عبد الغفور روبيل
يعد استخدام ضمير الأنا في الأدب من أكثر الأساليب السردية شيوعًا في الروايات والقصائد والمقالات. لكن غالبًا ما يقع القراء في فخ الخلط بين السارد والكاتب، فيظن البعض أن الضمير المتكلم في النص يعني بالضرورة أن الكاتب يتحدث عن نفسه وعن تجاربه الشخصية. هذا الفهم رغم شيوعه، فإنه يغفل الطبيعة الأدبية والفنية لاستخدام ضمير الأنا كأداة سردية تستخدم لتحقيق أهداف فنية ومعرفية، بعيدا عن كونه انعكاسا مباشرا للكاتب وحياته.
في الواقع يمكننا التمييز بين “الأنا السردية” في النص الأدبي و”الكاتب الحقيقي”، فالأنا السردية هي الصوت الذي يروي الأحداث من وجهة نظر شخصية معينة، قد تكون خيالية تمامًا أو تتبنى مواقف لا تعكس بالضرورة رؤية الكاتب أو حياته الخاصة. لذا سنتناول في هذا المقال كيفية استخدام ضمير الأنا في الأدب وكيف يمكن أن يكون أداة فنية مهمة في البناء السردي بعيدا عن السيرة الذاتية للكاتب.
الأنا السردية: بين الحقيقة والتخييل
عندما يستخدم الكاتب ضمير الأنا في نصه، لا يعني ذلك بالضرورة أنه يعبر عن نفسه أو عن تجاربه الشخصية، بل في كثير من الأحيان، يكون الضمير الأنا وسيلة للسارد ليتبنى وجهة نظر شخصية أخرى، أو ليعبر عن فكرة، أو رؤية فكرية يتبناها النص. هذا الاستخدام يمنح النص بعدا إنسانيا قويا، حيث يسهم في تقريب القارئ من الشخصيات والأحداث، ويجعله يعيش التجربة السردية بشكل مباشر.
على سبيل المثال، في “البحث عن الزمن المفقود” لِـ مارسيل بروست، يستخدم السارد ضمير الأنا ليحكي قصة الراوي الذي يبدو قريبا جدا من حياة الكاتب، لأن الرواية تحتوي على عناصر سير ذاتية. لكن رغم ذلك لا يمكننا أن نقول إن الرواية هي سيرة ذاتية “بروستية”، بل هي عالم أدبي يمزج بين الواقع والخيال. فالراوي في الرواية ليس مجرد نسخة عن الكاتب نفسه، بل هو شخصية معقدة تتبنى مواقف وآراء قد تختلف عن مواقف الكاتب الحقيقية. كل هذا يفسر استخدام بروست “الأنا السردية” ليس كمرآة لتجربته الخاصة، بل كأداة لخلق تجربة إنسانية شاملة ومعقدة تُتيح له استكشاف مواضيع الزمن والذاكرة والحياة الاجتماعية.
نجد كذلك في “مذكرات (أو رسائل) من تحت الأرض” للروائي الروسي فيودور دوستويفسكي أن ضمير الأنا يُستخدم لرواية قصة شخصية متشائمة ومعزولة اجتماعيا، فالراوي الذي يعبر عن أفكار فلسفية عميقة حول الوجود والمجتمع، قد يظن القارئ أنه تمثيل لوجهة نظر الكاتب نفسه، ولكن الحقيقة أن هذه الشخصية هي أداة نقدية بالدرجة الأولى، فالراوي في هذه الرواية ليس “دوستويفسكي” نفسه، بل شخصية متخيلة تنطق بأفكار فلسفية تطرح أسئلة عن الحياة والمجتمع. وهكذا يمكن القول أن ضمير “الأنا” في النصوص الأدبية يمكن أن يكون وسيلة لبناء شخصيات تمثل أفكارًا ومواقف تختلف عن تلك التي يتبناها الكاتب شخصيا.
وفي الأدب العربي، نرى أن توفيق الحكيم في روايته “يوميات نائب في الأرياف” استخدم ضمير الأنا في بناء شخصية القاضي الذي يروي الأحداث من وجهة نظره، وعلى الرغم من أن الرواية قد تتضمن بعض الآراء التي قد تتفق مع أفكار الحكيم، إلا أن السارد يظل شخصية مستقلة داخل النص، ولا يمكن اختزاله في الكاتب نفسه. هذه التقنية تمنح القارئ فرصة لرؤية الأحداث من زاوية أخرى، بعيدًا عن الانطباع السطحي الذي قد يربط بين السارد والكاتب.
أما نجيب محفوظ في روايته الشهيرة “اللص والكلاب”، فقد استخدم ضمير الأنا من خلال شخصية “سعيد مهران”، اللص الذي يسعى للانتقام. في هذه الرواية تبدو القضايا الاجتماعية والسياسية مطروحة من خلال الشخصية، التي تُظهر معاناة الفرد في المجتمع. ورغم ذلك لا يمكن القول إن سعيد مهران هو نجيب محفوظ نفسه؛ لأن شخصية مهران هي شخصية متخيلة، ولا تعكس بالضرورة رؤية الكاتب، بل هي أداة فنية تتيح للكاتب معالجة قضايا اجتماعية مهمة من خلال شخصية محورية تجسد هذه القضايا.
الضمير الأنا كأداة فنية :
عندما يستخدم الكاتب ضمير الأنا، فإنه يخلق تواصلا مباشرا مع القارئ
من خلال هذه الأمثلة، يتضح أن استخدام ضمير الأنا لا يعني دائمًا أن الكاتب يتحدث عن نفسه، بل هو أداة فنية تتيح له التعبير عن أفكار وآراء مختلفة من خلال شخصيات متعددة تتراوح بين الخيالية والواقعية، هذه التقنية تمنح الكاتب حرية في تجسيد مواقف مختلفة وتجربة وجهات نظر متباينة دون الحاجة إلى أن تتطابق مع أفكاره الشخصية أو تجاربه الحياتية.
عندما يستخدم الكاتب ضمير الأنا، فإنه يخلق تواصلا مباشرا مع القارئ، مما يضفي على النص عمقا نفسيا ويجعله أكثر تأثيرًا. هذا لا يعني بالضرورة أن النص سيكون سيرة ذاتية، أو أن “الأنا السردية” هي انعكاس مباشر للكاتب، بل يعني أن ضمير الأنا هو أداة للسرد، تمنح النص بعدًا إنسانيًا يعزز من قوة التجربة الأدبية.
مما يجعل ضمير المتكلم “الأنا” يحتل موقعًا محوريًا في الممارسات السردية الحديثة، ليس فقط بوصفه شكلا من أشكال التعبير عن الذات، بل كأداة فنية تتعدد وظائفها وتتشابك مع بنية النص ودلالاته، حيث تُظهر التجربة السردية، منذ تحولات الخطاب الأدبي الحديث، كيف أصبح حضور “الأنا” داخل النص علامة على وعي جديد بالذات، وبالكتابة كفعلٍ يشتغل على تخوم الحقيقة والتخييل، وعلى جدلية الهوية والقناع.
رغم ما توحي به “الأنا” من إحالة مباشرة إلى ذات الكاتب، فإن المقاربة النقدية الحديثة تفكك هذا الانطباع الأولي، لتكشف أن الأنا في النص ليست دائمًا ذاتًا واقعية، بل هي غالبًا “ذات مُبنى” تُنتج داخل النص، وتخضع لقوانين الخطاب الروائي أو الشعري. فالسارد بضمير المتكلم لا يُفهم بصفته مرآة للكاتب، بل بوصفه ذاتًا سردية تتموضع داخل العالم المتخيل، وتؤدي وظيفة فنية محددة، وبالتالي يسهم ضمير الأنا في تشكيل هوية سردية تتكون تدريجيًا من خلال الفعل الحكائي ذاته. فالشخصية الساردة لا تُمنح هويتها من خارج النص، بل تصير ذاتًا عبر التذكر، والتأمل، والتفاعل مع العالم، والآخرين، والزمن. وهذه السيرورة تُضفي على ضمير الأنا طابعا ديناميكيا، يجعله مجالا لتوليد الأسئلة أكثر من تقديم الإجابات.
القارئ بوصفه شريكا تأويليا في تشكيل دلالة الأنا السردية :
القارئ المتأمل يجب أن يُميّز بين الأنا السردية في النص وبين الكاتب الحقيقي
من المهم أن يدرك القارئ أن ضمير الأنا في الأدب ليس مجرد صوت للكاتب، بل هو تمثيل فني لشخصيات وأفكار قد لا تعكس بالضرورة حياة المؤلف، لذا يجب أن يتعامل القارئ مع “الأنا السردية” كما هي: على أنها أداة فنية في خدمة النص من جهة، وتُستخدم من جهة ثانية لتحقيق أهداف أدبية وفكرية، ولا ينبغي اختزالها في سيرة ذاتية للكاتب.
فالقارئ المتأمل يجب أن يُميّز بين الأنا السردية في النص وبين الكاتب الحقيقي، أي النظر إلى السياق الأدبي والسردي للنص، وأن يقرأه باعتباره جزءًا من عالم فني متكامل، لا باعتباره انعكاسًا لحياة الكاتب الشخصية.
لا تُختزل الأنا السردية في مجرد صوت ذاتي يبوح بخبرة ما أو يعيد سرد وقائع ذات طابع اعترافي أو تخييلي، بل إنها تُبنى وفق استراتيجية خطابية تُخفي بقدر ما تُظهر، وتُوجّه بقدر ما تُوهم بالصدق، ومن ثم فإن فهم هذه الأنا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر قارئ متورط في عملية التأويل، قارئ لا يكتفي بتتبع السرد، بل يُمارس فعلاً نقديًا يفكك العلاقة المعقدة بين الذات الكاتبة والذات الساردة والذات المروية.
حيث يشتغل ضمير الأنا في النصوص السردية بوصفه آلية مزدوجة: من جهة، يضفي طابعًا ذاتيًا حميميًا على السرد، ومن جهة أخرى، يُقيم مسافة خفية بين السارد وحقيقته المرجعية. هنا يتجلى دور القارئ في التمييز بين “أنا الكتابة” و”أنا القول”، أي بين ما يُعرض سرديًا وما يُقصد دلاليًا، هذه المسافة لا تُفهم إلا من خلال قارئ يعي أن الأنا ليست شفافة ولا مباشرة، بل تُعاد صياغتها داخل شبكة من التمثيلات والتخييلات.
كما أن الأنا السردية، في كثير من النصوص، تُستثمر بوصفها أداة بلاغية لخداع القارئ أو توريطه، عبر تكسير أفق انتظاره أو الدفع به إلى إعادة النظر في بنية الخطاب وفي حدود الصدق السردي، وهنا لا يكون القارئ مجرد مستقبل للرسالة، بل مؤوّل فاعل، يدخل في حوار جدلي مع النص، ويتجاوز مستوياته الظاهرة ليعيد إنتاج معناه انطلاقًا من ثقافته، ووعيه، وتجربته القرائية.
وتزداد أهمية دور القارئ في النصوص التي تتداخل فيها مستويات السرد الذاتي، حيث تتقاطع الذاكرة مع الخيال، ويضطرب الخط الزمني، وتغدو الأنا الساردة مجالاً لتعدد الأصوات وتنازع المرجعيات. في مثل هذا السياق يكون القارئ مدعوًا لإعادة بناء خريطة السرد، وربط العلامات المتناثرة، واستجلاء منطق التكرار والانزياح والاختزال، في سبيل الإمساك بجوهر الأنا بوصفها كيانا لغويا متحولاً لا كينونة ثابتة.
من هذا المنطلق، فإن القارئ النقدي لا يقتصر دوره على الاستقبال، بل يتجاوز ذلك إلى ممارسة سلطة تأويلية تنتج الأنا السردية في كل قراءة جديدة، فهو لا يكتفي بفهم “من يتكلم؟”، بل يسائل “لماذا يتكلم بهذه الطريقة؟”، و”كيف يتشكل المعنى من خلال ما يُقال وما يُسكت عنه؟”، وهكذا تتأسس الأنا السردية داخل فعل القراءة ذاته، باعتبارها ذاتًا متخيلة، لا تُكتشف، بل تُبنى باستمرار.
في الختام، يُعد ضمير الأنا في الأدب أداة سردية قوية تستخدم لتحفيز التجربة الإنسانية في النص، إلا أنه لا ينبغي أن يُفهم كمرآة لتجربة الكاتب الخاصة، بل كأداة فنية تسمح له بالتفاعل مع القارئ من خلال شخصيات وأفكار متعددة، وبالتالي من واجب القارئ أن يتعامل مع “الأنا السردية” كجزء من بناء النص الأدبي ويعطيها الأبعاد الفنية التي تستحقها، بعيدًا عن الفهم السطحي الذي يربطها بالكاتب شخصيًا.