عشقاً.

اللوحة شديدة العذوبة والجاذبية تجبر مشاهدها على التأمل فيها مليّاً، فهي إضافة إلى جمالها الأخاذ، فإنها تمثل خلاصة فلسفة دالي في نظرته إلى الحياة بدءاً من ذلك الوقت من اليوم (الصباح) الذي احتفى به في تلك اللوحة، فجعله يطلق في النفس خيالات متفائلة وعوالم من الجمال.
مظفر النواب خصص للصبح قصيدة مشبعة بالمترادفات من الصور السوريالية المتلاحقة التي تكاد تحبس الأنفاس، والأطرف إن مخاطبة الصباح فيها، تأتي إلى ذلك الطائر العاجز عن الطيران، فمهمته تقتصر على إيقاظ النائمين في بواكير الفج، وفي الأسطورة السومرية، إنه حارس تموز أمره ألا ينام حين موعده مع عشتار كي لا يراه شمش وهو يصعد نحو السماء، لكن الحارس أصيب بإغفاءة قبيل الفجر استمرت حتى ظهور الشمس، ماجعل تموز يحكم عليه بأن يوقظ النيام أبد الدهر.
يقول النواب قي قصيدته:

ياديك صلاة الصبح – أخطأت فلم تجر مراراً- وتوهمت قناديل كؤوس الخمر من شوقي في ألحان نهارا- وأخذت النجمة تستل كؤوس الصبح والنازل بالخمرة جارا.

إذا الديك يكرر فعلته كل صباح، يوقظ النيام لكن من مكانه دون حركة، لذا يسخر منه النواب في إشارة إلى مايفعله بعض السياسيين الذين لا يجيدون من السياسة سوى تلك المهمة البسيطة التي يؤديها الديك، لكن الأكثر مدعاة للطرفة حين يخطئ في مهمته تلك، فيتوهم أن انعكاس ضوء القناديل المنبعث من كؤوس الخمر، هي ضوء نهار، في مفارقة، ثم يواصل رسم صورته الغرائبية فيلقي على عاتقه بمهمة تتجاوز مايستطيع فعله، إنه يجير نجمة لتستل له كؤوس الصبح فيجاوره في الثمالة.
يصل التشكيل هنا ذروته، فكل شيء يبدو ممتزجاً في كل شيء آخر، لكن الشاعر في كل ذلك، يرسم وجهاً انسانياً للديك، يجعله رفيقاً للصبح والشاعر على السوا، فكلاهما يثمل مثله.
نقاط الالتقاء بين مظفر النواب وسليفادور دالي متعددة الوجوه وإن اختلفا في طريقة التعبير عند كل منهما، فالنواب واحد من أهم رواد السوريالية في الشعر العربي، إنه بمثابة سليفادور دالي رائد السوريالية في الرسم، تتجلى مشهدية النواب في تلك اللوحات الشعرية التي تتجاوز ماهو مألوف رغم استخدامها لمفردات متداولة، لكن إعادة تشكيل تلك المفردات ومن ثم بنائها بطريقة تجعل من علاقتها مع بعضها عالما آخر مما هو خارج دائرة (الوعي)، تنتمي بذاتها إلى ذلك العالم مابعد الواقعي، فيبدل ليس في وظائف الأشياء وحسب، بل في مهمات الحواس الخمس وما يمكن أن تستوعبه وتعيد تشكيله وفق ما تراه وينتقل من ثم من عالم اللاشعور، إلى عالم الانطباع والإيحاء.

الحالة ذاتها يستخدمها (دالي) في لوحاته، فيوظف الأشياء حسبما يراه بعوالمه الخاصة المثيرة للدهشة أو بما تعكسه كوابيسه أو أحلامه، فإذا الساعات تسيل وجسد الرجل تمزقه الأشرعة، ويربطه الموج بحال غريبة، ليجعل مخيلتك تلتهب في محاولة تتبع المعنى الكامن خلف تلك العلائق غريبة التكون بين البحر والأشرعة والإنسان الخارج من رحمها والمقيد بها في الوقت عينه. ما الذي أراده دالي من لوحته تلك؟ حين جعل الإنسان يحمل على كاهلة بقايا سفينة لم يبق منها سوى أشرعتها، الغرابة تبدو في شكل الأشرعة التي تظهر بكامل جهوزيتها معبأة بالرياح ،لكن ذلك لم يستطع إنقاذ السفينة الغارقة التي لا يكاد يظهر منها شيء سوى ذلك شبه الإنسان المتكون من جزء من الأمواج والسفينة وامتداد للأشرعة يحملها ومكبل بها، ليس سوى ساقية تبدو سليمة رغم أنها تنوء بحملها ولا تعرف لها اتجاها.

تلك هي مأساة الإنسان في كل زمن ومكان، كل شيء عبثي، لا يستقيم على منطق ولا يخضع لحساب، الإنسان وحده يتحمل العبء فيما هي الحياة بتناقضاتها ومفارقاتها، تربض بكل عبثيتها فوق ذلك الإنسان الذي لايبدو كذلك بشكل سليم. في لوحة دالي، هناك عالم وجودي يتكثف في لوحة دالي حيث الأشياء تكتمل ببضعها كما تتنافر مع بعضها، إنها جدلية الوجود في وحدة وصراع الأضداد، ذلك القانون الكوني الذي يحكم الوجود بصرامة لا يبدو الفكاك منها متيسرا، لذا تبدو مأسأة الإنسان الباحث عن معنى وجوده ودوره في هذا الكون وهو أضعف الموجودات بينها، حيث لا يملك مصيره ولا مساره، فهو يأتي إلى الحياة قسرا ـويخرج منها قسرا كذلك من دون أن يمتلك خيار تأجيلها في الحالتين، ذلك ما جعله ومنذ وجوده على الأول على الأرض، يبحث عن طريق الخلاص بلاجدوى، فاستسلم لقدره رغم مصارعته الحياة كي يكون فيها فاعلاً وإن في تلك الفسحة القصيرة التي تمنحها لها الحياة المسماة (عمر) لكن في وقت تبقى الأشياء التيار التي ارتبط بها الإنسان بعلاقة متينة، على حالها، تكاد تكون خالدة، فإن الإنسان وما صنعه (السفينة والأشرعة) هي وحدها المعرضة للفناء والغرق، فيما تبقى ماصنعته الطبيعة أو الله (البحر والموج والريح)، خالدة على حالها تسخر مما يقوم به الإنسان من محاولات عبثية للاندماج معها أو جعلها في خدمته.
في المقابل، يرسم مظفر النواب لوحته الشعرية ليجعل الأشياء تمارس لعبتها بغير قيود

(ومرت كل شموعك من تحت الجسر
وأوغلت كثيراً في البحر
ولما قارنوا أغمضت جفني على البحر)
وسلمت على الطحلب والصمت احتراما) الشموع هنا لا تأخذ صورة تلك الأشياء الضعيفة التي لاتملك رداً لاحتراقها، ولا فائدة منها سوى بالاحتراق كي تمنح بعض الضياء لقهر الظلام أو مواجهته وإن لأمد محدود كي تكمل ذوبانها، لكن الشمعة في صورة مظفر النواب، هي الإنسان ذاته، فهناك سقف بمثابة جسر يلعب دوراً مزدوجاً، انه في جانب، يتقدم بصفته وسيلة للعبور (جسر)، يحتمل ثقل العابرين نحو أمكنة أخرى، بل وأزمنة مغايرة تحمل مصائر للعابرين ربما يرجون منها أفضل مما تركوه خلفهم، إذاً حياتك كلها أيها الإنسان – شعرت بذلك أم لم تشعر- بمثابة ضياء خافت يعبر من تحت جسر في رحلة ليست طويلة بما يكفي كي تترك أثراً، لكنها مع ذلك توغل في البحر، ذلك الغامض المجهول الذي يحوي عوالم متنافرة ومتصارعة، لكنها متعايشة كذلك، في عودة إلى جدلية (وحدة وصراع الأضداد). يغمض الشاعر جفنه على البحر، هل غاض البحر في جفنه، أم اإن البحر يفترس جفنه كغريق مازال يحلم بليلة هانئة تمنحها الحياة؟

ذلك سؤال لم تجتمع إجابته، حيث يتركها الشاعر معلقة على أبواب الاحتمالات المتشعبة. لكن من هم الذين قارنوا؟ وما هي أوجه المقارنة؟ تلك التي ألزمت الشاعر أن يغمض جفنيه على البحر؟
لن نتوقع أنه قصد المقارنة بين حياة البشر وحياة البحر، فالأخير خالد أزلي، والإنسان فان زائل، لذا أغمض جفنيه على ماهو خالد أزلي، ربما كي يشاركه بعض خلوده كما حاول جلجامس البطل الأسطوري الأول، أن يبحث عن عشبة الخلود التي لم يستطع نيلها، ليصل من ثم إلى القناعة المطلقة بأن لا خلود للإنسان وإن بقي ذلك طموح معلق بأهداب الغيب ووهم الأمنيات.
وحدة الوجود السوريالي عند سيلفادور دالي، ظهرت في معظم لوحاته، فما نادى به المتصوفة عند العرب من ابن عربي والحلاج والجنيد وابن الفارض، وفلسفة جان بول سارتر والبير كامو وغيرهما من فلاسفة الوجودية في الغرب، وذلك في أعمالهما الفكرية والأدبية، جسده دالي فنياً في تلك اللوحات المبهرة، ففي لوحة له، أظهر رأساً عملاقاً لإنسان جاحظ العنين يرتمي على رمل الشاطئ، وخلفه تبدو مايشبه الأشجار وكأنها شعر للرأس، فيما تندمج الأشكال الشبحية في مشهدية تؤكد ما تريد اللوحة التعبير عنه من (وحدة الوجود) بكل مكوناته وأشكاله، وربما قصد دالي في القول من ذلك الرأس الضخم مقطوع الجسد، إن الإنسان مهما أعتقد عن محورية دوره وحجم ذلك الدور، فإن مصيره التلاشي في مكونات الوجود ومن ثم العودة ليكون جزءاً منها.

مظفر النواب بدوره، يذهب في الاتجاه عينه، فيربط شعريا بين مكونات الطبيعة جمعاً محكماً ليجعل منها كلا واحداً في إيقاعات متناسقة متجانسة:
ومن جمع اللؤلؤ والأضواء وأصوات البحر
خيطٍ لحبيبته –
أبقاها خافتةً
ذلك العاشق في لوحة مظفر النواب الشعرية، يجمع الأجمل من عناصر الطبيعة، لكنه ليس جمعاً آلياً بين عناصر مادّية، فإذا كان اللؤلؤ يمتلك حضوراً مادياً كامناً في عمق البحر، ويعكس الأضواء بمجرد رؤيتها، انعكاساً هو أقرب للعناق بين عاشقين، فالضوء المنعكس المتلألئ يبدو خارجاً من قلب اللؤلؤة كجزء من تكوينها الحسي، لكن الشاعر لم يكتفِ بذلك الجمع الملتقط بحساسية شعرية عالية، بل يضيف إليهما (أصوات البحر) لتكتمل سيمفونية اللوحة الشعرية حين يلظمها بخيط لحبيبته، ولكي لا تتسبب أصوات البحر الهادرة وانعكاس الضوء الساطع من جسد اللؤلؤ، بما يقلق الحبيبة، فإنه يسيطر على تلك العناصر ليبقيها خافتة. لكن الشاعر المولع بعوالم السوريالية، يواصل انعطافته نحو العبث بالأشياء وإعادة تشكيلها، فيقول:

أنت والصحب السكارى عطر ردني
سقط الزر عليهم قمرا
وتدلى سلما خيط حرير
مس من طاولة الخمرة أعصابا
سكارى نحن واللوحة هذه.
الشاعر هنا يذهب بعيداً في رسم عوالمه التي تبدو هذياناً لا يخضع لعقل، لكنه ومن ذلك الهذيان تتكون عوالم الجمال، رغم أنّ الشاعر يعترف بشكل مباشر أنه واللوحة والسامرون، يعيشون تحت حالة من النشوة بفعل السكر الذي لا يهم كثيراً أن كان سكرا فعلياً تفعله الخمرة، أم سكراً شعريا يكونه تخيل تلك العوالم الرائعة التي تعلن الموهبة عن حضورها.
الصحب السكارى، هل هم أصحاب حقيقيون؟ أم الحروف التي تتراقص أمام أنظار الشاعر مطالبة بارتكابها فعل القصيدة؟ لأنهم في كل حال إنما يشكلون عطراً الردن، أي طرف الثوب الملامس للرسغ من اليد، تلك التي تلامس الأشياء فتنقل النشوة للجسد في لعبة الحواس، أما الأزرار التي تستر الثوب وتمنحه رونقاً، فإنها هنا تتساقط مثل أقما، أو ربما تساقطت عن أقمار حين كشفت ماخلفها، ثم تدخل صورة مفاجئة أخرى ربما لتكسر ماقد يبدو من رتابة تصويرية، فقد تدلى خيط حرير بمثابة سلم يهبط عليه ذلك المتحول قمراً، ليمسّ الأعصاب المجتمعة حول طاولة الخمر، ليسكروا هم واللوحة التي ربما قصد بها نادلة الحانة أو راقصة حسناء لعبت بخيالهم بجسدها اللدن، ذلك مايحيل إلى ملحمة جلجامش حين خاطبت (سيدوري): صاحبة الحانة، البطل الأسطوري الأول في التاريخ:

يا كلكامش إلى أين أنت سائر
لن تجد قطّ الحياة التي تنشد
فالآلهة حينما خلقوا البشر
كتبوا عليهم الموت
واحتفظوا بالخلود لهم
يا كلكامش دعْ معدتك تكون ممتلئة
وانشرحْ ليل نهار.
فليكن بطنك مليئا على الدوام
وكن فرحا مبتهجا نهار مساء
وأقم الأفراح في كل يوم من أيامك
وأرقص وألعب مساء نهار
وهذا هو نصيب البشر.
لوحة (تحولات نرسيس المسخية)1937
لم تغب الأسطورة بما هي عليه من فنّ رفيع، عن اشتغالات دالي واهتماماته، لكنه أضفى عليها من تهويماته ما أعاد صياغتها على شكل فلسفي وجودي كان دائماً هاجس دالي ومحور فنه.

نرسيس في الأسطورة الإغريقية التي اشتق منها مصطلح (النرجسية) وتعني عشق الذات أو حب الذات المرضي، تروي عن شاب جميل الصورة درجة وقع فيها بغرام صورته حينما رآها منعكسة على صفحة الماء، ولم يستطع بعدها الفكاك من إدمان النظر في الماء كي يعانق صورته التي هام بها عشقاً، وتقول الأسطورة أن ذوى بعد ذلك وسقط في الماء فغرق، إلا انه تحول بعدها إلى زهرة النرجس الحزينة التي بقيت مجاورة للأنهار تنظر إلى صورتها منعكسة في صفحة الماء، وقد استخدم رائد التحليل النفسي سيجموند فرويد، تلك الأسطورة في وصف مرض حب الذات المبالغ فيه مطلقاً عليه مصطلح (النرجسية) حينما رسم دالي تلك اللوحة، كانت النازية في ذروة صعودها وقوتها، وقد اجتاحت الجيوش الهتلرية الكثير من البلدان، وكان هتلر المعجب بذاته يبدو مشابهاً لنرسيس وهو ينظر صورته منعكسة على أعلامه بصليبها المعقوف (الزوبعة) وجيوشه الجبارة التي بدت حينها إنها لاتقهر، يقابله في إيطاليا البلد المجاور زعيم نرجسي آخر هو موسوليني وحزبه الفاشي الساعي إلى بعث مجد إمبراطورية روما الجبارة التي حكمت أمماً وشعوباً شتى.

كانت لوحة دالي (تحولات نرسيس المسخية) قد اعتمدت التلاعب بالحواس، ففي الوهلة الأولى يخيل إليك إنّ هناك شكلين أو نسختين لما يبدو إنه إنسان ينظر إلى انعكاسه على صفحة بركة ماء صقيلة أشبه بمرآة، لكن صورته تبدو الأكثر تشوهاً وضآلة قياساً بالأشياء الأخرى المحيطة به، رغم أنّ الجسد النرسيسي يحتل مساحة في اللوحة إلا أنها مطوقة بعناصر الطبيعة الحجرية بمعظمها، بل الغيوم كذلك منحها دالي مظهراً حجرياً كما رأس التمثال وأعضائه.
في موازاة ذلك،يبدو تمثال رمادي يشابه للوهلة الأولى تمثال نرسيس بلونه الذهبي – في إشارة إلى عصر النازية والفاشية الذهبي آنذاك – الخداع البصري الذي يمارسه دالي في اللوحة، سرعان ماي نكشف عن مغايرة بين التمثالين، إذ ما التمثال الرمادي إلا انعكاس مشوه لنرسيس، وربما كانت الإشارة واضحة هنا للاستنتاج بأنه قصد موسوليني الذي كان بمثابة ظلّ لهتلر رمادي الملامح لا يشابه الأصل وإن بدا كذلك للوهلة الأولى.
في الزاوية البعيدة من اللوحة، تبدو رقعة شطرنج ضخمة، وفي مسافة منها، تجمعت أشكال بشرية تبدو عارية وهزيلة، وكانت تلك أشبه ببيان إدانة صيغ بلغة كابوسية بملمح عبقري، فقد قالت اللوحة كل ما يمكن استنتاجه عن إدانة الحرب والزعماء الذين كانوا يعتقدون إن الحياة طوع أيديهم وقوتهم وحدها قادرة على أن تجعلهم يخلدون، وأنهم يتصرفون كمل لو أن البشر أحجار على رقعة شطرنجية يحددون مصائرهم وفق مشيئتهم.

النرجسية مرض يجعل الكائن البشري لا يرى إلا نفسه ومن ثم يتجاهل مايحيط به من معطيات، وهو في ذلك يمارس لعبة (خداع الحواس) كما جسدّها دالي بلوحته الشهيرة، حيث الأشياء تبدو على غير حقيقتها.
بلغت نشوتها الخمرة في خديك
نثر الورى في كأس الندامى
في مقابل ذلك، يرسم مظفر النواب لوحاته بألوانها الشعرية على صورة مغايرة، إنه نرسيس من نوع آخر، يرى انعكاس صورته في المحبوب، ذلك الذي تنتشي الخمرة من خديه، وينثر الورى كأس الندامى من عطره، فالمحبوبة تمتلك من الحسن مايفوق الصوف، فهي:
ولها جسد مزجته الآلهة الموكولة بالمزج
فبالغ بالطيب وأربى بالحسن عليها … إرتبكت
إنها لا تتوه عشقاً بنفسها، ولا تفعل كما نرسيس يدمن النظر إلى صورته على صفحة الماء، كذلك هي ليست تلك الحسناء (ايكو- الصدى) التي عشقها نرسيس حسب الأسطورة، بل ترتبك من الحسن في جسدها التي بالغت آلهة الجمال في مزجه من الطيب، لذا فهي عشتار في ما وهبت من جمال، لكنها ليست فاتنة لعوب كما هي آلهة الجمال البابلية، تلك التي راودت جلجامش عن نفسه من دون ارتباك أو خجل.

وعلى رغم أن الشاعر يجعل الأشياء أليفة قريبة، إلا أن انثيالات الذاكرة الشرقية تلعب دورها محورياً هنا، فالنرجسيته الشعرية لاتترك مجالا سوى لبطل أسطوري (شعّف كل بنات الحيّ وصاغ من حبات الدمع فراشات عمياء) في عودة إلى جلجامش الذي كان يسلب العذراء عفتهن في الليلة الأولى لزواجهن، لكنه يبقى حزيناً دوماً حين لم يستطع نيل الخلود. لكن المحبوبة هنا مكتملة الطهر إذ تكفلت الآلهة بمزج جسدها فهي:
حبيبتي… أشم زنديك العروسين
وعقم الليل في فراشنا
والهمس
أنا أرى باللمس
ما عاد غير اللمس
لكن اللمس في موضع آخر، يدعو الشاعر لينعو الأيام بما فعلته (علكة بغي ألصقته الأيام بقلبي) البغي تلك المرأة الخارجة عن النواميس الدينية والاجتماعية، منتهكة الجسد، فاقدة المكانة، ترافق العلكة في فمها، تمارس من خلالها نوعاً من الانتقام المعنوي أو رد الاعتبار لذاتها المنتهكة، لذا تدور العلكة في فمها وكأنه تعلك أيامها الذاهبة دونما أمل بحياة أفضل تتضمن استقرار في كنف أسرة تمنحها الأمان والحياة السوية كما أية امرأة أخرى.

تلك العلكة الدائرة في فم امرأة أنهكتها الأيام، وتمثل رمزاً للانتهاك الصارخ لأنوثتها وإنسانيتها، لابد إنها تشكل ما تعافه النفس، لذا يطلق الشاعر تلك الصورة غير المعقولة حينما تلصق الأيام بقلبه (علكة بغي) وكأنما بانتهاك مقصود لمشاعر حب يختزنها في قلبه، فتصبح تلك العلكة أشبه بشمع أحمر حين يختم على الأشياء كي لا يجري رؤيتها أو الدخول إليها.

دراسات نقدية