المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

الالتزام في الأدب

علي محمد اليوسف

 أوصل صدى ما طرحه سارتر حول الالتزام بالادب في نهاية الستينيات من القرن العشرين إبان إزدهار الفلسفة الوجودية الفرنسية ان بادر الكاتب الروائي الكبير سهيل ادريس صاحب مجلة الاداب اللبنانية بداية السبعينيات دعوة عميد الادب العربي طه حسين تلبية رغبة اتحاد ادباء لبنان القائه محاضرة حوارية نقاشية امام بعض الحضور من ادباء ومثقفي لبنان يناقشون فيها معه مسالة الالتزام بالادب من وجهة نظر فلسفة سارتر. لا اعتقد تم تنفيذ الدعوة. في محاولة رفض الادباء والفنانين والشعراء العرب تحديدا اتخاذهم موقف المعاداة في الزام الاجناس الادبية والفنون من غير الفلسفة تبني ثيمة الالتزام بالانسان والحياة علما ان مناقشة الالتزام بالفلسفة ليس واردا اطلاقا والى يومنا هذا. خاصة بعد هيمنة فلسفة اللغة على المشهد الفلسفي عالميا واصبحت الفلسفة الاولى منذ منتصف القرن العشرين. بعد ازاحتها لفلسفة مبحث الابستمولوجيا.

تعقيب توضيحي حول فهم الحداثة العربية الماخوذة عن الغرب إذ بقي تمسك ادبائنا وفنانينا بالحداثة الاوربية كموضة استهلاك مهووسة وليس كضرورة حياة عربية معاصرة نحتاجها. الى ان جاء عالم اللغة باختين في مقولة موت المؤلف ليعقبه في نفس المقولة رولان بارت احد ابرز فلاسفة البنيوية الفرنسيين في تكراره موت المؤلف فسقط بايدي مستنسخي الحداثة الادبية الغربية من قبل الادباء والفنانين العرب في استقتالهم بناء امجاد انفرادية بعيدا عن هموم المجتمعات العربية باستثناءات بقيت مغمورة مهمشة لحين وفاتها ودفنها مع اصحابها.

تجريد الفلسفة اللغوي وإن كان يلتقي معه لغة التعبير التجريدي في الاجناس الادبية من شعر وقص ورواية ونقد الا ان ذلك يبقي على انفصال تجريد تعبير لغة الفلسفة لا يلتقي تجريد لغة الاجناس الادبية في ثيمة الالتزام بمعناه الانساني السيسيولوجي قائما حضوريا عبر احقاب تاريخية من عصور الفلسفة.

الاجناس الادبية وإن كانت ايضا تجريدا لغويا لكنها مقارنة مع تجريد لغة الفلسفة في التعبير تصبح الاجناس الادبية التزاما واقعيا في حياة الانسان حتى وإن طغى المخيال الادبي اللاشعوري على لغة الاجناس الادبية. تجريد تعبير اللغة فلسفيا تجريد منطقي في مرجعية وصاية العقل عليه. بخلاف تجريد لغة الاجناس الادبية الذي هو تعبير لغة اللاشعور الخيالي متداخلة مع احساسات الواقع المادي الانساني وغير الانساني في الطبيعة.المفارقة كانت في محاولة بعض الفلاسفة ربط الفلسفة بالعلوم الطبيعية تارة والرياضيات والفيزياء تحديدا تارة اخرى ولم يفكروا ربط الفلسفة بالادب في ثيمة الالتزام أو ثيمة الجمال في صنوف الادب والفن كموضوع فلسفي وليس اندغاما تكوينيا بالسرد الفلسفي.. علم الجمال في الفنون التشكيلية قاطبة هو علم الفن قبل ان يكون علم الفلسفة رغم ان كليهما الفلسفة والفن تجريد تعبيري مختلف بوسائل تواصله مع المتلقي رغم النخبوية الاستقبالية الواحدة التي تجمعهما معا. الفن الجمالي في الرسم والنحت والتشكيل الفنتازي والشطحات المدرسية المتفردة في مثل الرسم بالافكار وبالمفهوم قبل جمالية الصنعة الحرفية الفنية. لا يلتزم حياة الانسان بالوجود كما هي الفلسفة تماما. السبب ان لغة الفلسفة التجريدية لغة متعالية على مفهوم لغة التداول ولغة الكتابات الادبية والثقافية فهذه الاخيرة تتمكن من تمرير الالتزام لانها لغة مقارنة بغموض لغة الفلسفة يمكنها اي الاجناس الادبية تمرير ثيمة الالتزام بالادب لانها تخاطب واقع الانسان في جميع مناحي حياته. وهو ما لا تتمكن منه لغة الفلسفة العصّية على التلقي والاستقبال والفهم المباشر. بما يخص فلسفة الجمال بالفن لا تلتزم معالجة الواقع والحياة, بل كانت افكارها مستمدة من عالم الذاكرة والخيال واللاشعور وتختلف مع الفلسفة بمنطق اللغة المفصح عنها. بينما تكون لغة الجمال والفن وليس لغة التنظير لهما هي لغة التموضع التكويني الكامن في اشكال التعابير الفنية الجمالية التي يستقبلها المتلقي بعاطفته الجمالية قبل عقله. المقصود هنا تذوق المتلقي للوحة المرسومة او القطعة المنحوتة.

لذا تكون تهمة الفلسفة انها ترف الطبقات النخبوية المتعالي بضمنهم بعض المثقفين والفنانين الذين نعيش تطرفهم اللغوي وتعبيرهم التجريدي بالادب والفن وخاصة بالشعر الموغل بالابهام والغموض في بعضه بما يلغي حضور الفهم والاستيعاب الجماهيري لما يعبّرون عنه في محاولتهم الالتقاء مع ماتقوله الفلسفة من ابهام تجريدي لغوي عصي على المتلقي. وهو امر وارد واقع نعيشه.. والاكثر عصّيا على الاستقبال هو فن التجريد في الرسم او ما يسمى الفن المفهومي الذي تكون اللوحة فيه تعبيرا عن مفهوم وليس تعبيرا عن تجريد لغوي كامن باللوحة يتقبل التاويل. كما نجده في اعمال بيكاسو في مراحله الفنية خاصة في مدرسته التكعيبية. الفن المفهومي هو التعبير عن الافكار بغير وسيلة اللغة بل بوسائل الصنعة الجمالية الفنية.ربما يبدو غريبا ان يشغل طرح قضية الالتزام بالفلسفة غربيا اوربيا قبل قرنين من الزمان مقارنة مع ما ساوضحه لاحقا عندنا عربيا . الالتزام بالفلسفة سابقة لم يشهدها تاريخ الفلسفة لعقود تاريخية طويلة ماضية لاسباب تجعل من الاجناس الادبية قبل الفلسفة فعاليات يتوزعها الاهتمام الشعبي الاستقبالي الواسع كون الاجناس الادبية بعد منعطفها الحداثي عربيا المتاثر بالحداثة الثقافية الاوربية ما جعل ايديولوجيا الاحزاب السائدة عندنا عصرذاك تتقاطع مع ثقافة الادب والاجناس الثقافية الاخرى وتقف مختلفة معها بفواصل عقائدية دوجماطيقية بين مستويين احدهما رفض الالتزام بالادب عموما كون الاستجابة لهذه الدعوة هو اعطاء مشروعية الايديولوجيا السياسية للاحزاب السياسية المتزمتة تطويع مجمل الثقافة حق السياسة الوصاية على الشعر والاجناس الادبية الاخرى مثل القصة والرواية وبعض الفنون التشكيلية التي فقدت ملامح الهوية العربية بالانغماس غير المتحفظ الواعي بالصرعات الفنتازية الاجنبية الحداثية كما وردت في السريالية والبرناسية والدادائية وفي الحداثة التجريدية في فن المفهوم وادب اللامعقول مؤخرا. ولا يعني هذا التعميم انه لم يجر التزام ادبي خاصة بالشعر الجديد والرواية العربية في تمرد جريء مناوئ الايديولوجيات العربية بكافة اشكالها التضليلية واستغفالها الجماهير في التسلط ونهب خيرات تلك البدان العربية في تواطئها مع الانحرافات الحزبية المتتالية التي تقودها التدخلات الاجنبية التي جعلت من فقر وجهل وقطعانية الاذعان في المجتمعات العربية ظاهرة لم يسبقها مثيل.

وفي ضروب الثقافة الغربية الاجنبية عموما جاءت ردة الفعل المتطرفة على صعيد المروق على فنون عصر النهضة في البداية التي غادرت اعمال عمالقتها ليوناردوا دافنشي ومايكل انجلو, رافاييل, غويا, وفان كوخ وماتيس ومانيه وغيرهم من الذين استهوتهم رغبة كسر جميع انواع المحددات المحذورة التي تجعل من اللوحات الفنية استنساخا فوتغرافيا للواقع الذي يماليء توجه اللاهوت الديني في خدمة الطبقات الارستقراطية التي كانت تتطّير من مفهوم ان يكون الادب والفن للعامة من الناس وتحارب هذا التوجه بضراوة في رشوة الطبقة الارستقراطية والملوك غالبية الادباء والفنانين في العصور الوسطى وعصر الانوار والنهضة.. كي يكون جل اهتمامهم تنفيذ رغائب الطبقات الارستقراطية والغنية. فكان ان ظهر تبشير كاندنسكي في التجريد الفني التجريدي إيغالا غير مسوّغ في دفن رغبة ان يكون الفن في خدمة العامة فظهرت السريالية الفنية في الرسم لدى بيكاسو وسلفادور دالي وآخرين غيرهما فيما اطلق عليه فن المفهوم متماهية مع تجريدية الشعر من خلال تحطيم النسق اللغوي الدارج التي كان تزعمها اندريه بيرتون في مقولته الشهيرة القصيدة الشعرية يجب ان تكون حطاما للعقل.

علي محمد اليوسف/ العراق